أ .د . كاظم عبد الحسين عباس
تشكلت الدول القطرية في الوطن العربي على أسس فرضت بإرادة الأجنبي طبقاً لاتفاقية سايكس _بيكو. وفرضت مع التقسيم شكل الأنظمة التي تحكم كل قطر عربي ونوع التوجهات السياسية والاقتصادية والتربوية والخدمية. ولم يمنح الإنسان العربي أي دور في هذه المنظومات وأنيطت إدارة الأنظمة ومناهجها بالإقطاع في مكان وشيوخ عشائر أو ضباط متطلعين للسلطة في أماكن أخرى.
هذا معناه أن العزلة بين الإنسان وبين النظام كانت إحدى المرتكزات التي رافقت قيام الدولة القطرية وهكذا عزلة تقطع صلة الدولة بحقوق الإنسان وتجعل ما يقدم له على أنه هبة ومنة وليس واجباً ومسؤولية. ومن الجهة الأخرى صار معظم العرب معنيين فقط بكسب لقمة العيش وإدامة الحياة دون أي اهتمام بمن يحكم ولا كيف يحكم.
في الوقت الذي نهضت بريطانيا وألمانيا وأميركا مثلاً في صناعتها وزراعتها عبر إشراك الشعب من العلماء والباحثين إلى العمال والفلاحين والكسبة والعساكر فنهضت بذلك قيمة الإنسان تصاعداً مع التطور. هناك في الغرب كان الإنسان هو الذي يبني ويعمر وينتج السياسية والأحزاب في حين أن السياسة والأحزاب في أقطارنا لم ينتجها الشعب والسلطة التي جلست على الكراسي لم يكن من واجباتها نشر التعليم كحق لكل مواطن وضرورة من ضرورات الارتقاء بالنظام والبنى الارتكازية ولا تشغيل جميع المواطنين لأن البطالة تدمر الاقتصاد ولا توفر الخدمات لأن رفاهية المواطن هي الهدف الأسمى للدولة.
هكذا انفصمت عرى العلاقة بين المواطن وبين الدولة ومؤسساتها وتشكلت أحزاب وقوى سياسية ليس لخدمة الوطن والإنسان بل لتصارع السلطة فكان هذا الصراع هو الدوامة التي انعدمت معها الديمقراطية وحرية الإنسان في منظومات سلطة هي الأخرى محكومة باتجاهات سايكس بيكو وإرادته التي تحمي مصالح المؤسسين.
وصارت الأحزاب ذات الاتجاهات الوطنية والقومية ومن ينتمي لها محفوفة بمخاطر التصفيات الجسدية والاعتقال أو التماهي مع السلطة التي لا يهمها شيء غير الحفاظ على الملاكين والإقطاعيين وما أحاط بهم من طفيليين ومرتزقة.
وانبثقت ثورات وطنية وقومية في عديد أقطارنا ليس هدفها الأول تطور البلد بل هدفها تغيير النظام وخلال فترة هذا الانشغال الهم المركزي تحصل ثورة مضادة قبل أن تحقق الثورة الأصلية الانتقالة المطلوبة من تغيير النظام إلى تغيير الإنسان وبيئته وظروفه.
وعليه..
فإن ما لحق الإنسان العربي من حيف في أساسيات حقوقه إنما تتحمله الإرادات الأجنبية التي خلقت الدولة القطرية ووسمتها أول ما وسمتها بعزلها عن الإنسان وتطلعاته وحقوقه العامة والخاصة وتتحمله الأنظمة العائلية العشائرية والإقطاعية وحتى العسكر الذين تسلطوا حباً بالوجاهة دون درايات إدارية واقتصادية ودون درايات بروافد التنمية الشاملة والمستدامة غير المدركة أصلاً لواجبات وطبيعة الصلة التي يجب أن تقوم بين الإنسان والنظام.
إن ما حصلنا عليه كعرب من تطور جزئي ناتج عن استهلاك التكنولوجيا والكتاب والقلم المنتج غربياً بل وحتى ما كسبناه من علم ومعرفه وما طوعناه من منتجات وتقنيات يجب أن يوظف الآن في طريقه ومكانه الصحيح ألا وهو العودة لبناء الإنسان وتنمية صلته بالدولة ومؤسساتها وإنارة الدور المفصلي له في بناء الدولة ومؤسساتها لكي تنشأ ديمقراطية عربية تحترم إرث وتاريخ وحضارة الأمة وموروثها الديني والاجتماعي.
ولنقف الآن على أسباب ذبح نظام العراق الوطني الذي جاءت به ثورة تموز 1968م ... أنها الانطلاقة غير التقليدية التي كسرت الحواجز بين السلطة والشعب في معسكرات العمل الشعبي والتأميم والوحدة الوطنية وخطط التنمية الانفجارية التي نقلت التعليم بكل مراحله إلى مستويات متقدمة جداً والخدمات الصحية والخدمات البلدية ومستوى معيشة الإنسان إلى مسارات جديدة وبنجاحات هائلة اختزنت واستثمرت فهم حزب البعث العربي الاشتراكي وقياداته لمعضلات الإنسان العربي ومحنته الوطنية والقومية المترافقة مع دول بيكو وسايكس.