بعد غزو العراق برزت ظاهرة تنتمي لطبيعة نغول الاحتلال وهي التبرؤ من فلسطين وقام بعضهم بزيارتها تعبيرا عن نغولته . فكيف نفهم الامر وقد ارتفعت اصوات عراقيين وعرب اخرين تتبرأ من فلسطين بل ان بعضهم وصل حد امتداح اسرائيل الغربية وشتم شعبنا الفلسطيني واتهامه بشتى التهم الحقيرة ؟
1-الحمد الله اولا وقبل كل شيء لان من فعل ذلك من الحثالات ونفايات العرب .
2-من يقول ان فلسطين هي سبب كوارثنا ويجعل من هذه الكذبة دافعا لشتم فلسطين وشعبنا فيها يمارس طريقة تفكير خنازير الحظائر فهو لا ينظر ابعد من حظيرته هذه ولا يرى ان خارجها هو الفضاء التاريخي ويتجاهل الاصول البشرية والحضارية مثلما يتجاهل وجود خطط صهيوغربية -ايرانية سابقة لاي تصرف فلسطيني او عربي لاحتلال فلسطين وغيرها .
3- ثمة حقيقتان تحددان عضوية الصلة العراقية الفلسطينية وخصوصيتها الاصيلة وهما : اولا ان من وضع كتب ربطت بالديانة اليهودية هم فرس او يهود فارس او يهود الاسر البابلي ، والثانية ان اصل الصلة العراقية الفلسطينية هو ابراهيم الخليل العراقي الاب الجيني للانبياء الثلاثة موسى وعيسى ومحمد فكيف نفهم ذلك ؟ الكتب اليهودية مثل التوراة لم يكتبها موسى بل رجال الدين اليهود الذين عاشوا في فارس فنقلو نظرياتهم من التراث الفارسي ، او من بابل اثناء الاسر البابلي ( وليس السبي البابلي)، ومن يقرأ التوراة وغيرها ويدقق في القصص الواردة فيها يجد انها استنساخ كامل من التراث العراقي بينما التراث الفارسي يشكل عنصرا اساسيا اخرا في صياغة مفاهيم سائدة في اليهودية الحالية .
من هنا فان اي دراسة للصلة الحالية بين فارس – اسرائيل الشرقية - واسرائيل الغربية لا يمكن فهمها بصواب الا بتذكر الاصول الفكرية الفارسية للكتب اليهودية .اما انتساب الانبياء الثلاثة لابراهيم الخليل فهي تجعل العراق اصل هؤلاء ونبع تربيتهم الاصلية ومن ثم فان العراق مرتبط جينيا وتاريخيا بفلسطين ناهيك عن الصلة الستراتيجية المترتبة على الصلات الجينية والتاريخية وهي ظاهرة ينفرد بها العراق من بين كافة الاقطار العربية مما يجعل مصير فلسطين وحالتها شأنا عراقيا داخليا من النواحي التاريخية واصول الفكر والتراث والانحدار البشري . وهنا ايضا لابد من تذكر حقيقة تنسف الادعاء الصهيوني الحالي بوجود قومية يهودية وهي ان اليهود اصلا عرب لان اليهودية ديانة اتت بعد الوجود القومي العربي بالاف السنين ، واليهودية بهذا المعنى ديانه وليست هوية قومية طرأت وترسخت على عرب بدليل اننا نقول بان اليهود (اولاد عمنا) وهي حقيقة لاشك فيها والخريطة الجينية المعاصرة اثبتت ذلك.
وهذه الحقائق تكشف ان علماء الصهاينة والغرب يتلاعبون بالتسميات الجينية لاجل تزوير التاريخ والانساب دعما للقصة الصهيونية مثل تلفيق واستخدام تعابير جغرافية بدل مصطلحات الهوية مثل (الاصل الشمال افريقي) و(الاصل اليهودي)...الخ وهي تعابير زائفة قصد اخفاء الاصول الحقيقية لان الرجوع الى الخلف في الزمن يثبت بان شمال افريقيا واكثر اوربا وغيرها عربية الاصول لان الخريطة الجينية اكدت بان العرب هاجروا من وادي الرافدين قبل اربعين الف عام الى اوربا وانتشروا فيها ووصلوا الى شمال اوربا وهي حقائق تثبتها اللقيات الاثرية – مقابر اسكندنافيا مثلا - اضافة للخريطة الجينية التي اكدت بان الاصول الجينية العربية تشكل نسبة تزيد على 85% من رجال اوربا الحاليين حتى شمال وسطها ، بل ان حيوانات اوربا كالابقار والماعز جلبها العرب اليها من وادي الرافدين .
