كل بقعة من العالم خصوصا ذات القيمة الستراتيجية تتعرض بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لتغييرات جوهرية حتى في التسميات، ولئن طرح فرانسيس فوكوياما المفكر الامريكي فكرة ساذجة كما وصفناها عند طرحها مباشرة عن )نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية الامريكية( لكنها كانت صحيحة في جانب منها وهو التسميات والجهد الستراتيجي الامريكي المدعوم صهيونيا لتغيير الاسماء وفرضها وفقا لما ساد في حقبة الاستعمار الاوربي من
تسميات كانت (المركزية الاوربية) فرضتها على العالم كجزء من خطط اعم الا ان نضال حركات التحرر الوطني كنسها والقاها في مزابل التاريخ ونحت او اعاد التسميات الصحيحة المنسجمة مع واقع الامم الثائرة . والان الاستعمار الغربي اخذ يعود الى مزابل التاريخ ليستخرج منها تسميات ماتت ويريد احياءها ومنها مصطلح (شمال افريقيا ) والذي يريد فرضه محل الاسم الطبيعي وهو المغرب العربي .
ابتدع الاستعمار الاوربي خصوصا البريطاني والفرنسي تسميات زرع فيها اهدافه الستراتيجية ومنها مصطلح (الشرق الاوسط) و(الشرق الادنى) و(شمال افريقيا) والتي اراد احلالها محل التسميات التاريخية وهي الوطن العربي والامة العربية والمشرق العربي والمغرب العربي والتي تركت مياسيمها على العالم في القرون الوسطى بتحول بغداد ودمشق الى عاصمتين للعالم في العهد العباسي والعهد الاموي ومنها تحول الاندلس الى منارة اوربا في فترة سيادة العرب وتأكيد هويتهم القومية عالميا واقليميا .
من مزابل التاريخ انتقى الاستعمار الاوربي تسميات واراد فرض حدود على الوطن العربي بعد انهياره ووقوعه تحت سلطة التخلف والتشرذم ومنها تسمية (شمال افريقيا ) والتي كانت التسمية الرسمية في قاموس الاستعمار لوصف الاقطار العربية في المغرب العربي والذي تعرض بحكم مجاورته لاوربا لمحاولات محو هويته العربية واحلال هويات فرعية سابقة على هوية الامة العربية الواحدة خصوصا وان الفرنسة في المغرب العربي لم تقتصر على تغيير اللغة واستبدال العربية بالفرنسية بل تعداها ، وهنا مكمن الخطر الاكبر ، الى ايقاظ ودعم الهويات السابقة للهوية العربية والتي ظهرت قبل الاف السنين وليس مئات السنين ، من جهة والى تزوير هوية السكان الاصليين للمغرب العربي الذين عاشوا فيه قبل الفتح الاسلامي بقرون والاف السنين مثل الامازيغ ومحاولة نفي صلتهم باصلهم التكويني العربي اليمني من جهة ثانية .
فماذا جرى حقا ؟ وما الذي يجري منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في الوطن العربي تحديدا ؟
1-ابرز ما يلاحظ هو الجهد الاستعماري الواضح جدا لابتداع هويات يراد لها قسرا ان تكون متعارضة مع العروبة مع انها ليست كذلك مثل الامازيغية في المغرب العربي وهي خطة تبنتها فرنسا وبدعم صهيوني كبير.
2-التناقض الفاضح في خطة الغرب يبدو جليا عندما نلاحظ انه في الوقت الذي يدعم هويات اصطناعية ويحاول فرضها بالقوة مثل الهوية الامريكية الاكثر زيفا وبعدا عن واقع الحال والتي لم تتبلور بعد بشكل هوية ، والصهيونية وكيانها الذي فرضته بريطانيا وقوى الاستعمار الغربي ، فانه عمل على تشويه التاريخ الحقيقي لاجل طمر الصلات العضوية بين العروبة وفروعها المغاربية الاصيلة ومنها الامازيغية لمنع قيام كيان عربي واحد كبير يمتد من موريتانيا الى اليمن وهو كيان لو انبثق سيحدث تغييرات ستراتيجية جوهرية ويفسد مخططات استعمارية وصهيونية محور جهدها هو غزو الاقطار العربية بكل ما تعنيه كلمة الغزو من معان متعددة اقتصادية وعسكرية وثقافية .
