نهرِ الفرات جنوبي الكوفة، على سيف الصحراء، فيها مدينة بنَتْها الأكاسرة
من ملوك فارس، بينها وبين البصرة ما يُعرف بـ (ماء العراق)، وقد سُميت
القادسية نسبة لقصر قديس أو قادس الذي بناه الفُرس في العذيب وهو أحد
توابعها.
سنة وقوعها: 14 هجرية[1].
القائد العام للجيش الإسلامي: سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه.
عدد مقاتلي الجيش الإسلامي: في حدود 30 ألف مقاتل[2]،ربما يَزيدون قليلاً.
وقد كان من ضمن المشاركين في الجيش الإسلامي[3]:
• بضعة وسبعون بدريًّا - رضي الله عنهم.
• ستمائة وبضعة عشر من الصحابة - رضي الله عنهم.
• سبعمائة من أبناء الصحابة - رضي الله عنهم.
قادة الجيش الإسلامي[4]:
• خالد بن عرفطة[5] - رضي الله عنه - آمر الحرب.
• عبدالله بن المعتم - رضي الله عنه - قائد الميمَنة.
• شرحبيل بن السمط - رضي الله عنه - قائد خيل المَيسرة.
• المُغيرة بن شُعبة - رضي الله عنه - على الرجَّالة.
فعن حميد بن هلال قال: "لما كان يوم القادسية كان على الخيل قيس بن مكشوح
العبسي، وعلى الرجالة المُغيرة بن شُعبة الثقفي، وعلى الناس سعد بن أبي
وقاص"[6].
هاشم بن عتبة بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أمير على مقاتلي جيش الشام،
الذي جاء بالمدد لجيش العراق في اليوم الثالث من المعركة، ويُساعده في القيادة
القعقاع بن عمرو التميمي - رضي الله عنه - الذي وصل أرض المعركة ومَن
بمَعيَّته في اليوم الثاني منها.
عاصم بن عمرو التميمي على ساقة الميمنة، وسلمان بن ربيعة الباهلي على
فرسان الميمنة، وحمال بن مالك الأسدي - رضي الله عنه - على مشاة
الميسرة، وعبدالله بن ذي السهمين الخَثعمي على خيالة الميسرة[7].
حامل الراية: عبدالله بن أم مكتوم - رضي الله عنه - وكان أعمى؛ فعن أنس بن
مالك - رضي الله عنه - قال: "رأيت ابن أم مكتوم يوم القادسية وعليه درع
وبيده راية"[8].
القائد العام لجيش الفرس: رستم فرخزاد.
عدد مقاتلي جيش الفرس: أكثر من 200 ألف مقاتل[9].
قادة جيش الفرس:
• في القلب: ذو الحاجب (ومعه 18 فيلاً) عليها الصناديق والرجال.
• في الميمنة: مما يلي القلب: الجالينوس.
• في الميمنة: الهرمزان (ومعه 8 أفيال) عليها الصناديق والرجال.
• في الميسرة مما يلي القلب: البيرزان.
• في الميسرة: مهران (ومعه 7 أفيال) عليها الصناديق والرجال.
قبل المعركة:
كانت جحافل الجيش الإسلامي في إقليم العراق قد خاضت مجموعة من
المعارك مع الفرس لتحرير أرض العراق، لعلَّ من أهمها معركة الجسر التي
خسرها الجيش الإسلامي لصالح جيش فارس، ثم تلتْها معركة البويب التي
انتصر الجيش الإسلامي فيها انتصارًا كبيرًا، وعوض عما فاته في الجسر.
أما الفرس فبعد خسارتهم في معركة البويب التفُّوا على قادتهم المختلفين فيما
بينهم، وأجبروهم على الاجتماع على يزدجرد وهو الولد الوحيد لشهريار بن
كسرى الروم، وملَّكوه عليهم، وسمَّى يزدجرد رستم قائدًا عامًّا للجيش في حربه
القادمة ضد الجيش الإسلامي.
وبعد اجتماع قادة وجند دولة فارس حول يزدجرد شجَّع هذا الأمر أهل سواد
العراق - الذين سبق وأن حُررت أرضهم من قَبل - في التمرُّد على سلطان
الدولة الإسلامية وإعلانهم العصيان.
هذه المستجدات في الوضع السياسي دفعت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه - للتفكير في فتح بلاد فارس، وكسر شوكة دولتهم التي تُمثِّل
خطرًا متجددًا على الدولة الإسلامية من الناحية الشرقية، وعائقًا حقيقيًّا أمام
نشر العقيدة الإسلامية في الأرض.
قرَّر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قيادة الجيش الإسلامي
بنفسه، وبالفعل عقد العزم وخرج بالجيش من المدينة وترك عليَّ بن أبي طالب
- رضي الله عنه - عاملاً عليها، ولكن أهل الحل والعقد وأهل الشورى من
المسلمين، أشاروا عليه بالبَقاء في المدينة، واختيار قائد للجيش من أصحاب
النبي محمد - صلى الله عليه وسلم.
فقد "خرَج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من المدينة حتى نزَل على ماء
يُدعى صرارًا فعسكر به، ولا يَدري الناس ما يُريد أيَسير أم يقيم؟ وكانوا إذا
أرادوا أن يسألوه عن شيء رموه بعثمان أو بعبدالرحمن بن عوف، فإن لم يَقدر
هذان على عمل شيء مما يريدون ثلَّثوا بالعباس بن عبدالمطلب، فسأله عثمان
بن عفان عن سبب حركته، فأحضر الناس فأعلمهم الخبر واستَشارهم في
المسير إلى العراق، فقال العامة: سِر وسر بنا معك، فدخل معهم في رأيهم
وكره أن يدعهم حتى يخرجهم منه في رفق، وقال: اغدوا واستعدوا؛ فإني سائر
إلا أن يجيء رأي هو أمثل من هذا، ثم جمع وجوه أصحاب رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وأعلام العرب، وأرسل إلى علي بن أبي طالب وكان قد
استخلفه على المدينة فأتاه، وإلى طلحة بن عبيدالله وكان على المقدمة فرجع
إليه، وإلى الزبير بن العوام وعبدالرحمن بن عوف، وكانا على المجنبتين
فحضَرا، ثم استشارهم فاجتمعوا على أن يبعث رجلاً من أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ويُقيم ويرميه بالجنود، فإن كان الذي يَشتهي فهو الفتح،
وإلا أعاد رجلاً وبعث آخر، ففي ذلك غيظ العدو، فجمع عمر الناس وقال لهم:
إني كنت عزمتُ على المسير حتى صرفني ذوو الرأي منكم، وقد رأيتُ أن أقيم
وأبعث رجلاً فأشيروا عليَّ برجل"[10].
