سعد بن ابي وقاص سعد بن ابي وقاص

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

نزار السامرائي - من الصفحات الأخيرة من (في قصور آيات الله)


نبض العروبة المجاهدة للثقافة والاعلام

تواصل عمل لجان التسجيل ليلة الجمعة 18 على السبت 19 كانون الثاني  والسبت 19 على الأحد 20 كانون الثاني / يناير 2002 وما بعدها، وكانت مجاميع من الأسرى تجلب من معسكرات أخرى، حتى بلغ عدد دفعة التبادل نحواً من 650 أسيراً عراقياً، وعلى الرغم من أنّنا لم نذق طعم النوم تلك الليلة، فقد جاء الضباط الإيرانيون المشرفون على مرافقة القافلة يوم الأحد 20 كانون
الثاني مبكراً، وتمَّ تجميعنا في الساحة الخارجية وهي من المرات النادرة التي لم نتذمر فيها من البرد الشديد والثلج الذي يغطي الأرضية التي نقف عليها، كنّا كمن نفخ في أذنه صور القيامة فانشغل بنفسه عن كل ما يحيط به، ومن البعيد كنّا نرى في عيون أصدقائنا المتبقين أسى وحزنا مقيمين، وهذه مشاعر حقيقية ومشروعة لا يمكن تغليفها بأردية زائفة من الإيثار ونكران الذات، وبعد وقت بدا لنا دهراً، جاءت الحافلات المخصصة لنقلنا إلى الحدود، ولكنّ آمر القافلة أخبرنا بأنّ خط رحلتنا سيشمل السفر إلى الشرق لمسافة تزيد على ألف كيلو متر ذهابا ومثلها إياباً، أي السفر إلى مشهد عاصمة إقليم خراسان، لزيارة مرقد ثامن أئمة الشيعة الجعفرية الاثني عشرية، علي بن موسى الرضا، والذي يرقد إلى جواره الخليفة العباسي اللامع هارون الرشيد، الذي توفي هناك وهو يقود حملة لقمع الفتنة التي قام بها الخراسانييون ثورة على مركز الخلافة الإسلامية في بغداد، أذكر في منتصف الستينات وخلال حكم الرئيس عبد الرحمن عارف أن الحكومة العراقية أرسلت وفداً لاسترداد رفاة الخليفة هارون الرشيد من قبره في مدينة مشهد، وعندما بدأت الاتصالات مع الجانب الإيراني من أجل هذا الهدف اعتذر المسؤولون الإيرانيون عن تلبية الطلب لأنهم لا يعرفون على وجه الدقة أي قبر هو للرشيد، وهذه الحجة إذا صدقت لتبرير موقف إيران إنما تؤكد أن الشك في مدافن الأئمة الاثني عشر يشوب معظمها شك كبير، وبالتالي فإن من يفرض هذه القدسية لمواضعها، هو ضراوة الذهب والتعود على زيارتها والتربية والنشأة على ذلك لا أكثر، هل علينا أنّ نذهب كل هذه المسافة شرقا؟ ثم نعود إلى نفس النقطة التي انطلقنا منها، بعد حوالي 48 ساعة؟ وهل تتحمل أعصاب الأسرى هذا الاختبار القاسي؟ وهل هم بحاجة لزيارة أهلهم أم لزيارة الرضا؟ ولمّا لم يكن بوسع أحدٍ منهم تغيير مسار الأحداث، فما عليهم إلا التظاهر بقبوله والرضا به، وعلى كل حال هي ساعات وتمضي ونتجه غربا مرة أخرى، تساءل بعضنا بمرارة هل كان على علي موسى الرضا أنْ يدفن في أقصى شرق إيران؟ لم يكن أحد لينزعج من زيارة مشهد حتى أولئك المتشددين تجاه المزارات، ولكنْ ليس هذا وقت مثل هذا العبث بأعصاب الأسرى المتلهفين لرؤية الأهل والوطن، ونحن في غمرة هذه التساؤلات التي لن تغير من النتائج شيئاً، بدأت عملية إركابنا في الحافلات تباعاً، منذ عشرين عاما لم نجلس على مقاعد مريحة كالتي جلسنا عليها في رحلة مغادرة إيران، بعد أنْ اطمأن آمر القافلة إلى أنّ الجميع قد أخذوا مقاعدهم، وأنّ الحراسات المخصصة توزعت في سياراتها بين حافلات الأسرى، أصدر أمره بالانطلاق، من معسكر برندك الواقع على مسافة إلى الغرب من طهران نحو العاصمة ثم التوجه إلى شمال شرقي إيران حيث مدينة مشهد، عشنا فرحاً قلقاً لم نعشه من قبل أبداً، كانت عيوننا مفتوحة لأول مرة في إيران، كنّا نلتهم المناظر التي نمرّ عليها بشغف ونهم، كي نزعم أنّنا رأينا إيران ذات يوم، كانت معاملة الجنود مختلفة تماما عن كل الذي عانيناه طيلة عشرين عاما، وقد تم تأمين إطعامنا في محطات وسطية، قدّم الإيرانيون أفضل ما لديهم من أرزاق وطعام وخدمات عكست مظهراً متحضرا، وفي مطاعم نظيفة على الطريق الرابط بين طهران ومشهد، والمكتظ عادة بعشرات الآلاف من سيارات الزائرين قاصدي مرقد الرضا، المقاهي والمطاعم على طول الطريق تعمل بلا توقف ليلا ونهارا، وبعد أنْ تناولنا أشهى طعام في إيران منذ عشرين عاما وربما وجدناه كذلك لأنّ الجوع هو أمهر الطباخين على الإطلاق خاصة إذا كان جوعا مزمنا وطويل الأمد، استأنفنا السفر ولا بد من مشهد وإن طال السفر، وكان من حقنا أنْ نتساءل هل هذه هي خراسان التي حللنا عليها (ضيوفا) قبل أكثر من تسعة عشر عاما؟ وهل هذه هي خراسان التي كانت تقدم لنا طعاما ممزوجا بأسوأ القاذورات؟ المهم كانت خراسان الجديدة تقدم لنا هذه الخدمات الخاصة ومن دون أوامر صارمة أو هراوات جنود مطيعين للأوامر الصادرة لهم أو ركلات من متدربي الكاراتيه.



التعليقات



جميع الحقوق محفوظة

سعد بن ابي وقاص

2018