3-ابرز المفارقات هي ان الغرب يدعم ويحرض الاقليات التي عاشت في الوطن العربي بحرية وسلام على التمرد مثل الاقليات القومية والدينية والطائفية ويعمل على تحويلها الى كيانات سياسية مستقلة اي دول رغم انها لاتملك مقومات الكيان السياسي ، وهو ما نلاحظه الان بوضح كامل في العراق وسوريا ، بينما يبذل جهدا جوهريا لتفتيت الامة الاصيلة والاقطار التابعة لها رغم انها اصيلة وطبيعية كالامة العربية والتي تتكون من دول معترف بها وتستند على مقومات طبيعية متكاملة . وهذا التناقض بين عمليتين احداها زائفة يراد لها ان تكون طبيعية واخرى طبيعية يراد تزييفها ، يكشف حتى الجذور الاهداف الحقيقية لكافة طروحات الغرب والصهيونية تحت اغطية التسميات والكيانات .
4-الغرب في الوقت الذي يدعم انفصال الاقليات في الوطن العربي ويغذي تمردها على وطنها فانه يحرم الاقليات فيه من حق تقرير المصير بل يمنعها من اعتبار لغاتها مستقلة عن اللغات الاوربية السائدة ومن المحرومين من الحقوق الباسك والكتالونيين في فرنسا واسبانيا والاسكتلنديين في بريطانيا ، وتشترط كافة دول اوربا وامريكا اتقان لغاتها الوطنية كشرط لمنح الجنسية بينما يهاجم العرب اذا ارادوا تنمية لغتهم وثقافتهم ، وهذا التناقض يكشف الغاية الاستعمارية من دعم الاقليات في الوطن العربي وهي تفتيت الاقطار العربية واضعافها ومنع توحدها وتقدمها .
5-مكونات ماقبل الامة اندثرت قبل مئات السنين في الوطن العربي وساد مفهوم الامة العربية الحضاري والذي يعني ، وقبل كل شيء ، ان الامة ليست مفهوما عنصريا وانما هو مفهوم حضاري ثقافي يختار الانسان فيه هويته بحرية ويغرسها في وعيه وثقافته عبر اجيال وقرون والفيات حتى تصبح هويته راسخة وتزول هويته القديمة ، لهذا نرى العربي اسمرا واسودا وابيضا في تأكيد لا يقبل الشك على ان مفهوم العروبة مفهوما حضاريا وليس عنصريا . من هنا فان اثارة الغرب والصهيونية لقضية هويات ما قبل العروبة في الوطن العربي عموما والمغرب العربي خصوصا ليست اكثر من جزء رئيس من خطة تدمير الهوية العربية لاجل تمكين الهوية الاستعمارية الصهيونية من السيطرة والتوسع على حساب العرب الذين خطط لاضعافهم عبر شرذمتهم عنصريا وطائفيا وبث الصراعات المصطنعة بينهم ، اضافة للاهداف الاستعمارية الغربية التقليدية .
6-ان اهم ملاحظة هنا هي ان خطة التعريب في المغرب العربي والتي بدات في الخمسينيات من القرن الماضي مع انتصار الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي لم تكن عملية ازالة لهوية وطنية سابقة على العربية بل استعادة للهوية الوطنية التي اراد الاستعمار الفرنسي محوها بفرض اللغة الفرنسية والثقافة الفرنسية على شعب عربي مسلم بالقوة والاهاب، فهي عودة للاصول وليس شق طريق جديد مناقض لاصل الهوية المغاربية .
7- الحقائق التاريخية واللقيات الاثارية والمقارنات اللغوية تثبت بان الامازيغ اصولهم يمنية عربية وانهم ثمرة هجرات ما قبل الاسلام بفترات طويلة وهو ما اعترف به رموز الامازيغية ومفكريها الكبار مثل المغربي محمد عابد الجابري الذي قال مباشرة وبصورة بالغة الوضوح في مؤتمر علمي في اليمن ( جئتكم من المغرب امازيغي اصله اليمن ) وعثمان سعدي الجزائري وهو امازيغي ايضا الذي الف كتابا واعد بحوثا اثبت فيها عروبة الامازيغ ، وهذه الحقائق تدحض النظريات الاستعمارية الاوربية الصهيونية التي تقيم دعوتها لتقسيم المغرب العربي وانكار عروبته على اساس انه امازيغي وليس عربيا .