فأشاروا عليه بسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ولقد أصابوا في
نصيحتهم له، واختار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سعد
بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قائدًا عامًّا للجيش الإسلامي، وسعد بن أبي
وقاص - رضي الله عنه - غني عن التعريف؛ فهو أشهر من نار على علم،
فسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - مَن:
• قال فيه رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا خالي، فليُرني
امرؤ خاله))[11].
• جمَع له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمه وأباه في غزوة أُحد،
فيقول سعد - رضي الله عنه -: "نثَل لي النبي - صلى الله عليه وسلم - كنانته
يوم أحد، فقال: ((ارمِ فداك أبي وأمي))[12].
• بشَّره رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - بالجنة.
• دعا له رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - بالتسديد والدعوة
المُجابة، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم سدِّد رميته،
وأجب دعوته))[13].
واستِنادًا إلى المعلومات الاستخبارية الموثوقة التي كانت تَرِد إلى أمير
المؤمنين - رضي الله عنه - ولعلَّ من أهمها ما كان يَصله من المُثنى بن حارثة
الشيباني - رضي الله عنه - في العراق في موضوع رِدَّة أهل السواد من أهل
العراق وإعلان ولائهم للدولة الفارسية، والحشد الهائل للفرس، فقد رأى أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطورة الأمر، فأمر بما يُعرف
بالتجنيد الإلزامي لأول مرة، فأمر بتجنيد القبائل في جزيرة العرب وخارجها.
أحداث المعركة:
بعد أن اختار سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - موقعًا مناسبًا في القادسية
قرب قصر القديس، بقي الجيش الإسلامي لمدة شهر لم يرَ جيش العدو، حتى
ظنُّوا أن لا قتال، بعدها حضر جيش الفرس بقيادة رستم واختاروا مكانًا مُناسِبًا
لهم أيضًا.
قال ابن الأثير: "وكان صف المشركين على شَفير العتيق (النهر)، وكان صف
المسلمين مع حائط قديس والخندق، فكان المسلمون والمشركون بين الخندق
والعتيق"[14]، والعتيق نهر من أنهار العراق يتفرَّع عن نهر الفرات قرب بلدة
المسيب ويَسيرُ جنوبًا.
حاول رستم المناوَرة بعامل الوقت، فأرسل لسعد بن أبي وقاص - رضي الله
عنه - يَطلُب أن يُرسِل له شخصًا مناسبًا للمُفاوضة والإجابة على بعض
الأسئلة لديه، وكان أمل رستم ومعه جيش الفرس في أن تَطول فترة انتظار
مُقاتلي الجيش الإسلامي من غير قتال فيضجروا ويَملوا، فتتزعزع ثقتهم
بأنفسهم ثم يَنسحِبوا، ولكن ذلك لم يزد المسلمين إلا عزيمةً وإقدامًا وإصرارًا.
كان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ومعه قادة الجيش الإسلامي،
يعلمون علم اليقين بأن رستم يطلب مَن يتكلم معهم من أجل كسب الوقت ليس
إلا، ولكنهم حملوا الأمر على محمَل الجد، وقرروا تبليغ العدو بالرسالة التي
جاء الإسلام بها، ولعلَّ اتفاقًا بين الطرفين يكون، فتُحقَن دماء الجيشين، فبعث
سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - كلاًّ من المغيرة بن شعبة - رضي الله
عنه - وربعي بن عامر - رضي الله عنه - وحذيفة بن محصن - رضي الله
عنه - على التوالي، وكل على انفراد، وقد تكلم الثلاثة كلامًا في غاية الحكمة
والمنطق والثقة بالنفس، والعزة والكرامة والشهامة، ونستعرض هنا الحوار
الذي دار بين ربعي بن عامر - رضي الله عنه - ورستم، فبعد أن دخل ربعي -
رضي الله عنه - بثياب صفيقة بالية وأسلِحة متواضعة، وهو يركب فرسه
الصغيرة التي دخل بها على رستم فداسَت الفرس الديباج والحرير، ودخل على
رستم بسلاحه فقالوا له:
ضع سلاحَك.
قال ربعي: إني لم آتِكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا
رجعتُ، فنقَلوا ذلك لرستم فقال:
ائذنوا له، فأقبل ربعي يتوكَّأ على رُمحه فوق النمارق فخرق أكثرها.
فقالوا له: ما جاء بكم؟
فقال: الله ابتعثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق
الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدِينه إلى خلقه
لنَدعُوهم إليه، فمَن قَبِل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومَن أبى قاتلناه أبدًا حتى
نُفضي إلى موعود الله.
قالوا: وما موعود الله؟
قال: الجنة لمن مات على قتال مَن أبَى، والظَّفَر لمن بقي.
فقال رستم: قد سمعتُ مقالتكم، فهل لكم أن تؤخِّروا هذا الأمر حتى نَنظُر فيه
وتنظروا؟
قال: نعم، كم أحَبُّ إليكم؟ يومًا أو يومين؟
قال رستم: لا، بل حتى نُكاتِب أهل رأينا ورؤساء قومنا.
فقال: ما سنَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نؤخِّر الأعداء عند
اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد
الأجل.
فقال رستم لربعي: أسيدُهم أنت؟
قال ربعي: لا، ولكنَّ المسلمين كالجسد الواحد يُجير أدناهم على أعلاهم.
فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعزَّ وأرجح من كلام هذا
الرجل؟
فقالوا: معاذ الله أن تَميل إلى شيء من هذا، وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى
إلى ثيابه؟
فقال رستم: وَيلكم لا تَنظُروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة،
إن العرب يَستخفُّون بالثياب والمأكل، ويَصونون الأحساب"[15].
