سعد بن ابي وقاص سعد بن ابي وقاص

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

أنيس الهمامي - القمّة العربيّة في البحر الميّت: العرب الرّسميّون خارج الواقع


انتهت القمّة العربيّة بالبحر الميّت الأردنيّة مخلّفة صدمة حقيقيّة جديدة لكلّ العرب بالنّظر لكلّ ما أحاط بها من المضامين والقرارات وبيانها الختاميّ والنّدوة الصّحفيّة التي عقدها وزير الخارجيّة الأردنيّ مع الأمين العامّ لجماعة الدّول العربيّة، حيث لم تشذّ قمّة الأردن عن سابقاتها من حيث الملابسات والصّدى الفعليّ لمثل هذه المؤتمرات ولم تزد عن مجرّد التقاء روتينيّ دوريّ أخطر ما فيه عدم ارتقائه للتّحدّيات ولمتغيّرات الواقع العربيّ الدّامي في حدوده الدّنيا، بل كانت القمّة على النّقيض تماما حتّى ليخيّل لمتابعيها أنّها قمّة تعنى بجمع من البشر لا رابطة قوميّة بينهم ولا قواسم مشتركة تجمّعهم وأنّها تخوض في شأن جماعة ترفل في النّعماء وتمرح وسط بحبوحة من رغد العيش.