بناء عليه فان فلسطين ليست قطرا شقيقا للعراق فقط كما هو حال بقية الاقطار العربية لان علاقة العراق بفلسطين تنفرد وتتميز عن علاقة كل الاقطار العربية بفلسطين بان امن فلسطين جزء لا يتجزء من الامن الوطني العراقي وليس فقط جزء من الامن القومي العربي .
انظروا للتاريخ فقط سترون ان العراق ومنذ عشرة الاف عام كان دائما توسعيا في محيطه القومي العربي والاقليمي ، ولم يكن دولة ساكنة ضمن حدودها لان وظيفة حماية الامن الوطني العراقي تفرض مواصلة توفير وتأمين بيئة الامن والاستقرار ومنع القبائل البربرية خصوصا الفارسية من الشرق والرومانية من الغرب من تهديد الوجود القومي العربي برمته ، فالحضارات العراقية وامبراطورياتها كانت تتوسع ، اي امبريالية بالمفهوم اللغوي وليس الاقتصادي ، وكانت الديناميكية الاساسية لحضارة العراق هي التحرك الخارجي وفلسطين احدى اهم حصون الامن القومي العربي وهذه القيمة ظهرت قبل الاسلام .
لنبدأ بالبابليين : لماذا تميز العراق بانه حرر فلسطين مرتين وتوج نبوخذنصر تحريره بجلب اليهود اسرى الى بابل ؟ ولماذا كان محرر فلسطين الثالث العراقي صلاح الدين الايوبي ؟ الجواب لان العراق انفرد بميزة انه حامل رسالات توسعية وليس دولة واجب منفرد فقط وهو بناء دولة وكفى ، فهو مؤسس اول حضارة انسانية معروفة وهو واضع اسس ونوايات العلوم الحديثة وهو ناشرها عالميا ولم يحتكرها داخله ،ومن العراق انحدرت كافة الديانات التوحيدية لان ابراهيم الخليل عراقي من اور ، بهذا المعنى العراق قطر رسالي ينشر الرسالات الحضارية والدينية وبما انه يتحمل مهمة فريدة وخطرة وصعبة فانه اكتشف اطاره القومي العربي مبكرا وقبل الاف السنين قبل الاسلام وعززه بعده بقيام الاسلام بدور الفرن الصاهر للعرب في اطار قومي واضح بعد ان كانوا قبائل لها هوية قومية عربية ولكنها كانت متناحرة . وهنا يكمن التفسير الحقيقي للاصرار الصهيوني والغربي والايراني على تدمير العراق : فما لم يفكك فانه ينهض بقوة ديناميكية توسعه الرسالي حتما مغيرا الاوضاع الفاسدة ومعيدا بناء اسس المجتمع الانساني .
فلسطين في اطار هذه النظرة جزء من مقومات الامن الوطني العراقي فحينما يتمرد ملكها او حاكمها على الامبراطورية العراقية البابلية او الاشورية او الاسلامية فان العراق يرى ذلك تهديدا لرسالة العراق الانسانية واحباطا لمشروعه الرسالي ، وهنا يكمن التفسير الدقيق لتميز العراق بانه القطر العربي الوحيد الذي اعتبر فلسطين وامنها وهويتها جزء من امنه الوطني وهويته ومستقبله . هذا ما عرفه نبوذخذ نصر وصلاح الدين وصدام حسين ، وهذا ما يجب ان يعرفه كل عربي بناء على حقيقة ان كوارثنا الحالية مصدرها الاساس الخطط الصهيونية القديمة الامر الذي يثبت ان التنازل لها تحت اي تبرير لن يغير ابدا خططها التوسعية على حسابنا ، والخيار الوحيد لنا هو المقاومة بكافة اشكالها حتى فرض امر واقع يخدمنا .
انظروا لما حصل للعراق منذ غزوه وقبله : قدم كل التنازلات التي طلبت منه ولكن بوش - وهو واجهة لمن يحكم امريكا فعلا - قال لا يكفي ، يجب غزو العراق مهما قدمت حكومته من تنازلات ،وهذا ما اعترف به واثبتت الاحداث كلها ان العراق حتى لو اعترف باسرائيل الغربية فان قرار تدميره لن يتغير ابدا مادامت الامبريالية الاقتصادية الامريكية وخلفها الامبريالية العقائدية الصهيونية في فلسطين تريان ان بقاء العراق تهديد مباشر وحقيقي لمطامحهما ومطامعهما . فالعراق حركة يناميكية لا تتوقف وعندما يخمد بالقوة سرعان ما يعود ويبعث ويتجدد وتظهر اجيال اخرى تحمل رسالة العراق الحضارية والقومية . وهنا مكمن وسبب الاصرار على تقسيم العراق والغاء هويته العربية حيث لم يكفي الدمار الذي قامت به امريكا واسرائيل الشرقية خلال 14 عاما فاطلقوا داعش والحشد واطراف اخرى لانهاء العراق التاريخي وتقسيمه ومسح هويته العربية من خارطة العالم .
