حيثما يكون الالم فإنه يبعث على اليقظة ويدعو للبحث عن علاج ، وبقدر شدة الالم تتحدد قدرة الفرد على التحمل والمطاولة الى أن يضع حداً للألم بإزالة الأسباب ، ولعل هذا الامر ينطبق على الشعوب والامم أيضاً .
فإذا راجعنا تأريخ الثورات نجد إنها وليدة الآلام وقسوة الظروف المحيطة بشعب ما أو أمة بعينها ، فمثلاً ثورة الإسلام الخالدة كانت وليدة آلام ومعاناة العرب عند إنطلاقتها الاولى ، نقلتهم من حال الى حال ، حققت ولادة جديدة لقوميتهم منحتها محتواها الروحي الأصيل ، وأعطتها بعدها الانساني الوثيق ، وبنت شخصيتهم الحضارية التي تميزوا بها كحملة أمناء لهذه الرسالة السمحاء ونقلوها للعالم شرقاً وغرباً .
والثورة الفرنسية قامت نتيجة الظلم وانتهاك قيم العدالة وحق الانسان في العيش الكريم بأعلى درجات القسوة على أيدي النبلاء وتجار الدين ، وهيمنة الكنيسة ، وازمة السياسة والاقتصاد بعد مشاركة فرنسا في حرب الاستقلال الامريكية ، مما تسبب في موت الآلاف من الفقراء بسبب الجوع وسوء التغذية ، وعوامل أخرى .
والثورة البلشفية هي الاخرى حدثت بسبب أن الحكومة الروسية المؤقتة آنذاك دفعت بالبلاد إلى حافة الكارثة ، وبسبب الاضطرابات التي حصلت في كافة مرافق الدولة في الصناعة والزراعة والنقل والصحة والتربية والقضاء ، وارتفاع معدلات البطالة وتكاليف المعيشة بشكل كبير ، وتراجع الأجور الحقيقية للعمال نحو ٥٠ في المئة عما كانت عليه عام ١٩١٣وساد الاستبداد وانتشر الظلم والقمع الى حد لايطاق .
وثورة السود في أميركا ماهي الا تعبير عن الظلم والالم الناتج عن التفرقة والتمييز العنصري التي يتفشى كالمرض المعدي في المجتمع الامريكي ، وهي تمثل قمة الثلج الأبيض التي قد تهدد وحدة أميريكا كدولة اتحادية عظمى ، وهكذا هو حال الثورات في العالم ، لكل ثورة مايبرر إنطلاقتها ويبقى العامل المشترك والمحرك الأساسي لهذه الثورات وغيرها هو الظلم والقهر والاستبداد ، وما يولده من الام مبرحة .
فالذي ينظر لحال أمة العرب اليوم يجد أن الظلم والقهر والاستبداد قد أخذ مداه ، ولم تعد أسبابه داخلية فحسب ، بل إنه ظلم مركب وقهر وتهميش وحرمان وإستلاب سببه الحاكم المتسلط بارادة وقرار الغاصب المحتل ، وقد عادت الآلام لهذه الامة بدرجة عالية من الشدة لم يعرفها شعب من قبل ، ولم يعرفها العالم حتى في عهود الظلام والتخلف وشريعة الغاب ، ولا حتى أثناء أو بعد محاكم التفتيش الرهيبة وما رافقها من توحش وقسوة وقتل . كما إن ألامة العربية لم تمر بها في أسوء مراحل تراجعها وتدهورها بعد سقوط حضاراتها السامقة ، سواءاً بعد إنهيار الدولة الأموية أو بعد سقوط غرناطة ، أو بعد سقوط بغداد بيد المغول ، أو بعد انهيارالخلافة العثمانية ، وما تلاها من استعمار بريطاني وفرنسي مباشر للبلاد العربية ، وما نتج عنه من تجزئة وتقاسم نفوذ ، وما ولّده من إستبداد وتخلف وجهل ومرض ، كان من نتيجته تراجع دور الامة ، وانعدام العزيمة ، والتخلي عن الرسالة .