جاءت القمّة العربيّة إذن وسط انتظارات كثيرة، وانتهت بخيبات أكثر، ذلك أنّ الوضع العربيّ موضوع الدّرس انتهى لمآل مأساويّ غير مسبوق بات معه الوجود العربيّ على المحكّ فعلا، وهو الأمر الذي بعث في أكثر المتشائمين من مثل هذه القمم بيارق أمل - ولو هامشيّة – في إمكانيّة استجابة القادة العرب وانسجامهم مع هذه الأوضاع إذ لا يعقل أن يبقوا خارج التّغطية هذه المرّة بالتّحديد. إلاّ أنّ العرب الرّسميّين ظلّوا أوفياء لتجذيفهم ضدّ مصلحة أمّتهم محافظين على حساباتهم العصيّة فعلا عن الإدراك والاستيعاب، كما استمسكوا بكلّ ما يجعلهم مثار سخط جماهير الأمّة وقطع الأمل نهائيّا في هوامش فعلهم وتحرّكاتهم.
لقد كانت الآمال معلّقة على أن تشكّل قمّة الأردن في البحر الميّت منصّة استعادة فعليّة لعزم عربيّ رسميّ ومبدئيّ مبنيّ على المحرّك القوميّ ومصلحة الأمّة وأمنها القوميّ وقاعدة انطلاقة شجاعة تتصدّى للمخاطر الجمّة التي تترّبص بالجماهير العربيّة، وكان منتظرا أن تتكشّف القمّة على إرهاصات واضحة وصارمة في تحمّل المسؤوليّة بما يمليها الواجب القانونيّ والسّياسيّ والأخلاقيّ والقوميّ لهؤلاء القادة، وأن تعرض هذه القمّة الأخطار والأعداء بلا مواربة وتكاشف بها الجماهير وتعرض بالتّوازي معها خطّة علميّة وموضوعيّة مدروسة بعناية تتكفل بالرد عليها، لكنّ شيئا من هذا لم يحصل.
إنّ الواقع العربيّ اليوم لا يحتمل كثيرا من التّأويل أو الاستنباط أو الاجتهاد، فكارثيّته تعبّر عن ذاتها بمنتهى اليسر، ولا يحتاج حصر الأعداء والأخطار جهدا جهيدا. فعلاوة على تلك الأخطار القديمة مثل الاستعمار والصّهيونيّة وبقيّة الآفات الأخرى المعلومة للجميع، استجدّ التّهديد الإيرانيّ ومخطّطات الفرس التّوسّعيّة الاستيطانيّة الشّعوبيّة بأكثر حدّة ووضوحا ناهيك عن سياسات التّغيير الديموغرافيّ والتّهجير القسريّ وحروب الإبادة الجماعيّة للعرب في العراق وسوريّة واليمن وليبيا وغير ذلك.
إلاّ أنّ زعماء العرب، ارتؤوا عكس ذلك، وأغفلوا العين تماما عن خطر الفرس الدّاهم، ولم يجرؤ واحد منهم باستثناء الرّئيس اليمنيّ على التّأشير على المشروع الفارسيّ الصّفويّ الشّيطانيّ الزّاحف.
وتمخّضت في المحصلة القمّة العربيّة على ما يلي:
1- التّشديد على أنّ القضيّة الفلسطينيّة هي قضيّة العرب المركزيّة: قد يبدو هذا المبدأ شعارا جذّابا وقد يشكّل نقطة تحسب للمجتمعين في البحر الميّت، غير أنّ فحوى القمّة وفعاليّاتها لم تنتصر لفلسطين قطّ بل كانت فلسطين مقرونة حصرا وفي كلّ مرّة ذكرت فيها بمصلحة مغتصبيها الصّهاينة، وكان التّركيز على أمن الكيان الصّهيونيّ أكبر ممّا سواه، واحتلّ مستقبل مغتصبي فلسطين كلّ الحيّز المخصّص للقضيّة المركزيّة. ولم يشر العرب مجرّد الإشارة لمعاناة فلسطين وشعبها الحقيقيّة، وتغاضوا عن السّياسات المتواصلة لطمس عروبتها وأغفلوا مجدّدا السّياسات العنصريّة الفاشيّة الصّهيونيّة وتجاهلوا عبث المغتصبين وغير ذلك، حتّى أنّ حديثهم عن حقّ العودة مثلا لم يكن مطروحا إلاّ من باب تخفيف معاناة دول الجوار المضيفة للاّجئين الفلسطينيّين.
لم يهتمّ العرب الرّسميّون لخطر الإعلان عن يهوديّة الكيان قريبا، ولم ينبسوا ببنت شفة حيال تواتر الأنباء عن اعتزام الأمريكيّين نقل سفارتهم للقدس، ولم يعنهم البتّة الخوض في توحيد الصّفّ الفلسطينيّ. وتبقى الطّامّة الكبرى في الصّيام عن تناول المقاومة الفلسطينيّة حيث يواصل العرب هؤلاء إسقاط البندقيّة وضرب المقاومة واعتماد المسكّنات التي سمّوها مفاوضات ومبادرات سلام ركلتها العصابات الصّهيونيّة في أكثر من مرّة.
2- تعويم خطر الزّحف الإيرانيّ وتهديدات الفرس للعرب، وتناول المسألة تناولا فضفاضا أقحم في باب التّدخّلات الأجنبيّة واكتفوا ههنا بالتناول الخجول لجراح اليمن المفتوحة فغابت الإرادة الفعلية لمعالجة المأساة اليمنية.
3- تجاهل قضيّة الأحواز العربيّة تماما، وتجاهل معاناة شعبها وما يرسف تحته من سلسة من الجرائم الوحشيّة المستمرّة منذ 92 سنة كاملة.
4- التّعاطي الرّخو مع القضيّة السّوريّة بما فيها من تقتيل يوميّ للأبرياء سواء من النّظام وحلفائه الرّوس والفرس وميليشيّاتهم الأفغانيّة والباكستانيّة والإيرانيّة واللّبنانيّة أم من الميليشّات الإرهابيّة الأخرى كداعش وغيرها، وعدم الاكتراث بمأساة بلاد الشّام والاكتفاء بما يسقط على العرب من حلول تتّخذ في موسكو وواشنطن وطهران وأنقرة.