تمركز الجيشين قبل المعركة:
وشاء الله - جل جلاله - أن يَمرض سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -
قبل المعركة، ومنعه مرضه من ركوب الخيل، فوَكَّل سعدُ بن أبي وقاص -
رضي الله عنه - خالد بن عرفطة - رضي الله عنه - ليقود جيوش المسلمين
على أرض المعركة ميدانيًّا، بينما يُشرِف سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه
- عليها من مكان مُرتفِع، وهو سطح جدار قصر قديس، وكان - رضي الله
عنه - يعطي توجيهاته لخالد - رضي الله عنه - وأما رستم فقد وضع بينه
وبين كل فصيل من فصائل جيشة رجالاً يُخبرونه بأخبار المعركة وتفاصيل
وقائعها أولاً بأول؛ ليتسنَّى له إرسال المدد لمَن يحتاجه منهم.
كانت أحداثُ المعركة شديدةً جدًّا دامت أربعة أيام، وحارب جنود الجيش
الإسلامي لأول مرة في الليل؛ حيث إن من عادة العرب ألا تقاتل في الليل،
ولكن تطلَّب الأمر ذلك.
وكان رستم قد كتب لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - يُخيِّره، في أن
يعبر المسلمون نهر العتيق أو يَعبر الفرس، فاختار سعد أن يعبر الفرس النهر،
فأراد رستم أن يعبر بالجيش من القنطرة التي على النهر، لكنَّ جيش المسلمين
منعوهم من ذلك، قال الطبري:
"لما أراد رستم العبور أمر بسَكرِ العتيق بحيال قادس، وهو يومئذ أسفل منها
اليوم مما يلي عين الشمس، فباتوا ليلتهم حتى الصباح يَسكُرون العتيق بالتراب
والقصَب والبراذع حتى جعَلوه طريقًا واستتمَّ بعدما ارتفَع النهار من
الغد"[16].
ولعلَّ ذلك كان من فقه سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في أن يبدأ
الفرس المعركة بجهد غير قتاليٍّ من قبلهم، فإن عملية بناء سدٍّ تُرابي على النهر
ليس بالعمل الهيِّن ويَحتاج إلى جهد من قبل الجيش، وإن هذا العمل المُضني
سيَستنزِف جزءًا من طاقة العدو.
اليوم الأول:
أرماث:
ولعلَّ سبب التسمية بـ (أرماث) اختلاط الجيشين بشكل كبير، فيُقال: رمث القوم
إذا اختلَطوا، وأرماث أول أيام المعرَكة، وسُمِّيت ليلتها الهدأة، وفي أول أيام
المعرَكة لا يعرف كلا الجيشين مكامِن القوة والضعف عند الآخَر، إلا أن ما
فاجَأ الجيش الإسلامي وجود أعداد كبيرة من الفيَلة، وعددها 33 فيلاً مع جيش
فارس، يَقودها فيل كبير ومتميِّز هو الفيل الأبيض، وقد قسمها رستم ثلاثة
أقسام، 18 فيلاً في المقدمة، و8 أفيال عند الميمَنة، و7 عند الميسَرة.
وقبل النزول لساحات الوغى، "أمر سعدٌ الناس بقراءة سورة الجهاد، وهي
الأنفال، فلما قُرئت هشَّت قلوب الناس وعيونهم، وعرَفوا السكينة مع قراءتها،
فلما فرَغ القراء منها قال سعد: الزَموا مواقفكم حتى تَصلوا الظهر، فإذا صليتم،
فإني مُكبِّر تكبيرة، فكبِّروا واستعدوا، فإذا سمعتم الثانية فكبِّروا والبَسوا عدتكم،
ثم إذا كبرتُ الثالثة فكبِّروا، لينشط فرسانكم الناس، فإذا كبرتُ الرابعة
فازحفوا جميعًا حتى تُخالِطوا عدوَّكم، وقولوا: لا حول ولا قوة إلا
بالله"[17].
وكان سعد بن أبي وقاص قد جمَع وجهاء الناس وأصحاب الرأي والمشورة
وخطباءهم وشُعراءهم، وطلب منهم أن يُثيروا العزيمة والهمَّة والنشاط لدى
مُقاتلي الجيش الإسلامي، فقال هؤلاءِ كلامًا رائعًا كان له تأثير إيجابي كبير
على المُقاتلين.
يقول الطبري: "وأرسل سعد إلى الذين انتهى إليهم رأي الناس، والذين انتهَت
إليهم نجدتهم وأصناف الفضل منهم إلى الناس، فكان منهم ذوو الرأي النفَر
الذين أتوا رستم، وهم: المُغيرة، وحذيفة، وعاصِم وأصحابهم، ومِن أهل
النجدة: طليحة، وقيس الأسدي، وغالب، وعمرو بن معديكرب، وأمثالهم، ومن
الشعراء: الشماخ، والحطيئة، وأوس بن مغراء، وعبدة بن الطبيب، ومِن سائر
الأصناف أمثالهم، وقال سعد - رضي الله عنه - قبل أن يُرسِلهم: انطلِقوا
فقوموا في الناس بما يحقُّ عليكم ويحق عليهم عند مَواطِن البأس، فإنكم من
العرب بالمكان الذي أنتم به، وأنتم شُعراء العرب وخُطباؤهم وذوو رأيِهم
ونجدتهم وسادَتهم، فسيروا في الناس فذكِّروهم وحرِّضوهم على القتال، فساروا
فيهم.
فقال قيس بن هبيرة الأسدي:
"أيها الناس، احمَدوا الله على ما هَداكم له وأبلاكم يَزدْكُم، واذكروا آلاء الله
وارغَبوا إليه في عاداته؛ فإن الجنة أو الغنيمة أمامكم، وإنه ليس وراء هذا
القَصر إلا العراء، والأرض القفَر والظراب الخشن والفلوات التي لا تقطعها
الأدلة".
