أحياناً قد يصاب المرء الحصيف بنوع من حالة اللاوعي والإنكار والتخلي عن مايملك من خزين المعرفة حول حدث معين ، بفعل تأثير آلة الاعلام وحملات الضخ المعلوماتي المزيف ، حتى يبدأ البعض بتصديق مايقال وينشر وان كان مغايراً لما يعتقد ويرى !!!
فكيف الحال بتأثير ذلك على الغالبية العظمى من الناس ممن يشكلون الطبقة غير المحصنة كما يقال ؟؟؟
وحديثنا يدور عن الديمقراطية في العراق التي يجادل البعض حولها سياسياً واعلامياً ، ويبشر بها على انها نامية متطورة ومتصاعدة ، متحججاً بدعوى أن ( شتم وسب وقذف ) أشخاص في السلطة يمثل اعلى درجات الممارسة الديمقراطية في العراق ، وهي الممارسة التي كان يفتقدها الناس قبل الاحتلال ؟؟؟
وكأن الديمقراطية كنظام شعبي حضاري في ممارسة السياسة والحكم قد وجدت لتحقيق هذه الغايات الشاذة والتي لها اسبابها ومقدماتها ... !!!
لنعود ونتسائل هل إن العملية السياسية التي أسسها الامريكان ، ويقودها الايرانيون ، عملية ديمقراطية فعلاً مثلما يدعي من أنشأها ، ومن يشترك بها من أحزاب وكيانات وأشخاص ؟؟؟
وهل إنها حقّقت شرطاً واحداً من شروط الممارسة الديمقراطية مقارنة بالحد الأدنى مع مايجري في أكثر بلدان العالم تخلفاً ؟؟
وللإجابة على هذا التساؤل علينا أولاً ، أن ندعو لمتابعة الساحة السياسية الدولية ، وما يجري فيها من مناقشات حول هذا الموضوع ، وسيجد المتابع النقد المتزايد من قبل السياسيين والمفكرين في مختلف دول العالم لهذه العملية ، ورفضهم المتزايد لسياسة تصدير الديمقراطية بالقوة أساساً !!!
أما في العراق فدعونا نتوقف طويلاً أمام هذه ( الديمقراطية ) التي فُـرضتْ خارج حدود قيم وأخلاق وظروف وتاريخ العراقيين ، ولو أحصيْنا نتائجها ومخلفاتها فسنجد ...
- في ظلها تُعقد الصفقات السرية والعلنية لتبادل الادوار وتوزيع الحصص في السلطة والمال ، وتباع المناصب الوزارية والبرلمانية في مزاد علني دون خجل أو إعتبار لقانون أو رادع من ضمير ، مع إتهامات بين البائع والمشتري وفضائح علنية لم يشهد لها العالم مثيلاً في أسوء مراحل تاريخه سواداً وانحطاطاً.
- أفرزت مجموعة من السراق والكذابين والمجرمين وأصحاب السوابق وسلّطتْهُمْ على حكم العراق ، نهبوا ثروة العراق أمام أنظار العالم وبطريقة منظمة مما تسبب بإرتفاع خطير في معدلات الفقر والجوع والبطالة لم يبلغها العراق من قبل حيث بلغت نسبة المواطنين تحت خط الفقر ٥٤ ٪ ، وإرتفع معدل البطالة في العراق اكثر من ٤٨ ٪ من الايدي العاملة .
- في ظل هذه ( الديمقراطية ) يتم يومياٌ قمع الحريات العامة والخاصة ، والتي طالما تغنوا بالدفاع عنها وأتخذوا منها واحدة من مبررات وحجج الغزو والإحتلال ، فبإسمها يُعتقل المتظاهرون السلميون ويتم تعذيبهم وقتلهم أمام وسائل الاعلام والرأي العام العربي والدولي ، حتى إمتلأت السجون السرية والعلنية بالمعارضين السياسيين وأصحاب الرأي والأبرياء من الناس لمجرد المطالبة بحقوقهم في الأمن والخدمات وشروط العيش الكريم . وفِي آخر تقرير لمنظمات حقوقية عراقية ودولية تم الكشف عن مجزرة تعرض لها أكثر من ٢٨ الف معتقل في اربعة سجون علنية فقط من بين عشرات السجون وهي سجن الناصرية والتاجي وبعقوبة والسليمانية ، يعانون من الجوع والإهانة وأمراض خطيرة ودون رعاية أو علاج .
- كما وإن من نتيجة العملية الديمقراطية الفاشية ، تم قتل أكثر من مليوني عراقي ، وتشريد ونزوح ولجوء أكثر من نصف العراقيين داخل العراق وخارجه هاربين من الملاحقة والاعتقال والموت والحرمان .
- وفِي ظلها تحوّل العراق من دولة مستقرة ذات مؤسسات يأمن فيها المُواطن على نفسه وعرضه وماله وعمله ، ويتمتع بحقوق الانسان الاساسية في مستوى جيد من التعليم والصحة والعيش الكريم ، الى ساحة من الفوضى والإرهاب والقتل المجاني . وبات دولة فاشلة لايحكمها قانون أو نظام ، تنتهك فيها الأعراض والقيم والحقوق ، وتتحكم فيها ميليشيات مسلحة وأحزاب وكتل وعصابات يقودها تحالف طائفي فاسد ، تختطف الناس وضيوف العراق وتبتزهم في وضح النهار وامام الرأي العام !!!
