قرأت قبل سنوات قصة امريكية بعنوان الخطايا ال13 (13 sins) والقصة رمزية حولت الى فيلم تدور حول كيفية توريط الانسان بموقف كان يرفضه ولا يتخيل انه سوف يتبناه في يوم ما وتحت اي ظرف لكنه يجر تدريجيا وبدون لفت انتباهه الى الخروج عن كل قناعاته ! تبدأ القصة باغراء افراد درست حالتهم جيدا مسبقا وعرفت مشاكلهم العائلية
والشخصية بالتفصيل خصوصا الحاجة للمال فوضعت جوائز يسيل لها اللعاب بلا جهد كبير او حتى صغير ولا مخاطرة او تنازل ، وطبقا للخطة فكلما نفذ الشخص مطلبا او رد على سؤال سهل من المطالب ال13 لا يشكل خرقا لثوابته منح مالا ضخما انزل في حساب بنكي اعد له من قبل مدير اللعبة ، لكنه يجد انه امام مطالب تزداد خطورتها قليلا وتدريجيا كي لا يشعره التغيير القليل بانه يخرج عن خطه المستقيم ! وكلما وافق زادت رصيده في البنك واصبح عامل اغراء شديد جدا خصوصا حينما يصل الرقم الى مليون دولار من حقه اخذها ولكن بشرط اكمال الاجابة على بقية الاسئلة وتنفيذ ما يطلب منه فيها ، وفي هذه المرحلة تبدأ عملية نفسية صرفة وهي الاضطراب النفسي الناتج عن ادراك وهمي انه حصل على مبتغاه المالي لذلك وباللاشعور تتحرك الانانية وتبدأ بفرض تأثيراتها القاتلة بنعومة ملمس افعى .
وبتأثير نعومة ملمس الافعى تصل الطلبات المتزايدة الخطورة والانحراف الى ارتكاب جرائم يجد تبريراتها في مخزن الانانية المقترن بحسابة الملاييني في البنك فتزداد بشاعة الجرائم عندما تصل للاقارب ويطلب منه قتل زوجته او ابنه من اجل الحصول على الملايين وعدم الغاءها ، وهنا يكون قد اصطيد تماما واصبح اسير ذاته الانانية التي تنسى كل شيء الا جشعها ، وهكذا كان التكتيك الاساس المتبع معه لاجل ضمان تحويله من خاضع لقيم ومبادئ عليا وسامية الى قاتل ولص وخائن وغدار وبلا قيم ! انه هو تقسيط الخيانة وكل عمل مناف لقيمه وتغليفه بجلد افعى الوانه جذابة وساحرة لتسهيل ابتلاع الطعم القاتل ، وجلد الافعى هو التطمينات اللطيفة له والكلام المعسول المغري والوعود التي تستجيب لاصله الطيب كي يواصل اللعبة ولا يتراجع في منتصف الطريق . لقد تساقطت تدريجيا اعمدة القيم والروادع وهو غارق في اضطرابه النفسي واهتزاز قواعد الاستقرار الفكري والاخلاقي!
في اثناء هذه العملية يفقد الانسان القدرة على التراجع لان شرط اللعبة هو عدم الانسحاب والا فقد ما تراكم من اموال ضخمة في حسابة ، ولهذا يصبح الانسان اسير الجشع ويتخلى عن انسانيته وطهارته ويصبح مستعدا لارتكاب اي عمل ومهما كان بشعا من اجل الاحتفاظ بالملايين التي حصل عليها . انها كما هو واضح وبلا لبس خطة شيطانية لا تضعها الا مخابرات متقدمة كالمخابرات الامريكية والموساد والمخابرات البريطانية وترتكز اساسا على عامل نفسي هو تعظيم الانانية تدريجيا وازاحة الغيرية الحاملة للقيم الاخلاقية والانسانية وكل ما هو نبيل وجميل كي يصبح الفرد وهو ضحية الاضطراب النفسي المصطنع مستعدا لارتكاب اي عمل مهما كان مناقضا لماضيه وتربيته ، فكيف اذا كان ناقص التربية والوعي والاخلاق اصلا كما كان حال ما سمي ب(المعارضة العراقية) وكما هي الان بعد ان حكمت ؟
هل تنفذ هذه اللعبة مع العرب ؟ نعم وهذا ما حصل بالفعل وما يحصل الان :
هذه اللعبة نفذت بعد تبني سايكس بيكو ، وكانت فلسطين ساحتها الاولى بعد تقسيم الاقطار العربية ووضع حدود لها ، فقد بدأت بالمطاليب الصغيرة والناعمة : وطن قومي لليهود المساكين المضطهدين في العالم لا يؤثر على الفلسطينيين ولا على العرب الذين لديهم اراض شاسعة جدا ، ثم جاء وعد بلفور وغزو بريطاني لفلسطين لتطبيقه لاحقا وضم الاحواز لبلاد فارس وتسميتها بايران كي تصبح لاحقا المطرقة التي تكمل عمل السندان الاسرائيلي ، وحرب عام 1948 بدعم بريطاني وغربي وتأسيس اسرائيل الغربية وتحديد مطاليبها بالاعتراف بها فقط مقابل السلام وانتهاء الحرب ، اجبار العرب على التفاوض بعد حرب عام 1967 بوعد الانسحاب الاسرائيلي من سيناء والضفة وغزة وفقا لقرار مضلل كتبه اللورد كارادون وزير الخارجية البريطاني وطبقا للعبة ارتكاب الخطايا قبله العرب دون وعي مسبق فجعل قرار 242 الذي صدر عن مجلس الامن يقول ب(انسحاب اسرائيلي من اراض عربية) محتلة وليس (الاراضي المحتلة) ، وكان ذلك هو المقتل ومسمار جحا الذي جعل المفاوضات تدور حتى الان (بانتظار وصول جودو) الذي لم يصل ولن يصل كما في مسرحية للكاتب الايرلندي صموئيل بيكيت !