وقال غالب الأسدي: "أيها الناس، احمَدوا الله على ما أبلاكم، وسلوه يَزدْكم،
وادعوه يُجبْكم، يا معاشر معدٍّ، ما علَّتكم اليوم وأنتم في حصونكم - يعني: الخيل
- ومعكم من لا يعصيكم - يعني: السيوف؟ اذكروا حديث الناس في غدٍ؛ فإنه
بكم غدًا يبدأ عنده وبمَن بعدكم يثنَّى".
وقال ابن الهذيل الأسدي: "يا معاشر معدٍّ، اجعلوا حصونكم السيوف، وكونوا
عليهم كأسود الأجم، وتربَّدوا لهم تربُّد النمور، وادرعوا العجاج، وثقوا بالله،
وغضوا الأبصار، فإذا كلت السيوف فإنها مأمورة، فأرسلوا عليهم الجنادل؛
فإنها يؤذَن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه".
وقال بسر بن أبي رهم الجُهني: "احمَدوا الله، وصدقوا قولكم بفعل، فقد حَمدتم
الله على ما هداكم له، ووحَّدتموه، ولا إله غيره، وكبَّرتموه، وآمنتم بنبيه
ورسله، فلا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون، ولا يكوننَّ شيء بأهون عليكم من الدنيا؛
فإنها تأتي مَن تهاوَن بها، ولا تَميلوا إليها فتَهرب منكم لتميل بكم، انصروا الله
يَنصركم".
وقال عاصم بن عمرو التميمي: "يا معاشر العرب، إنكم أعيان العرب، وقد
صمدتُم الأعيان من العجم، وإنما تُخاطِرون بالجنة ويُخاطرون بالدنيا، فلا
يكونُنَّ على دنياهم أحوط منكم على آخرتِكم، لا تُحدِثوا اليوم أمرًا تكونون به
شيئًا على العرب غدًا".
وقال ربعي بن عامر: "إن الله هداكم للإسلام، وجمَعكم به، وأراكم الزيادة،
وفي الصبر الراحَة، فعوِّدوا أنفسكم الصبر تَعتادوه، ولا تُعودوها الجزع
فتعتادوه"[18].
"فلما كبَّر سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ثلاث مرات خرَج غالب بن
عبدالله الأسدي، فبرز إليه هرمز فأسَره غالب، وجاء به إلى سعد، وخرج
طليحة (الأسدي) إلى عظيم منهم فقتَله"[19].
وكبَّر سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - من على قصر القديس تكبيرته
الرابعة مُعلنًا عن انطلاق المعركة، والتحَم الجيشان، الجيش الإسلامي وهو
يُقاتل من أجل إعلاء كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، ونَشرِ الإسلام،
وإنقاذ أهل فارس من عبادة النار وذرية كسرى إلى عبادة خالق النار وربِّ
كسرى، وجيش فارس وهم يُحاربون من أجل أن يبقى يزدجرد وذريته ينفخون
في النار لتُعبَد من دون الله - جل جلاله - ويَعبُدهم الناس بعدها.
ومالت الفيَلة على قبيلة بني أسد ميلة شديدة، ولأن خيول العرب لم ترَ الفيلة من
قبل، فقد أصابها الفزع والرعب فذعرت، وكانت تَهرب ولا تواجه،
فاضطربت صفوف بني أسد، وشعر قادة الفرس بتلك الثغرة، فمالوا على بني
أسد وشدُّوا عليهم وكانت الفيَلة تَصول وتجول فيهم.
اشتد الخطب على بني أسد، وكان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -
يَنظُر من فوق، فأرسل إلى عاصم بن عمرو التميمي (أخي القعقاع)، يقول له
أن يجد للأمر حلاًّ، فهو من تميم وتميم خبيرة بالخيل والإبل.
يقول ابن جرير الطبري: "فأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو فقال: يا معشر
بني تميم، ألستم أصحاب الإبل والخيل، أما عندكم لهذه الفيَلة من حيلة؟ قالوا:
بلى والله، ثم نادى في رجال من قومه رماة وآخَرين لهم ثقافة، فقال لهم: يا
معشر الرماة، ذبُّوا رُكبان الفيَلة عنهم بالنبل، وقال: يا معشر أهل الثقافة،
استدبروا الفيلة فقطِّعوا وضنها، وخرج يَحميهم والرحى تدور على أسد، وقد
جالت الميمَنة والميسرة غير بعيد، وأقبل أصحاب عاصم على الفيلة فأخذوا
بأذنابها وذباذب توابيتها فقطعوا وُضُنَها، وارتفع عواؤهم، فما بقي لهم يومئذ
فيل إلا أُعرِي، وقُتل أصحابها، وتقابل الناس ونُفِّس عن أسد، وردُّوا فارس
عنهم إلى مواقفهم، فاقتتلوا حتى غربت الشمس، ثم حتى ذهبت هدأة من الليل، ثم
رجع هؤلاء وهؤلاء، وأُصيب مِن أسد تلك العشية خمسمائة، وكانوا ردءًا
للناس، وكان عاصم عادية الناس وحاميتهم"[20].
كان يوم أرماث شديدًا على المسلمين، لكنهم صبروا وجالدوا الأعداء من
المشركين ببسالة وشجاعة وعزيمة لا تَلين إلى آخر اليوم، من غير كلل ولا
ملل، ولعلَّ مِن أهمِّ إنجازاتهم في هذا اليوم أنهم استطاعوا إيقاف تقدُّم وتأثير
فعل الأفيال.
اليوم الثاني:
أغواث:
وسبب التسمية بأغواث وصول طليعة المدد (الغوث) من الشام، وهم آلاف من
المقاتلين بقيادة هشام بن عتبة بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ويُعاونه
القعقاع بن عمرو التميمي، وسُميت ليلتها بالسواد.
ومن أهم الأحداث فيه عدم مُشاركة الفيلة في هذا اليوم لما أصابها في يوم
أرماث، واحتاج جيش الفرس وقتًا من أجل إعادة تركيب التوابيت (الصناديق)
التي كانوا بنَوها على ظهور الفيَلة والتي تمَّ تقطيع روابِطها ومِن ثمَّ تَكسيرها
من قبَل الجيش الإسلامي.
