كي لا نبكي وحدة الدولة القطرية
حركات الإسلام السياسي تفتِّت جسد الأمة إلى دويلات مذهبية
في 10/ 10/ 2016 حسن خليل غريب
هل ستكون الإمارات الدينية بديلاً للوحدة العربية؟
هل أفق المرحلة يصل بالأمة إلى ما قبل الدولة القطرية؟
وهل تصبح إعادة بناء الدولة القطرية مطلباً بديلاً للوحدة العربية؟
كلها أسئلة تقلق عقولنا وضمائرنا خوفاً على مصير أهدافنا في القومية والوحدة العربية، وأخذت ضمائرنا تزداد قلقاً كلما نظرنا إلى نتائج الحروب المدمرة في العراق وليبيا واليمن وسورية. تلك الحروب التي تتشارك في تأجيجها كلٌّ من الولايات المتحدة الأميركية والحركة الصهيونية وجناحا حركة الإسلام السياسي المتمثلان في نظام ولاية الفقيه الفارسية وحركات الإخوان المسلمين.
كانت الدولة القطرية، من إنتاج اتفاقية سايكس بيكو، مساحة وسط بين دويلات الإمارات الدينية والوحدة العربية، فهل بعد تفتيت الدويلات القطرية، ستُعيدنا عقارب الساعة إلى دويلات الإمارات الدينية؟
في تجربة الاتحاد السوفياتي، خسر الماركسيون قوميتهم ولم يربحوا الأممية المادية. فهل في غمرة الحروب التي يخوضها الإسلاميون اليوم، سيخسرون قوميتهم من دون أن يربحوا الأممية الدينية؟
الدولة العربية بحدودها القطرية هي نتاج السياسة الغربية، وقد ترافق إنشاؤها مع مراحل الانتداب الفرنسي والإنكليزي للجزء العربي من الإمبراطورية التركية الإسلامية. ونحسب أنها حققت هدفين اثنين، وهما:
-الانتقال بالدولة العربية من مرحلة التبعية للإمبراطورية الإسلامية التركية إلى مرحلة بناء الدولة المدنية الحديثة. وفيها عرف العرب، بعد مخاض طويل، نوعاً جديداً من الأنظمة السياسية. فهي نقلت مواطني الإمبراطورية الدينية، من مجرد رعايا خاضعين لسلطان ديكتاتوري يتلطى بالشرعية الدينية، وتستأثر فيه نخب الطبقات العليا بالحقوق كافة، إلى مواطنين يخضعون إلى دساتير تستمد شرعيتها من القيم الإنسانية العليا بشكل عام، وإلى القيم العليا في الأديان السماوية بكل خاص، يأتي في المقدمة منها قيم الحرية والعدالة والمساواة، على أن يتم تطبيق الحقوق والواجبات على كل المواطنين من دون تمييز ديني أو طائفي.
-التجزئة الاستباقية للدولة العربية الواحدة، وكانت عبارة عن مخططات تفتيتية وضعها الغرب للحؤول دون قيام دولة عربية واحدة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية. وقد أصابت مخاوف الغرب عندما أخذت الحركات والأحزاب القومية ترفع شعارات الوحدة العربية، تلك الأحزاب التي أُسِّست تحت ظل الأنظمة القطرية العربية. ونمت شعبياً وفكرياً وثقافياً ووصلت إلى الحكم في أكثر من قطر عربي.
في الهدف الأول، أي دخول عصر الدولة الحديثة التي وضعت الثورة الفرنسية أسسها، وهي الدولة القائمة على مبادئ (حكم الشعب لنفسه) في داخل دولة لها حدودها الجغرافية المُعترف بها، تلك الدولة التي لا تحمل العناصر الخصوصية لشعب ما فحسب، بل تحميها من عدوانية النزعات الإمبراطورية أيضاً. وفي المقابل حمل الهدف الثاني جانباً سلبياً خُطِّط له ليكون عامل منع وعرقلة أية مشاريع تحمل بذور توحيد الجزء العربي من الإمبراطورية العثمانية في دولة عربية واحدة.
استفادت الحركة القومية العربية من إيجابيات الهدف الأول وراحت تدفع باتجاه بناء الدولة القطرية الحديثة. واكتشفت خطورة الهدف الثاني وواجهته بصياغة نظرية قومية عربية تدعو إلى بناء دولة الوحدة العربية.
وقد شاركت مبادئ الحركات الإسلامية السياسية، من حيث دعوتها لاستعادة دولة (الخلافة الإسلامية)، في التحريض ضد الفكر القومي، وضد دعوات بناء دولة عربية واحدة، تحت مزاعم إسقاط أنظمة الكفر التي تحكم الدولة القطرية كخطوة أولى على طريق إعادة بناء الدولة الدينية.