- هذه الديمقراطية العجيبة ، ( ديمقراطية الشتم واللطم ) ، قد هيّئت البيئة لظهور فئتين إرهابيتين منبوذتين مجرمتين ، هما فئة الطائفية المتخلفة المتمثلة بالميليشيات والعصابات المرتبطة بأحزاب السلطة وإيران ، وفئة التنظيمات المتطرفة المتمثّلة بداعش والقاعدة ...
- العملية السياسية ( الديمقراطية ) هيّئت البيئة لإنتشار آفة الفساد بكافة أنواعه المالي والسياسي والاداري والاخلاقي ...
، هذه الافة التي إبتلعت ثروة العراق وفككت المجتمع ، ونسفت منظوماته الاخلاقية والمادية والمعنوية ، وحطمت أواصر المحبة والاخوة بين افراده ... إن المثلث الخطير ، مثلث الفساد والظلم والاجتثاث ، الذي إستندت عليه العملية السياسية يمثل أعلى درجات انتهاك حقوق الانسان ، وهو الدافع الأساسي وراء ظهور حركات الارهاب والجريمة والتطرّف كما وإنه السبب الذي يقف وراء سقوط كل الدول والحضارات التي تُبتلى بمثل هذه الظواهر .
ولعل من أبشع ما يتعرض له العراقيون في ظل النظام الطائفي الفاشي المتفسخ ، هو تنفيذ مخطط خبيث من التجهيل والإذلال والافقار المادي والمعنوي والاخلاقي والمعرفي ، يجري تنفيذه بدقة وعناية من قبل أجهزة مختصة تهدف لكسر هيبة العائلة والدولة ، وتخريب المجتمع وزرع الكراهية والخوف والشك بين أفراده ، وتبغي إضعاف ارادة الناس وتجريدهم من وطنيتهم وإنسانيتهم ، وقلب المفاهيم والقيم والأفكار الوطنية التي نشأوا عليها ، حتى بات الكثير منهم لايستطيع التمييز بين شريف ومنحط ، نزيه وسارق ، مخلص وخائن ، فضيلة ورذيلة ، وبين حق وباطل ، ووصلوا لدرجة عالية من الفقر بكل أنواعه وتغييب الوعي والامية والتخلف .
فعندما قتلوا وأهانوا العلماء والمفكرين وطردوا الكفاءات الوطنية وحرموا العراق من رجاله ونسائه المخلصين ، وأمعنوا في نشر مظاهر الشعوذه والدجل والنفاق ، وجعلوا الحزن والبكاء واللطم هو القانون السائد والانجاز الاكبر ، فإنهم ينفذون بذلك افكار الصفوية الجديدة التي ولدت في دهاليز قم وطهران ... مستندين بذلك لفتاوى رجل دين لايُعرَف عنه حديث أو خطاب أو لقاء ، سوى إنه يصدر الاحكام في شؤون السياسة والحكم في العراق وهو شخص غريب عن البلاد وأهلها ، لم يكن عراقيا يوماً ، ولم يمتلك الجنسية العراقية بل وينتمي لدولة معادية للعراق !!
وبذلك ليس من حقه وطنياً وقانونياً وإنسانياً بل وحتى دينياً في أن يصدر أحكاما ويتدخل في العمل السياسي ، وتحديد المستقبل في بلد هو ضيف عليه !!
واذا كان هناك من يجادل ويقول إنه مرجع للشيعة في العالم ، ومن حقه أن يفتي فيما يراه ، فإن ذلك قد يصح عندما يصدر أحكاماً في شؤون الطائفة وفي حدود الشرع والفقه ، وليس التدخل في شؤون السياسة في بلد كالعراق يتميّز بتنوع ديني وطائفي وقومي فريد !!
هذا اذا ما أخذت الامور بنية حسنة ، ووضعت في مجراها الطبيعي دون الإشارة لما يدور حوله من شبهات وارتباطات باتت مكشوفة للقاصي والداني ، ولقد سمع العالم كله عن دوره المتواطيء والمتعاون مع المحتلين عندما أصدر فتواه الشهيرة في تعطيل ومنع نصف الشعب في وسط وجنوب العراق من مقاومة الاحتلال عام ٢٠٠٣ !!!
وفتواه الأخيرة التي دعا فيها الناس للإنخراط في ميليشيات مسلحة فاقت داعش بجرائمها وارهابها وانتهاكاتها ، وهي المسؤولة عن الفوضى والفساد وخطف الابرياء وابتزازهم وقتلهم !!!
وبذلك فإن هذا الشخص ومن معه ومن يؤيده وينفذ فتاواه من جماعات وأفراد يتحملون المسؤولية القانونية والتاريخية الكاملة عن كل ما يتعرض له العراق من كوارث وأزمات .
هذه الوقائع وغيرها ألكثير ... تؤكد إن مايجري في العراق منذ ٢٠٠٣ ولحد الان لاعلاقة له بأية قيمة من قيم الحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الانسان ، وأن أي متابع يمتلك قليلاً من المصداقية يستطيع أن يصف مايجري بأنه ( مهزلة ) بكل ماتعني هذه الكلمة من معنى ... بل إنه مجزرة ترتكب يومياً بحق شعب كريم ، وإهانة كبيرة لبلد عريق عَلَّمَ الانسانية الكثير !!!
الخميس ١ شعبــان ١٤٣٨ هـ الموافق ٢٧ / نيســان / ٢٠١٧ م