والحدث الأهم الآخَر هو وصول المدد من الشام؛ حيث وصل آلاف المقاتلين،
على رأسهم القعقاع بن عمرو التميمي، كدُفعة أولى، ثم يَلتحِق بهم قائد جيوش
الشام هشام بن عتبة بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ومَن معه فيما بعد،
وبسرعة خاطفة، وما إن وصل القعقاع أرض المعركة ابتكَر طريقةً ذكيةً
لاستعراض وصول المدد من أجل بثِّ الثِّقة والطمأنينة في صفوف الجيش
الإسلامي، وكذلك بث الخوف والرعب في صفوف جيش العدو؛ حيث أمر أن
يتوزع أفراد جيش الشام إلى مجاميع صغيرة بشكل عشرات، كل عشرة
يدخلون أرض المعركة، ثم تليهم العشرة التي بعدها، وهكذا فيظهر وكأن أفواج
المدد لا تنتهي، وبالفعل حقَّقت هذه الخطة هدفها.
وبرَز في هذا اليوم القعقاع بن عمرو التميمي، وطلب أن يَخرج من جيش
الفرس مَن يُبارزه، فخرج له القائد الفارسي بهمن جاذويه، ويُدعى ذا الحاجب،
فاستطاع القعقاع قتل ذي الحاجب، ثم طلب القعقاع من يُبارزه مرة أخرى،
فخرج كل من البيرزان والبندوان وهم من قادة الفرس، وانضمَّ إلى القعقاع
الحارث بن ظبيان بن الحارث، فبارز القعقاع البيرزان فضرَبه فأطاح برأسه،
بينما بارز الحارث البندوان فضربه فأطاح برأسه، وبذلك انهارت معنويات
جيش فارس بعدما خسروا عينة قادتهم.
ثم إن جيش المسلمين استثمر عدم وجود الفيلة، فردَّ بخطة مماثلة، حيث ألبسوا
الإبل براقع وأشياء تجعلها تبدو غير مألوفة، ففَزعت وارتبكت منها خيل
مُقاتلي الفرس، فازداد اضطرابهم وتفرُّقهم، وفعَل فيهم فرسان المسلمين العرب
فعلتَهم، وأمضوا فيهم سيوفهم فكانت مقتَلة عظيمة للفرس في هذا اليوم.
وكان سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قد حبَس أبا مِحجَن الثقفي قبل
المعركة بسبب اعتراضه على تأمير خالد بن عرفطة - رضي الله عنه - على
الجيش الإسلامي، ومن المؤرِّخين من رأى أن سبب حبسه لتغنِّيه بالخمرة
بشعره، وأيًّا كان السبب فقد كان حبسه في قصر القديس، فحزَّ في نفس أبي
مِحجن عدم مشاركته في اليوم الأول من المعركة، وهو الفارس الذي لا يُشقُّ له
غبار، وطلب من زوجة سعد - رضي الله عنه - أن تطلقه وتعطيه فرس سعد
- رضي الله عنه - وهي البلقاء ليُشارك في المعركة، ثم يعود في الليل
ليضع نفسه في القيد والحبس، وأعطاها عهودًا على ذلك، وأنشد في ذلك شِعرًا
قال فيه:
كفى حزنًا أن تُطعَنَ الخيلُ بالقَنا
وأُصبِحَ مَشدودًا عليَّ وَثَاقيا
إذا قُمتَ عَنَّاني الحديدُ وأُغلِقَت
مَصارعُ من دوني تُصِمُّ المُناديا
وقد كنتُ ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ
فأصبحتُ منهم واحدًا لا أَخا ليا
فإن متُّ كانت حاجةً قد قَضيتُها
وخَلَّفتُ سَعدًا وحدَه والأمانيا
وقد شَفَّ جسمي أنني كل شارقٍ
أعالجُ كبلاً مُصمَتًا قد بَرَانيا
فلله درِّي يوم أُترَكُ مُوثَقًا
وتذهلُ عني أُسرتي ورِجاليا
حبيسًا عن الحرب العَوَان وقد بَدت
وإعمال غيري يوم ذاك العَواليا
فللهِ عهدٌ لا أخيسُ بعهدِه
لئن فُرجت ألا أزور الحوانيا
هَلُمَّ سلاحي لا أبا لك إنني
أرى الحربَ لا تَزدادُ إِلا تَماديا
ثم إن سلمى زوجة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أطلقت أبا مِحجن،
فصال وجال في الميمنة والميسرة، وكان لوجوده بين جيش المسلمين بالغ الأثر
في تحفيزهم ومنحِهم المزيد من الثِّقة.
يقول الطبري: "قالت سلمى: إني استخرتُ الله ورضيتُ بعهدِك، فأطلقته،
وقالت: أما الفرس فلا أُعيرها، ورجعت إلى بيتها، فاقتادها (الفرس) فأخرجها
من باب القصر الذي يلي الخندق فركبها، ثم دبَّ عليها حتى إذا كان بحيال
الميمنة كبر ثم حمَل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين،
فقالوا: بسرجِها، وقال سعيد والقاسم: عريًا، ثم رجع من خلف المسلمين إلى
الميسرة فكبَّر، وحمل على ميمنة القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، ثم
رجع من خلف المسلمين إلى القلب فندر أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين
الصفين برمحه وسلاحه، وكان يقصف الناس يومئذٍ قصفًا مُنكَرًا، وتعجب
الناس منه وهم لا يَعرفونه ولم يرَوه من النهار، فقال بعضهم: أوائل أصحاب
هاشم أو هاشم نفسه، وجعل سعد يقول وهو مُشرف على الناس مكبٌّ من فوق
القصر: والله لولا محبس أبي مِحجن لقلتُ: هذا أبو محجن وهذه
البلقاء"[21].
وكان لظهور أبي مِحجن الثقفي بهذه الصورة، بالغ الأثر في رفع معنويات
الجيش الإسلامي، واشتداد عزائمهم، وبالفعل كان يومًا عظيمًا للمسلمين قتلوا
فيه آلاف الجنود من فارس.
اليوم الثالث:
عماس:
ويوم عماس: الشديد في الشر، وسُمي بهذا الاسم لشدته على المسلمين والروم
على حدٍّ سواء، وسُميَت ليلته بـ: (الهرير).