5- المرور على مأساة ليبيا مرور الكرام، وعدم إبداء الاستعداد لتلافي جرمهم السّابق بحقّها، واستضافتهم لأحد مجرمي الحرب كممثّل للدوّلة اللّيبيّة في تكرار للانخراط في سياسة المحاور الإقليميّة ورضوخا لإملاءات خارجيّة.
6- غياب أيّ رؤية أو خطوة تؤدّي لاستعادة وحدة السّودان.
7- مواصلة التّفصّي من الاستحقاقات القوميّة حيال الصّومال، وغياب أيّ عزم على مساعدته على التّخلّص من دائرة الحروب والمجاعة المفتوحة فيه.
8- عدم إيلاء أيّ أولويّة لتحقيق صلح عربيّ شامل بين الجزائر والمغرب وحلحلة قضيّة الصّحراء.
9- التركيز الهلاميّ على محاربة الإرهاب، وهو ما عبّر بجلاء عن مدى الارتباك المسيطر على العرب من جهة، ومدى قصور فهمهم لحقيقته وجوهره ليظلّ بالتّالي سوط عذاب مسلّط على العرب من الأعداء كافّة. ولم تزد الخطوات العربيّة ههنا عن التّأكيد على مخاطر الإرهاب وضرورة صدّه وهو ما أوقع العرب الرّسميّين في مأزقين سياسيّين وأخلاقيّين كبيرين:
أ‌- استبطان الدّسائس الامبرياليّة والصّهيونيّة والنّطق بمنطوقهما في خصوص الإرهاب حتىّ اختلط الأمر على العرب ما انجرّ عنه رؤية قاصرة وصبيانيّة للمقاومة العربيّة وللفعل المقاوم برمّته، حيث يستحيل عليهم بعد اليوم التّفكير في مساندة او دعم حركات المقاومة، وانطلت عليهم الحيلة الكبرى والمتمثّلة في صرف أنظارهم عن المولد للإرهاب لأنّ حقيقة الإرهاب وجذوره بالأساس ودوافعه هي الاستعمار ومخلّفاته ناهيك عن سياسات الحيف المسلّطة على العرب ومنعم من تحقيق أحلامهم في الوحدة والحرّيّة وإرساء المجتمع العربيّ الاشتراكيّ وتكريس العدالة الاجتماعيّة بعد بسط السّيادة على ثروات الأمّة ومقدّراتها..
ب‌- حرمت سيطرة مشكلة الإرهاب على العرب من التّموقع السّليم والنّظرة الموفّقة للقضيّة العراقيّة التي أهملوها إهمالا صادما ومفجعا، حتّى تماهوا تماما مع الرّوايات السّخيفة التي قصرت معاناة العراق ومأساويّة مآلات الأوضاع فيه والتّردّي الشّامل هناك في الإرهاب وداعش رأسا.
لم تفصح القمّة عن أيّ تطوّر عربيّ رسميّ في قراءة المشهد العراقيّ من جذوره، ولم يتطرّق العرب الرّسميّون لحقيقة الاحتلال المزدوج الأمريكيّ والإيرانيّ للعراق، ولم يتناولوا الجرائم السّاديّة المخزية التي يرسف تحتها شعب العراق وأرضه وحضاراته، وقفزوا على مآسي المهجّرين والفارّين من الحرب التّدميريّة الفتّاكة والباحثين عن ملاجئ تقيهم التّذبيح والتّقتيل على الهويّة وهي السّياسات التي تمارسها الميليشيّات الطّائفيّة الإيرانيّة المجرمة بإشراف مباشر من نظام الملالي ومباركة من صنّاع القرار الدّوليّ وعلى رأسهم الولايات المتّحدة الأمريكيّة. وحتّى مجازر الموصل المتواصلة لحين انعقاد القمّة وبعدها، بكلّ فظاعاتها وقتامتها، لم تجد حيّزا هامشيّا في حسابات زعماء العرب.
لقد فوّت العرب على أنفسهم فرصة تاريخيّة للتّكفير عن ذنبهم المهين القاطر خزيا وعارا والذي ارتكبوه بحقّ العراق منذ سنوات طوال، ولم يكتف بذلك بل اقترفوا إثما جديدا لا يمّحى ولا مجال للتّطهّر منه حيث سمحوا لرأس الإجرام الطّائفيّ الإرهابيّ الجاسوس الصّغير  حيدر العبادي ليدلي بدلوه ويمرّر خطابه المسموم المغشوش للدّرجة التي أشاد فيها بحرب الإبادة الشّاملة للعراقيّين وخصوصا في الموصل وقبلها بعقوبة والرّمادي والفلّوجة وتكريت ونينوى وغيرها وما تنطوي عليه من نزعات طائفيّة وأحقاد وثارات، بل أشاد وحيّى الميليشيّات الإرهابيّة وعلى رأسها الحشد الصّفويّ الذي لا يمثّل خطرا على العراق فقط بل وعلى كلّ الحاضرين هناك وعلى رأسهم الأقطار الخليجيّة.
وخذل زعماء العرب مجدّدا العراق وأنكروا احتلاله وما يتهدّده من شبح التّقسيم وأهملوا ما تشهده سوح العراق من وحشيّة وتدمير وتخريب لا يهدأ، واستلطفوا وتماهوا في المقابل مع قتلة أبنائه والعابثين بسلامته ومستقبله ومسقبل العرب جميعا.
إنّ هذا الاعوجاج المتعمّد، وهذا الاستخفاف بالمصير العربيّ برمّته وهو ما عبّرت عنه فعاليّات القمّة ومقرّراتها، جعلت من قمّة البحر الميّت قمّة ميّة بدورها، لا خير فيها ولا صدقيّة لمن حضروها، وشكّلت غصّة عربيّة جديدة تشي بأنّ درب المعاناة العربيّة لا يزال مفتوحا.

أنيس الهمّامي
نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 30-03-2017

التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

سعد بن ابي وقاص

2018