بعد ذلك تحول العرب الى ضحايا ضعفاء عسكريا رغم ظهور وتعاظم المقاومة الفلسطينية واتخذت لعبة ارتكاب الخطايا وجها اخرا وهو احتواء المقاومة عبر انظمة عربية تبنت شعار المقاومة وتحرير فلسطين وزايد بعضها على الميثاق الوطني الفلسطيني كما فعل حافظ اسد ! وتم تفكيك صفوف العرب وتراجعت اسرائيل الغربية عن مطلب السلام وجعلت مطلبها الاساس تعديل الحدود ( بشكل طفيف وتبادل الاراضي مقابل دولة فلسطينية في الضفة والقطاع ) ، ثم انتقلت لعبة الخطايا الى مرحلة ضيقت الخناق على العرب حينما جاء دور مطلب (السلام مقابل السلام) واختفى مطلب ارجاع الارض المحتلة ، وتناسلت المستعمرات والعرب يتنازلون بلا توقف بينما الاسرائيلي يتنمر ويزداد اصرارا على اقامة اسرائيل التوراتية !
لا اريد المزيد من التفاصيل اذ يكفي استرجاع احداث فلسطين لنرى كيف ان العرب جروا تدريجيا لصعود سلم التنازلات عن حقوقهم وكراماتهم ومبادئهم وقيمهم تدريجيا ولم يروا انهم ينزلون لقعر جهنم الا بعد ان وصلوه بمواجهتهم لاكبر مخطط صهيوني غربي وهو الربيع العربي الذي مازال مشتعلا ويحرق الاخضر واليابس وينمي المستعمرات الاسرائيلية ويعقبها بمستمعرات ايرانية في العراق وسوريا واليمن ولبنان وبفراخ وبيوض مستعمرات ايرانية في كل دول الخليج العربي ومصر والسودان والمغرب العربي جاهزة للتحول الى ديوك ودجاج ناضج جنسيا ! ومع ذلك نجد من مازال مصرا على مواصلة لعبة الخطايا الثلاثة عشر !
ولعبة الخطايا ال13 حينما نفذت في العراق كانت البداية تبدو ( لطيفة ) ظاهريا وكانت الخطوة الهائلة ستراتيجيا ضد العراق قد هندستها نفس الجهات التي وضعت لعبة الخطايا ، وهي مخابرات الغرب الاستعماري بفرض الحصار الشامل وغير المسبوق والذي ادي الى قلب حالة العراق رأسا على عقب : فمن حالة الرفاهية والقوة والتقدم الى حالة التقشف والعجز المالي عن تمويل مشاريع التنمية العملاقة وتوفير ما يستحقه الشعب من خدمات خصوصا العجز عن توفير الدواء والغذاء المطلوبين . نلاحظ الخطورة النفسية لهذا التغيير وقبل خطوراتها المتعددة الاخرى وهي ان العراق كان يعيش قبل عام 1968 حالة مختلة تتمثل في وجود 80% من الفقراء والاميين فيه وعندما انهي الفقر والامية بعد ثورة عام 1968 وذاقت ملايين العراقيين الفقراء طعم الرفاهية والاقتدار المادي والمعنوي اعيد العراق بالحصار الى فترة ما قبل الرفاهية .