بدأ اليوم الثالث بخدعة حربية جديدة قام بها القعقاع بن عمرو التميمي، وتهدف
الخدعة إلى رفع معنويات الجيش الإسلامي؛ حيث قسم من بمعيته من المقاتلين
المسلمين إلى مجاميع، كل مجموعة تتكون من 100 مقاتل، وطلب منهم العودة
إلى حيث دخَلوا أرض المعركة بالأمس، ويَدخلون تباعًا، ويستمرون على ذلك
حتى يصل القائد هشام بن عُتبة بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وفعلوا ذلك،
فارتفعَت معنويات مقاتلي الجيش الإسلامي لما رأوا الغبار ثم الفرسان
يتوافدون إلى أرض المعركة، فظنُّوا أنهم مدد جديد يصل إليهم، ومثلما كانت
هذه الخدعة إيجابية مع مقاتلي المسلمين، فإنها كانت قد أثَّرت سلبيًّا على
معنويات جيش فارس، فهم يرون أن المدد يأتي للمسلمين منذ يومين من غير
انقطاع، ولما وصل هشام بن عتبة - رضي الله عنه - أرض المعرَكة وعرَف
بخطة القعقاع فعل مثلما فعل القعقاع وقسم من معه إلى مجاميع جعلها تدخل
أرض المعركة على التوالي، ومع كل دفعة يُكبِّر المسلمون فتَرتفِع المعنويات.
وكانت الفُرس قد أصلحَت التوابيت التي على ظهور الفيَلة وأعادت الفيلة
لساحة المعركة بعد أن غابت في اليوم الثاني، ولكن خيل المسلمين لم ترتَبْ
وتَرتبِك كما في اليوم الأول، فقد أصبح المشهد لدَيها اعتياديًّا، ولكن ذلك لم يكن
ليُقلِّل من شأن تلك الفيلة وتأثيرها في أرض المعركة.
يقول ابن الأثير: "وكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديدًا، العرب والعجم
فيه سواء، ولا تكون بينهم نقطة إلا أبلغَوها يزدجرد بالأصوات، فيبعث إليهم
أهل النجدات ممن عنده، فلولا أن الله ألهَم القعقاع ما فعل في اليومين وإلا كسَر
ذلك المسلمين"[22].
وبرز مقاتلون أشداء في الجيش الإسلامي، ممن قدم مع هشام بن عتبة بن أبي
وقاص - رضي الله عنه - في هذا اليوم بشكل لافت للنظر، ومنهم قيس بن
المكشوح، وقاتل قتالاً شديدًا، وحرَّض أصحابه على القتال، فقدَّموا صورًا
رائعة في الشجاعة والبَسالة والإقدام، وكذلك فعل عمرو بن معديكرب فقدَّم
مواقِف مُشرِّفة للمُقاتل الأَبيِّ.
وكان هشام بن عتبة بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قائدًا ومقاتلاً شرسًا
فكان في هذا اليوم يصول على جيش الفُرس، فيشقُّ صفوفهم، ثم يعود إلى
موقعه دون أن يَنالوا منه.
وفي لفتة لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وهو يرصد المعركة من
الأعلى، رأى مخاضة تُمثِّل ثغرة قد يَنفذ من خلالها الفُرس لجيش المسلمين،
فأرسل سعد لطُليحة الأسدي، وعمرو بن معديكرب إلى استكشاف العدو عند
تلك المَخاضة، فلما ذهبا لم يَجدا عندها عدوًّا، حينها قرر طليحة الأسدي أن
يعبر ليصل إلى جيش الفرس، وبالفعل وبرباطة جأش مُنقطِعة النظير،
وعزيمة لا تلين ولا تستكين عبر طُليحة إلى الفُرس، فدخل بينهم وكبَّر ثلاث
تكبيرات زعزعت جيش فارس وطمأنت جيش المسلمين، ثم قفَل راجعًا، فلما
أرادوا أن يلحقوا به جندلَ اثنين من فرسانهم وجاء بالثالث إلى سعد أسيرًا.
ورأى سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن الفيَلة تؤذي المسلمين
وخاصة الفيل الأبيض الذي تنقاد له الفيلة، وكذلك الفيل الأجرب، فأرسل إلى
القعقاع وأخيه عاصم ليتكفَّلا بالفيل الأبيض، ثم أرسل إلى حمال والربيل[23]
ليتكفَّلا بالفيل الأجرب، وقد قام هؤلاء الأبطال بمُهمتهم على أكمل وجه.
يقول الطبري: "فأرسل سعد - رضي الله عنه - إلى القعقاع وعاصم ابني
عمرو: اكفياني الأبيض، وكانت كلها آلفةً له وكان بإزائهما، وأرسل إلى حمال
والربيل: اكفياني الفيل الأجرب، وكانت آلفة له كلها وكان بإزائهما، فأخذ
القعقاع وعاصم رمحين أصمين ليِّنين ودبَّا في خيل ورجل، فقالا: اكتَنفوه
لتُحيِّروه، وهما مع القوم، ففعل حمال والربيل مثل ذلك، فلما خالطوهما
اكتنفوهما، فنظر كل منهما يمنة ويسرة وهما يُريدان أن يتخبَّطا، فحمل القعقاع
وعاصم والفيلُ مُتشاغِل بمَن حوله فوضعا رمحيهما معًا في عيني الفيل
الأبيض، وقبع ونفَض رأسه فطرح سائسه، ودلى مِشفرَه فنفَحه القعقاع فرمى
به ووقع لجنبِه، فقتلوا من كان عليه.
وحمَل حمال وقال للربيل: اختر إما أن تَضرب المشفر وأطعن في عينه أو
تطعن في عينه وأضرب مِشفَره، فاختار الضرب فحمل عليه حمال وهو
مُتشاغلِ بملاحظة مَن اكتنفه لا يخاف سائسه إلا على بطانه، فانفرد به أولئك،
فطعنه في عينه فأقعى، ثم استوى ونفحه الربيل فأبان مشفره، وبصر به
سائسه فبقر أنفه وجبينه بفأسه"[24].