العراق عنقاء انبعاثها حتمي وما لم تزال الهوية وتشوه الاصول سينبعث ويعود قويا منتصرا متحديا كما حصل مرارا بعد التدمير الشامل للعراق الذي شهد عدة عمليات ابادة جماعية وكان هولوكوست التتار احد الامثلة التي جعلت بغداد مقبرة مهجورة – بكل ما تعنيه كلمة مقبرة - من رائحة الجثث التي انتشرت فيها ولم تعد صالحة للسكن وصار دجلة غير صالح للاستخدام البشري وانتشر الطاعون ومات مئات الالاف ومع ذلك بعث العراق ونهضت بغداد وعاد العراق قويا عزيزا مبدعا كما ابدع السومريون والبابليون والاشوريون والعباسيون الى ان احتل.
4- لا يمكن نجاح وبقاء مشاريع دول عظمى اقليميا او دوليا في الوطن العربي من دون تدمير المشروع النهضوي العراقي ، الجيوبولتيكا تتحكم بهذه المسألة : هناك مشروع امبراطوري صهيوني بدأ بغزو فلسطين وحدد الصهاينة له مجالا حيويا واضحا وهو ( ارضك يا اسرائيل بين الفرات والنيل) . فلسطين قطر فقير بموارده الطبيعية فمياهه قليلة وارضه تكفي لعدد محدود من البشر بينما المشروع الصهيوني اقليمي وعالمي فكيف يحل التناقض الجذري بين ضخامة المشروع الصهيوني وشحة موارد فلسطين ؟ بالتوسع الاقليمي على حساب افضل مناطق العرب ذات الارض الزراعية والمياه والمعادن الثمينة وبدون ذلك لن تقوم اسرائيل التوراتية ابدا .
مقابل ذلك المشروع القومي العربي سواء كان عراقيا او سوريا او مصريا او اي قطر اخر لن يقوم ايضا الا بالاعتماد على موارد العرب الذاتية وليس على موارد قطر واحد ، وهنا نرى التناقض الحاد والعدائي بين المشروعين العربي والصهيوني وانه لا مجال للتوفيق بينهما ابدا مادامت نفس الرقعة الجغرافية هي منبع قيام الدولة العظمى اقليميا . وهذا الامر ينطبق على اسرائيل الشرقية والتي لديها مشروعها القومي الفارسي القديم المتجدد وهو مشروع لا يملك مقومات قيامه لان ارضها فقيرة وما يصلح منها للزراعة هو بحدود 15% من مساحة ارضها والاخطر انها تفتقر للمياه لان مياهها لا تكفي حتى لارواء نسبة ال15% من الارض فكيف تحل هذه الازمة الطبيعية ؟ بالتوسع الامبريالي على حساب العراق والاستيلاء على بعض او كل منطقة الثراء بالماء والارض الزراعية والمعادن .
من المستحيل فهم ما جرى في التاريخ بين العرب والفرس واليهود بدون فهم الحقائق الجيوبولتيكية ولا يمكن فهم وحل اشكالات الحاضر وصراعاته المركبة والمعقدة الا بفهم الحقيقة الجيوبولتيكة السابقة ، وبهذا التذكير نرى حقيقة ساطعة لاتغيرها الكلمات والتضليل وهي ان قيام اسرائيل الكبرى او التوراتية مستحيل بدون تدمير الاقطار العربية واخضاع نثارها الباقي وهو الدويلات الطائفية والعرقية للامبراطورية اليهودية خصوصا العراق ومصر وسوريا كبداية لتدمير الامة العربية كلها . انه صراع بقاء وموادر اصلا وواقعا وصراع الهويات تشكل وتبلور بناء عليه . يجب فهم ما يقوله نتنياهو الان في ضوء ذلك .
ماذا نرى هنا ؟ الحقيقة المطلقة في صراعنا مع اسرائيل الغربية وتوأمها اسرائيل الشرقية صراع وجود وهوية وليس صراع حدود او ايديولوجيات حتى وان اتخذ الاشكال هذه كبرقع لاخفاء الدافع الجيوبولتيكي المحرك لكافة النوازع التوسعية الصهيونية والفارسية .
5-ان من يظن بان التخلي عن فلسطين او امتداح اسرائيل الغربية والتنازل لاسرائيل الشرقية سوف ينجيه من مخططات الصهيونية والامبريالية الامريكية والامبريالية الفارسية واهم تماما فهذا الموقف سوف يزيد من اصرار العدو الثلاثي على تصفية المتراجع بعد استخدامه للتنكيل ببقية العرب .ومن لا يستطيع المقاومة عليه ترك المهمة للاجيال القادمة وليس التفريط بالحقوق ، الم ينتظر اليهود الاف السنين ؟
Almukhtar44@gmail.com
19-9-2017