بين إيجابية بناء الدولة الحديثة، وسلبية إعادة إنتاج الدولة الدينية، نعتبر أن العامل الإيديولوجي الديني يحول دون بناء دولة عربية، أي ترفض أن تكون مرجعية النظام السياسي مبنية على العقيدة القومية، فالثقافة الدينية تُبنى على عامل الولاء للدين وترفض الولاء لأي عامل آخر، لذلك ترفض الحركات الإسلامية التي تدخل في قلب الصراعات والحروب الدائرة اليوم، قيام أي كيان سياسي لا يُبنى على الأسس الدينية. ولأن الحركات الإسلامية والمفكرين الإسلاميين يعتقدون أن الإسلام دعوة أممية تقتضي بناء نظام إسلامي عبَّر عنه البعض بمصطلح (الحكومة العالمية)، بدأ العداء يتصاعد بين الحركة القومية وهي ما تزال في مهدها وبين حركات الإسلام السياسي.
لم يكن التناقض مرحلياً، بل هو تناقض مبدئي، ولهذا حصل الصدام التاريخي بين الحركتين القومية والإسلامية منذ الثورة المصرية في 23 يوليو/ تموز 1952، بين الناصرية وحركة الإخوان المسلمين. وامتد الصراع إلى سورية بعد وصول حزب البعث إلى السلطة. بينما لم يكن الصراع حاداً في العراق مع حركة الإخوان المسلمين لضعف وجودها، وإنما كان ماثلاً بين حزب البعث وحزب الدعوة منذ ثورة 14 تموز 1958 في العراق، ذلك الصراع الذي ازدادت سقوفه بعد انتصار الثورة الخمينية في إيران في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين.
مع انحسار التيارات القومية عن السلطة في هذه المرحلة، تصاعد ظهور التيارات الإسلامية السياسية، حتى بلغت حدود الوصول إلى السلطة في أكثر من قطر عربي، وهي وإن فشلت في كل من تونس ومصر، لكنها ما تزال تترقب عودتها من جديد كلما سنحت لها الفرصة، وهي لم تفقد الأمل من وصولها في أقطار عربية أخرى.
وإذا كان الانحسار السلطوي القومي وتراجعه قد أدى إلى انحسار رقعة الإيديولوجيا القومية، ففي المقابل تقدَّمت التيارات الإسلامية إلى استلام السلطة وأدى إلى انتشار إيديولوجيا حركات الإسلام السياسي بشكل واسع وسريع كلما انتشرت الفوضى واتسعت رقعتها، بحيث كان الانتشار السريع يستند إلى تحالف مع أميركا والصهيونية ونظام ولاية الفقيه في إيران.
وهذا يعني أن الإيديولوجيا الغربية – الصهيونية التي وقفتا في خندق المواجهة ضد القومية العربية منذ أجيال، انضمت إليها حركات الإسلام السياسي، وهما يقفان في خندق المواجهة الآن بشكل أكثر شراسة. إن هذا يعني أن وضع الإسلام في مواجهة العروبة ما يزال يشكل التحدي الأهم للقوميين في هذه المرحلة.
لقد أثار قيام الدولة القطرية العربية، بسبب احتضانها للأحزاب القومية وشكلت قاعدة انطلاق لها، حفيظة التحالف الأميركي – الصهيوني وحركات الإسلام السياسي، ودفعت بهم ليس لرفع درجة العداء معها، بل خُطِّط لإسقاطها وبناء دويلات دينية بديلاً لها، لأنه لا يمكن مواجهة الفكر القومي على أرض الوطن العربي إلاَّ بوجود نقيضه. وإذا حسبنا أن المخطط قد ينجح، فهذا يعني أننا سنبكي الدولة القطرية، وستكون مهماتنا في المستقبل ليس أن ندعو إلى قيام دولة الوحدة العربية، بل سيكون نضالنا موجهاً إلى استعادة تكوين الدولة القطرية العلمانية حتى يحق لنا أن نعيد رفع شعار بناء دولة الوحدة القومية.
فالخلاصة، الآن، يترتب على حركة التحرر العربية أن تمنع انهيار الدولة القطرية على علات نظامها السياسي الحاكم لأنها ستكون أرحم بكثير من قيام دويلات دينية مذهبية ستعمل على اجتثاث أي فكر علماني قومي، وستكون مصدراً لحروب دينية بين الطوائف والمذاهب، وهي عادة تستمر إلى قرون من دون وجود أفق منظور للقيام بعملية التغيير من جديد.