في تاريخ الأمم والشعوب رموز سياسية أو اجتماعية مؤثرة من الصعوبة تخطّيها في أية مناسبة أو فعالية سياسية أو اجتماعية، وتلك الشخصيات صنعت رمزيتها بفعل نبوغ علمي أو انجاز اقتصادي أو اجتماعي أو إضافة إلى تاريخ بلدانهم أو البشرية بحيث جعلوا بلدانهم في مقدمة الركب الإنساني من حيث المكانة الدولية والقوة الاقتصادية والاستقرار الداخلي والأمن القومي المصان والرقي في مجالات التعليم والعلوم والصحة وسائر الخدمات الاجتماعية، وكثير منهم عَزوفٌ عن المطالبة بحقوق شخصية إضافية أو الإصرار على المشاركة في الحياة العامة سياسيا أو إعلاميا، ومن تلقاء نفسها كانت شعوبهم تمنحهم المكانة التي لا يطالبون بها وإنما هم جديرون بها لأن شعوبهم ربطت بين النهوض المتحقق لبلدانهم وبين دورهم في عملية البناء.
ولكننا في العراق ومنذ الغزو الأمريكي ومن ثم الاحتلال الإيراني لنا شأن آخر، بعد أن ألقى البحر إلى شواطئنا زبدا كثيرا من حثالات العملية السياسية الراهنة التي لم يكن بعضهم يطمح بالحصول على وظيفة صغيرة في إحدى الدوائر بوزارة خدمية أو محافظة قصيّة بسبب جهلهم وأميّتهم المركبة، فقد برز فجأة بعض منهم على السطح برافعة أمريكية إيرانية ليشغل أعلى المناصب في الدولة العراقية بما فيها منصب رئاسة الحكومة، لمجرد إقصاء شخص كريه من الواجهة أو مشكوك في ولائه الكامل للجهة الداعمة، ومع الأيام انتفخ هؤلاء وظنوا أن قارب العراق هم شراعه الوحيد وأنه إن تمزق فلا نتيجة إلا غرق الزورق في لجة البحر المتلاطم الأمواج، فصار يطرح نفسه بمناسبة وبغير مناسبة بأنه رجل العراق المنقذ والذي لا يستقيم للعراق وضع من دونه، متشبّها بشخصيات عالمية كانت مؤثرة وهي تحكم، وتعاظم تأثيرها عندما صارت خارج الحكم، فكانت تنهال عليها النداءات من كل صوب للعودة إلى الحياة السياسية لانتشال البلد من أزمة سياسية أو اقتصادية أو أمنية.
لكن هؤلاء يعيشون في عالم آخر، فهم أولا وأخيرا صنيعة إرادة خارجية تتقاذفها الولايات المتحدة وسلطة الولي الفقيه في إيران، وهكذا نجد أن الإرادة العراقية مغيبة تماما في اختيار الواجهات السياسية سواء منها من تشغل المقعد البرلماني أو تلك التي تتسلم الحقائب الوزارية التي تعقب الانتخابات في التجارب الديمقراطية الحقيقية، بصرف النظر عما تفرزه الانتخابات المصممة على مقاسات الأطراف السياسية التي تكررت إعادة انتاجها في كل الانتخابات التي أجريت منذ عام 2005 وحتى الآن، وهذا ناجم عن التقاطع السلس بين المصالح الإيرانية والأمريكية على الرغم من كل الضجيج العالي من كلا الطرفين عن التصادم المزعوم بينهما في أكثر من ساحة.