إلاّ إن المعاناة والالام رغم التجزئة بعثت في تفجير ثورات وطنية تحررية في مصر والعراق وسورية واليمن وليبيا والجزائر وغيرها في محاولة لإحداث تغيير في واقع هذه الأجزاء من الامة وقد تجاوزت بعض من هذه الثورات حدود الجزء لتشكل بمنجزاتها نموذج مشروع امة بكاملها مثلما حصل في مصر في ظل ثورة يوليو ١٩٥٢ ، وفي العراق في ظل ثورة ١٧ - ٣٠ تموز ١٩٦٨ . ولضمان مصالحه ونفوذه ولإكمال مؤامراته في الهيمنة والتسلط والابتزاز والاستغلال وإجهاض أمل الوحدة التي زرعته في النفوس تلك الثورتين الخالدتين ، قام المستعمر بتنفيذ المرحلة الثانية من المشروع الغربي - الصهيوني الذي بدأت مرحلته الاولى باحتلال دولة فلسطين العربية عام ١٩٤٨ ، لخلق حالة من اليأس لدى الشعب العربي ، وأنجز هذه المرحلة ( الثانية ) ، بإكتساب الاعتراف والشرعية الدولية بعد هزائم العرب المتتالية في صراعهم مع هذا الكيان المحتل ، ليصل بعد ذلك الى تنفيذ المرحلة الثالثة من المشروع الذي قادته الولايات المتحدة الامريكية نيابة عن الصهيونية العالمية وبتشجيع منها ، وبتعاون وتحالف غربي واقليمي إيراني صريح ومساهمة عربية ( كريمة ) للعدوان على العراق وحصاره واحتلاله ، وهي مرحلة تحقيق النفوذ والهيمنة والانتشار ، وما رافقها من بروز قوى الاٍرهاب والطائفية والفتنة التي زرعت الرعب ونشرت القتل وبعثت الآلام ، وبات الصراع على أشده مفتوحاً بين مقاومة وطنية شعبية ، وبين أركان هذا المشروع وادواته وخدمه من الجبناء والسماسرة والمرتزقة والمتساقطين ، وطوابير العمالة ورموز التجسس والفساد في العراق ودول عربية أخرى في ظل إنهيار عربي رسمي خطير ، وموقف مخزي لأحزاب وتجمعات ومؤتمرات نخب تدعي إنها عربية بعضها يؤيد ويدعم أميريكا ( وإسرائيل ) والبعض الاخر مؤيد وداعم لإيران وادواتها الصفوية ومتواطيء مع احتلالها للعراق وسوريا وصامت أزاء تهديداتها لأقطار عربية أخرى .
هذه الجروح العميقة الندية التي تئن الامة من آلامها ليل نهار لاشك إنها تبعث اليقظة والسهر الدائم الى أن تجد طريقها للخلاص ، سلاحها في ذلك جيل عربي جديد مؤمن متسلح بعقيدة الامة ورسالتها الاولى ، يستلهم ثورة الاسلام الخالدة ، ويستوعب روح العصر ، ويلبي مستلزمات التقدم الحديث ، جيل يحمل رسالة لاسياسة فحسب ، مباديء وأخلاق وقيم ، وليس نظريات فقط ، ينشد وحدة الامة وتحررها وتقدمها الاجتماعي ... جيل يحمل رسالة العرب الثانية الى الانسانية عدل ومحبة وسلام وتسامح وتعاون وتفاعل وبناء وتقدم . لقد رسم البعث منذ نقطة البداية خارطة لهذا الجيل كيما يحقق أهدافه في الوحدة والتحرر والعدالة والتقدم والظفر على الآلام والمعاناة ، وقد وصف الاستاذ الخالد مؤسس البعث رحمه الله هذاالجيل قائلاً :
نحن جيل الرسالة الذي لا تخيفنا تلك الفئة الشعوبية المدعومة بسلاح الأجنبي ، المدفوعة بالحقد العنصري على العروبة ، لأن الله والطبيعة والتاريخ معنا ، فئة لا تفهمنا فهي غريبة عنا ، غريبة عن الصدق والعمق والبطولة ، فئة زائفة مصطنعة ذليلة ... لا يفهمنا الا المجرّبون الذين يفهمون حياة محمد من الداخل كتجربة اخلاقية وقدر تاريخي ، لايفهمنا الا الصادقون الذين يصطدمون في كل خطوة بالكذب والنفاق والوشاية والنميمة ، ولكنهم رغم كل ذلك يتابعون السير ويضاعفون الهمة ... لايفهمنا الا المتألّمون الذين صاغوا من علقم اتعابهم ودماء جروحهم صورة الحياة العربية المقبلة التي نريدها سعيدة هانئة ، قوية صاعدة ، ناصعة تتألق بالصفاء ... لا يفهمنا الا المؤمنون بالله ، قد لا نُرى نصلي مع المصلين أو نصوم مع الصائمين ، ولكننا نؤمن بالله لاننا في حاجة ملحة وفقر اليه عصيب . فعبئنا ثقيل وطريقنا وعر، وغايتنا بعيدة ، ووصلنا الى هذا الإيمان ولم نبدأ به ، وكسبناه بالمشقة والألم ولم نرثه ارثاً ولا استلمناه تقليداً. فهو لذلك إيمان ثمين عندنا لانه ملكنا وثمرة اتعابنا ... ولا أحسب ان شابا عربيا يعي المفاسد المتغلغلة في قلب امته ... ويُقدّر الاخطار المحيطة بمستقبل العروبة تهددها من الخارج ، ومن الداخل خاصة ، ويؤمن في الوقت نفسه ان الامة العربية يجب ان تستمر في الحياة ، وان لها رسالة لم تكمل أداءها بعد، وفيها ممكنات لم تتحقق كلها، وان العرب لم يقولوا بعد كل ما عليهم ان يقولوه ، ولم يعملوا كل الذي في قدرتهم ان يعملوه ، لا احسب ان شابا كهذا يستطيع الاستغناء عن الايمان بالله ، اي الايمان بالحق ، وبضرورة ظفر الحق ، وبضرورة السعي كيما يظفر الحق .
لا يمكن للآلام أن تستمر ، والنصر حتماً يتحقق حيثما أن هناك جيل من المؤمنين بالحق الصادقين في مسعاهم ، والمتمسكين بظفر الحق وانتصاره ، ولو كره الكارهون .
ومن الله العون والتوفيق