فلما جرحت وضربت الفيَلة هربت من أرض المعركة وعبرت النهر نحو
المدائن، وبذلك تخلص المسلمون من أهمِّ العوائق أمام تقدُّمهم في المعركة،
والتحم الجيشان واستمر القتال والقنا يَضرِب القنا، وأظهر المسلمون نماذج
فريدة في الشجاعة والصبر، ودخل الليل ولم يتوقَّف القتال، وحُجبت الرؤيا
عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ولم يعد بالإمكان معرفة ما يجري
داخل أرض المعركة؛ فالرجال بين غبار المعركة ودياجير الظلام وقعقعة
السيوف وصَهيل الخيل، وفي الجانب الآخر انقطعت الأخبار عن رستم، ولم
يكن بإمكان الرجال الذين جعلهم بين أرض المعركة وخيمته أن يَنقلوا له ما
يَجري.
"ودارت رحى معركة عنيفة في الليل، وقاتل المسلمون حتى الصباح وهم لا
يتكلمون، ولكن يَهرون هريرًا، حتى سُمِّيت الليلة ليلة الهرير"[25].
وقد أبدى مُقاتلو القبائل العربية المسلمة من قبيلة تميم وأسد والنخع وبجيلة
وكندة وطيئ وقُضاعة وبكر بن وائل وكنانة مواقِف مَشهودة في الصبر
والتضحية والفداء، فتقدَّمت كل قبيلة تزحف على العدوِّ وسعد بن أبي وقاص -
رضي الله عنه - يدعو لهم.
ولم ينَم سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وكيف يَنام ورجاله وعينة قادة
الإسلام في قلب المعمَعة، ويَقضي سعد - رضي الله عنه - الليل بالدعاء، وكما
هو معروف كان مُجاب الدعوة، وسُميَت هذه الليلة بليلة الهرير؛ فلم يَعد يُسمَع
غير قعقعة السيوف وهرير البشر، يقول الطبري: "ولم يكن في أيام القادسية
مثله، خرَج الناس منه على سواء، كلهم على ما أصابه كان صابرًا".
وأصبح الصباح، وطلع النهار، وانجلى الموقف وتَبرق عينا سعد بن أبي
وقاص - رضي الله عنه - وهو يرى تقدُّم المسلمين، ويُكبِّر المسلمون فرحًا
وشُكرًا لله - سبحانه وتعالى.
اليوم الرابع:
القادسية أو الهرير:
إنما سُميَت بذلك لتركهم الكلام، إنما كانوا يَهرون هريرًا.
لما انكشف صباح ليلة الهرير وتيقَّن المسلمون أنهم المُنتصِرون، وأنهم قد فعلوا
أفاعيلهم بالعدو الغاشِم في الليل، وقد قتلوا من الفرس المشركين في هذه الليلة
وحدها بحدود عشرة آلاف مقاتل فارسي، أراد القعقاع بن عمرو استثمار حالة
النصر الأكيدة، وحتى لا يتوانى المسلمون في طلب العدو، صرخ بجحافل
الجيش الإسلامي: "إنَّ الديرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة
واحمِلوا، فإن النصر مع الصبر، وسمع الناس كلام القعقاع فاجتمع عليه
جماعة من الرؤساء، وصمَدوا لرستم حتى خالطوا جيشه مع الصبح، واشتدَّت
المعركة قاسية عنيفة، وزال الهرمزان والبيرزان من مكانهما، وشدَّ المسلمون
على القلب فتصدَّع، وهبت ريح عاصف فقلعت خيمة رستم وألقت بها في
النهر، وتقدَّم القعقاع ومَن معه حتى وصلوا سرير رستم، وقد غادره حين هبَّت
عليه الريح"[26].
وكان رستم قد اختبأ قرب بغال عليها أحمال، فجاء هلال بن علقمة، فرأى
البغال فهجَم عليها وقطع حبل أحد الأحمال الذي سَقط على رستم فكسر ظهرَه،
فرما رستم نفسه في نهر العتيق، ولحق به هلال بن علقمة في النهر وسحبَه
وضربه على رأسه فقتله، وصرخ صرخته المشهورة: "قتلتُ رُستُم وربِّ
الكعبة".
فلما رأى الجالينوس خطورة الموقف أمر مَن بقي من مُقاتلي الفرس بالانسحاب
نحو النهر وعبوره نحو المدائن، وبالفعل انسحَبوا، ولكنهم وقعوا في فخ النهر؛
حيث لحق بهم المسلمون بالرماح والنَّبل فقتلوا منهم الألوف وهم في النهر.
وأمر سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - زهرة بن الحويَّة، باللحاق
بالجالينوس ومن معه، وبالفعل نجح القائد زهرة بن الحوية في قتل الجالينوس
بنفسه، وقتَل المسلمون وأسروا المزيد من الفُرس.
فرَّ من بقي من جنود فارس، فالتقوا بأحد قادة الفُرس الذي جاء بالمدد وهو
النخارجان فجمَعهم مرة أخرى وجاء لقتال جيش المسلمين، وطلب النخارجان
المبارَزة فخرج له زهير بن سليم واستطاع زهير قتل النخارجان، ثم هجم
المسلمون على الفُرس مرة أخرى، فقتَلوا مَن قتَلوا وهرَب الفُرس مرة أخرى
نحو المدائن عاصمتهم المنيعَة.
أراد سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن يقطع دابر القوم بعزيمة البطل
المؤمن الشجاع، ويطأ أرض القصر الأبيض، وهو قصر الحكم الخاص
بكِسرى، ولكن بينه وبين العدو نهر يفيض بالماء هو نهر دجلة، وكانت السفن
هي الوسيلة الوحيدة للعبور نحو الضفة الأخرى، وقد استخدمها الفرس
للعبور.
ويأمر القائد المتوكِّل على الله - جل جلاله - بالاقتحام وعبور النهر، ويكون
أول مَن يتقدَّم للعبور، ويلحق به جنوده الموقنون بالنصر والمتوكلون على الله،
يقول ابن الجوزي: "أذن سعد للناس في الاقتحام، فاقتحموا دجلة، وإنها لترمي
بالزبد، وإن الناس ليتحدَّثون في عومهم كما يتحدَّثون على وجه الأرض، وكان
سعد يقول في عومه: حسبنا الله ونعم الوكيل" [27].