ولذا فإن ما يسمى بالعرس الانتخابي سيمر كما مرت الانتخابات السابقة من قبل من دون أن يثمر عن ولادات تبشر بانتقال نحو رفاهية المجتمع العراقي، ولا شيء غير تكرار الوجوه القديمة والمستهلكة والفاشلة التي ملتّها عيون المواطنين وكرهت آذانهم أصواتها المنكرة بعد أن مارست كل ما تمتلك من خبرة وقدرة على الكذب والتدليس وسَطَتْ على المال العام واعتمدت إفساد الذمم من أجل تعميم فسادها ففرضت الرشوة واعتبرتها القانون المقدس المفروض على المواطن، كما اعتبرت العمولات طريقا أوحدا لتمرير الصفقات التجارية، ومارست أسوأ ما عرفه العراقيون من استغلال للسلطة لاسيما وأنها جاءت لتشغل مواقعها الجديدة من عالم الجريمة المنظمّة والسطو وتهريب المخدرات العابر للحدود، إلا القلة النادرة من الضعفاء والطامحين بتأمين مصالحهم بالصمت، والذين تماهوا تماما مع هذه الأجواء بعد أن وجدوا أن مصالحهم مؤمنّة بالصمت والتواطؤ مع الباطل، أكثر مما يؤمنّها رفع الصوت بالحق بوجه سلطة جائرة.
لكل هذا فإن العراقي لا يعلق أي آمال مهما كان حجمها على ما ستفرزه الانتخابات لأنه يراها مسرحية معدّة النتائج سلفا، فالكتل المشاركة فيها تعتمد على الخطاب الطائفي لدغدغة مشاعر المواطن البسيط إذا أردت ألا أقول الساذج وإحياء كل خزين الضغائن التاريخية التي تترافق بسذاجة مع الحديث عن الوحدة الوطنية، ومع هذا الشحن الطائفي نشطت تلك الكتل في عمليات تزييف إرادة المواطن إما بشراء أصوات ضعفاء النفوس منهم أو تغييب أصوات الآخرين وذلك بمواصلة منع المهّجرين من العودة إلى بيوتهم ومدنهم، أو عن طريق جمع البطاقات الانتخابية بصورة جماعية في خطة تزوير محكمة قبيل الانتخابات، ولهذا فإن الحديث عن دور مراقبين دوليين على نزاهة الانتخابات سوف لن يعدو هو الآخر ضربا من الضحك على الذقون فدور المراقبين لا ينحصر في مراقبة ما يجري في مراكز الاقتراع، فهناك تم استكمال كل فصول المسرحية ولم يعد فيها ما يستحق الرقابة، إن متابعة ما كشفته الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي من خروقات فاضحة مارستها الكتل الانتخابية للتلاعب المبّكر بنتائج الانتخابات كان يقتضي تحقيقا من قبل منظمات الشفافية، فإذا أريد إجراء انتخابات حرة نزيهة حقا، فإن استبعاد دور "مجلس صيانة الدستور" أي ما يسمى بهيئة الاجتثاث، هذا شرط أول لتحكيم إرادة المواطن في اختيار مرشحه، وإلا فإن من المؤكد أن الظن سيذهب إلى الاعتقاد بأن سلطة الاحتلال وبعد 15 سنة من الظلم، ما تزال على يقين أن البعثيين إن شاركوا في الانتخابات "وهم قطعا لا يشرفهم المشاركة فيها"، فإنهم قادرون على حصاد القدر الأكبر من أصوات الناخبين بعد أن تأكد فشل كل المشروعات البديلة للخيار الوطني الحقيقي.
التحالف الشيعي المرتبط بالولي الفقيه قادم لحكم العراق أربع سنوات سوداء أخرى ليواصل منهج التشييع الناعم تارة والقسري في معظم الأحيان للمجتمع العراقي، بصرف النظر عن النتائج الحقيقية للانتخابات، ولكن الفارق الوحيد هو بين من هو الأقل شرا واستعجالا لبناء دولة ولاية الفقيه في العراق، وبين من يحاول الموائمة بين المحلي والإقليمي والدولي في وضع الخطط المرحلية للوصول إلى هذا الهدف بحذافيره ومن دون اختلاف حتى بالتفاصيل الجزئية، فهل علينا أن نعطل مداركنا كي تنطلي علينا اللعبة مرة أخرى وننخدع بشعارات الوحدة الوطنية التي ترفع هنا أو هناك هذه الأيام، وهي ومهما كان طعمها ولونها فإنها تسعى لتفريغ مناطق السنّة من كل امكاناتها الاقتصادية، ثم شنق أكثر من نصف الشعب العراقي بحبال من حرير.