8-الملاحظة الجوهرية التي لابد من الانتباه اليها هي ان مصطلح (شمال افريقيا) لا يعبر عن هوية بل عن منطقة جغرافية فقط ، وعندما نستخدم المقاييس الجغرافية لوصف منطقة ما فاننا نهتم اولا وقبل كل شيء بالمكان وليس بالسكان وبالهوية ، والمكان يخفي الهويات اذا اقتصر الامر على التركيز عليه فقط ، وهنا مكمن الهدف الاستعماري من استخدام تسمية شمال افريقيا والشرق الاوسط والشرق الادنى : فالمطلوب هو انكار هوية الشعب العربي الساكن لهذه المكان الجغرافي او التعتيم عليها او حتى انكار وجوده ! لهذا فحينما نقول شمال افريقيا نزرع ، او للدقة، نعيد زرع فكرة استعمارية وهي ان المكان المقصود بلا هوية جامعة تستحق الدفاع عنها فتمر عملية التعتيم وتسهل مهمة الاستعمار في دعم هويات زائفة تثير الصراعات الدموية وتمهد لتقسيم الوطن وانكار ما يوجد فعلا في المكان الجغرافي من هويات حركية وفعالة ، وهذا ما لجأ اليه (وعد بلفور) في تقديم فلسطين لليهود بقوله (ان فلسطين ارض بلا شعب واليهود شعب بلا ارض ) مع ان الارض او المكان كان مزدحما بسكانه العرب لكن الاستعمار تجاهل الواقع لاجل تحقيق اهداف استعمارية .
والا لم مثلا لم يسمي المؤرخون الاوربيون اسكندنافيا ب(شمال اوربا) على غرار ( شمال افريقيا) واصروا على وصفها بمصطلح اسكندنافيا ؟ وهذا ينطبق على جنوب اوربا فلم يستخدم المكان بدل تسميات الامم الاوربية التي سكنته . وهذه الحقيقة تقدم المزيد من حقائق المنطق والواقع التي تكشف الدافع الاستعماري وراء التسميات : عندما تكون مني فانت لست مكانا جغرافيا فقط بل انت هوية اولا وقبل كل شيء ، اما عندما تكون عدوي او هدفي في الاستعمار فانا اجردك من الهوية الانسانية وتصبح مجرد مكان بلا هوية محددة وواضحة المعالم كي تسهل عملية استعمار مكان بلا سكان او هوية .
9-معركتنا الان من اجل حماية الهوية القومية العربية ليست في العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان فقط بل هي شاملة لكل قطر عربي وان كانت تتخذ اشكالا اولية مختلفة لكن عندما تتطور الخطط المعادية تظهر السمات المشتركة لكافة ازماتنا وكوارثنا ، والمغرب العربي يتعرض لبدايات الكوارث واحدى اهم مقدمات الكارثة هي تغيير التسميات الاصلية المطابقة لواقع الهوية الفعلية وانكار وجود هوية عامة وتشجيع الكيانات الزائفة ، وحينما يتم ذلك تبدأ الخطوة التالية وهي اشعال الحرائق وانشاء بحيرات الدم ! اليس هذا ما حصل في العراق وسوريا حيث بدء الجهد الاستعماري بزرع بذور الكوارث منذ عقود ونميت تلك البذور كي تصل مرحلة الاثمار لكوارثنا الحالية ؟
ما لم نحافظ على هوية المغرب العربي الاصلية وهي هوية حضارية وليس عنصرية فاننا نتقدم بثبات نحو كوارث لا تقل خطورة عن كوارث العراق وسوريا واليمن وليبيا . واول خطوات حماية المغرب العربي من كوارث التشرذم هي التمسك بتسميته الاصلية : المغرب العربي ، ورفض تسمية المكان لانها تفضي لالغاء وجود الانسان ، ولنتذكر ان هوية المكان يحددها الانسان الساكن فيه .
Almukhtar44@gmail.com
25-4-2017