ويفتح الله - جل جلاله - على المسلمين القصر الأبيض في المدائن، ويُصلي
سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - على أرضه، ويسجد لله - تعالى - في
أرض كان يُسجَد فيها لغيره.
يقول ابن الجوزي: "ونزل سعد القصر الأبيض، واتخذ الإيوان مُصلى، وجعل
يقرأ: ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا
فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ ﴾ [الدخان: 25 - 28][28].
و"بعد دخول سعد - رضي الله عنه - إيوان كسرى رفع الأذان معلنًا كلمة
التوحيد في ذلك القصر، وأخمَد نيران المجوسية، وأقام صلاة الجُمعة فيها، وقد
حصَل المسلمون على غنائم كثيرة، بعثوا بخُمسِها إلى المدينة، فلما رآها عمر
بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: إنَّ قومًا أدوا هذا لأمناء، فقال له علي بن
أبي طالب - رضي الله عنه -: "إنك قد عفَفتَ فعفَّت رعيتُك، ولو رتعْتَ
لرتَعوا"[29].
لقد مكَّن الله - جل جلاله - للمسلمين وانتصروا نصرًا باهرًا ومؤزَّرًا؛ لأنهم
أصحاب قضية ومُخلِصون، ودليلُ إخلاصِهم الآلاف من الجنود والقادة الذين
استُشهدوا من أجل قضيتهم، على الرغم من الفارق في العدد والتسليح مع
عدوهم، ولكن الله - تعالى - ينصر المؤمنين به - وإن كانوا قلَّة - على
المشركين به وإن كانوا كثرة.
لقد خسر الفُرس عشرات الآلاف من جنودهم ممَّن قُتلوا في المعركة على أيدي
المسلمين، وذهبَت دماؤهم هباءً لمجرد تعنُّتهم وإصرارهم، وكان باستطاعتهم
أن يَحقنوا دماءهم بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولكنَّه
الصلف والتكبُّر على الله - جل جلاله - ورسوله - صلى الله عليه وسلم -
فأذلَّهم الله - جل جلاله.
وقد انتصَر المسلمون لأنهم مع الله - جل جلاله - ولأنهم أصحاب قضية ومبدأ،
ولأن فيهم مثل ذلك الرجل المؤمن بقضيته فقد: "مرُّوا على رجل يوم القادسية
وقد قُطعت يداه ورجلاه وهو يفحص وهو يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، فقال الرجل: مَن
أنت يا عبد الله؟ قال: أنا امرؤ من الأنصار"[30].
بمثل هؤلاء الرجال انتصر المسلمون وغنموا من الفرس ما لا يُعدُّ ولا يُحصى
من الغنائم، وآلَت خزائن كِسرى وجميع مُمتلكاته إليهم.
بشارة النصر:
كان أمير المؤمنين عمر بن الحطاب - رضي الله عنه - يَخرج كل يوم خارج
المدينة المنوَّرة يَنتظِر البريد ليكون أول مَن يسمع بأنباء المعركة، وفي يوم
وهو على هذا الحال وقد "كتب سعد إلى عمر بالفتح وبعدَّة مَن قُتلوا وبعِدَّة مَن
أُصيب من المسلمين، وسمَّى مَن يعرف مع سعد بن عميلة الفزاري، وكان عمر
يسأل الركبان من حين يُصبِح إلى انتصاف النهار عن أهل القادسية، ثم يَرجِع
إلى أهله ومنزله، قال: فلما لقي البشير سأله من أين؟ فأخبره، قال: يا عبد الله،
حدثني، قال: هزَم الله المشركين، وعمر يخبُّ معه يسأله، والآخر يَسير على
ناقته لا يعرفه حتى دخل المدينة، وإذا الناس يُسلِّمون عليه بإمرة المؤمنين، قال
البشير: هلا أخبرتني، رحمك الله، أنك أمير المؤمنين! فقال عمر: لا بأسَ عليك
يا أخي"[31]، فبمثل هؤلاء القادة وأولئك الجند يكون النصر.
الشُّعراء يتغنَّون بالقادسية:
كانت القادسية رمزًا لمعارك الشرف والكرامة، وفصلاً رائعًا متألقًا نُقش في
أمهات كتب التاريخ، وعنوانًا بارزًا من عناوين الصدق والوفاء والعزة، فوقف
الشعراء يَفتخِرون بها، فقد قال أحد قادتها وهو عمرو بن معديكرب الزبيدي:
لقد علمتْ خيلُ الأعاجم أَنَّني
أَنا الفارسُ الحامي إذا الناسُ أحجَموا
وأنِّي غداةَ القادسيَّةِ إذ أتَوا
بجمعِهِم ليثٌ هَصُورٌ غشَمشَمُ
شَدَدتُ على مهرانَ لَمَّا لقيتُهُ
بكَفِّيَ صمصامُ العقيقةِ مِخذَمُ
فغادرتُهُ يكبو لحرٍّ جبينهُ
عليه نُسورٌ واقعاتٌ وحُوَّمُ
وفيها افتخر محمد عبدالمطلب فقال:
وللدِّين بالفاروق مِن بعدُ صولةٌ
تَشلُّ عُروش الدولتين وتَقلِبُ
فإن كان لليرموك يرهب قيصر
فكِسرى ليوم القادسيَّة أرهبُ
هنالك وافَى رُستم الفرسِ حتفه
فأمسى تُبكِّيه العذارى وتندُب
فلله سعدٌ يوم يزحَف جيشُه
على الفُرسِ لا يلوي ولا يتهيَّبُ
يشقُّ عُبابَ الماء فوق سوابِح
لها فوقه نحوَ المدائن مَقرب
هنالك يَهوي عرش كِسرى وبعدَه
عن الروم سُلطانُ القياصِر يَذهب
كتائب تُصليها المنايا سُيوفُنا
فتصلى وتَسقيها الفَناء فتشرَبُ
وأضحَت حصون الشرك بعد اعتِلالها
يَصيح بها طير الخراب وينعب
فأعلامنا في كل أرض خوافِق
يَدين لها شرق ويَخضع مَغرِب