يظهر واضحا دور مهندس لعبة الخطايا وتعمده احداث تغييرات نفسية عميقة اجبارية ، فالحصار كان حالة صادمة نفسيا فحينما كانت اغلبية العراقيين تعيش حالة بائسة تعودوا عليها تكونت سايكولوجية الصبر واحيانا خنوع شرائح كثيرة للواقع المر لكنهم حينما ذاقوا الرفاهية وانتهاء الفقر اصبحت عودتهم الى الفقر والمرض والامية اكثر ايذاء لانهم تعرفوا على معنى وطعم الرفاهية وانهاء العوز والفقر والمرض ، وهذا التغيير كان مدروسا من قبل من فرض الحرب الايرانية على العراق ثم فجر ازمة الكويت وادخل شعب العراق نفق الحاجة والعوز مجددا لانه طبق نظرية اغراء خطرة وهي : عوّد الانسان على حالة جيدة واحرمه منها سوف يريد العودة اليها باي ثمن حتى لو كان ممارسة الخطايا ! وهكذا تهيأت البيئة النفسية لمرحلة اخطر.
وبعد ان يأست امريكا من احتواء العراق سلميا باغراءات كبيرة لجأت الى اعتماد العداء فجمعت ما يسمى المعارضة العراقية والزمتها برفع مطاليب مغرية مثل الديمقراطية وحماية حقوق الانسان فرأينا عدد محدودا ينخرط في المعارضة خارج العراق وقسم منها مقتنع بان مطاليبها مشروعة وليس فيها خيانة مادامت مقتصره على المطالبة بالديمقراطية وحقوق الانسان . حصل الغزو بعد ان اهتزت سايكولوجيا العراقي بصفة عامة في فترات الحربين والحصار لكن رد الفعل كان مذهلا للغزاة الامريكيين والبريطانيين والايرانيين حيث نهضت فورا مقاومة شعبية مسلحة هدمت السيناريو الاول للغزو بتعجيز الغزو عن تحقيق اهم اهدافه وهو تحقيق السيطرة التامة على العراق لاجل تحويله الى قاعدة استثمار ونهب امبريالي ، فالمقاومة منعت تحقيق هذا الهدف وغيرت كل قواعد صراع تلك المرحلة فكان لابد من اغراءات اخرى تفضي لتحييد المقاومة وتوريط من كان معارضا للغزو بسلسلة خطايا متعاقبة تزداد خطورتها تدريجيا وصولا للتلوث .
فماذا فعلت امريكا في اطار لعبة الخطايا ال13 ؟
1-سلمت العراق الى اسرائيل الشرقية مع ايحاء واضح جدا بان من الضروري تدمير ما تبقى من اركان الدولة العراقية والمجتمع العراقي بالعنف وزيادة الحرمان والمرض والامية ونشر المخدرات والتحلل الاخلاقي وغيره ونشر الفساد المنظم على نطاق واسع لضمان قتل الملايين وتهجير ملايين اخرى من العراقيين .
2-اختارت امريكا عمدا وتخطيطا حثالات العراق الاكثر تخلفا وامية وسقوطا اخلاقيا لتسلم الوزارات وعضوية البرلمان والمؤسسات الحكومية لان هؤلاء هم الاقدر على ايصال العراق الى حالة لا تصلح لعيش حتى الحيوانات فكيف تكون حال شعب ذاق طعم الرفاهية والاستقلال ؟
3-تحولت الاهداف بالنسبة للبعض من طرد الاحتلال الى التخلص من الفساد والتصفيات الطائفية والعرقية وهذا هدف كبير لامريكا .
4-ارتبط الفساد بنغول اسرائيل الشرقية اكثر من اي جهة اخرى خصوصا وان المال العراقي كان يسلم لها ووصلت المبالغ حصلت عليها ما بين 600 و800 مليار دولار والناس تراقب ما يجري بيأس تام !
5-حينما وصل الوضع الى مرحلة لم تعد تحتمل تحول الهدف بالنسبة لمن انخرط في صفوف العملية السياسية وهو يعتقد بانه يخدم العراق الى محاربة الفساد والفاسدين وتركت الديمقراطية جانبا ، ومثلما تعاون مع امريكا وبريطانيا واسرائيل الشرقية وغيرها لاجل اسقاط النظام الوطني فانه تعاون مع امريكا وغيرها لاجل القضاء على الفساد فوجد هدفا يبدو سليما ظاهريا جعله لا ييأس من مواصلة العمل ضمن العملية السياسية ، اي تحت خيمة امريكا .
ماذا حصل ؟ من كان يمثل كشفت مؤخرته بهذه اللعبة ، ومن كان جادا في محاربة الاحتلال لكنه ناقص خبرة ووعي اوصله مهندس لعبة الخطايا الى الانخراط في العملية السياسية وترك المقاومة والاعتماد على وعود امريكا بطرد اسرائيل الشرقية وصار يصلي كي ترجع القوات الامريكية ! اما الصائم فانه واصل صيامه ورفض الافطار على خمر وهؤلاء وحدهم من ينقذون العراق ! هل ترون الى اين يوصل الذكاء مقابل نتائج السذاجة او الجشع والانانية ؟
Almukhtar44@gmail.com
13-9-2017