ثورة تمّوز ١٩٦٨ انعطافة عراقيّة عربيّة لن ينتهي تأثيرها لا عراقيّا ولا عربيّا ولا عالميّا
الأستاذ الدّكتور كاظم عبد الحسين عبّاس
أكاديميّ عراقيّ مقاوم \ لجنة نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
لم تكن السّمة الوحيدة لثورة تمّوز سمة الثّورة البيضاء فحسب
بل هي ثورة حقيقيّة بكلّ المعاني الفكريّة والفعليّة للثّورة لأنّها ببساطة متناهية بٌنيت على برنامج تغيير ثوريّ للسّلطة وللدّولة وللمجتمع وتمّ تنفيذ برنامجها على مدار ٣٥ سنة إلى أن أجبرت على التّركيز على حالة الدّفاع عن النّفس عام ١٩٩١ م وما تلاها من سنوات حصار عدوانيّ ظالم مجرم وصولا إلى عام الغزو والاحتلال ٢٠٠٣م حيث وصل أعداء الثّورة إلى قناعات نهائيّة بأنّ الغزو العسكريّ هو الحلّ الوحيد لوأدها وإنهاء تأثيراتها الخلاّقة في حياة العرب وأهدافهم.
ولأنّها ثورة حقيقية لا يضاهيها بسماتها وصفاتها الثّوريّة إلاّ النّادر جدّا من ثورات العرب في العصر الحديث فإنّها صارت تاريخا غير قابل للانقطاع في حياة العراقيّين والعرب رغم كلّ ما تعرّضت وما زالت تتعرّض له من حروب داخليّة وخارجيّة انتهت بغزو تزعّمته أميركا ومعها عشرات الدّول هدفه إيقاف مسارات الثّورة العراقيّة والعربيّة والإنسانيّة.
لقد أنجزت ثورة تمّوز عام ١٩٦٨ تغييرا نوعيّا في وعي وثقافة الإنسان العراقيّ بشكل عامّ ومن بين ذلك ااّها زرعت النّهج القومي التّحرّريّ الاشتراكيّ في ذاته وفتحت عينه وعقله على (الإنجاز) كمهمّة شخصيّة فرديّة وكمهمّة عامّة وجماعيّة في آن واحد بحيث صار الإنجاز همّ وهدف يصارع فيه الإنسان الزّمن والظّروف فينتج المظهر العامّ للتّحدّي الذي طغى على الشّخصيّة العراقيّة في كلّ مظاهر ومواقف وضرورات ووقائع التّصدّي لمتطلّبات الحياة جميعها في زمن عمر الثّورة من جهة ومن جهة أخرى فقد تحوّل الإنجاز إلى حالة فرديّة شخصيّة منصهرة ومتفاعلة مع الإنجاز الاجتماعيّ وإنجازات الدّولة بمعنى أنّ الخاصّ والعامّ قد توحّد في مسارات البناء والإعمار.
وقدّمت الثّورة أمثلة لا عدّ ولا حصر لها في حيويّة القانون والنّظام والتّعليمات المنظّمة للحياة العائليّة والشّخصيّة والجمعيّة التي جعلت الإنسان العراقيّ مستعدّا ومنفتحا على التّغيير المتواصل والتّعاطي البنّاء مع النّظام كجزء من حياته الأسريّة والوظيفيّة والوطنيّة.
مضت الآن ١٤ عاما على ذبح الثّورة وتدمير مؤسّسات دولتها واغتيال قيادتها ورجالها وتهجيرهم واعتقالهم واجتثاثهم وقطع سبل العيش عنهم وعن عوائلهم في محاولات مستميته لإنهاء الحضور الأسطوريّ للثّورة في المجتمع العراقيّ، والمتمثّل في رفض الاحتلال ومنتجاته الإجراميّة والتّدميريّة للعراق بما في ذلك المنهج الطّائفيّ والعرقيّ وصيغ تفتيت البلاد فما هي النّتالئج ؟
أوّلا وقبل كلّ شيئ نحن لا نتحدّث بلغة الإعلام التي تعتمد الزّبد الطّافح على السّطح وتعيش انفصاما حقيقيّا واغترابا عبثيّا عن الواقع لأنّها تخضع خضوعا ذليلا مشينا لإرادة الغزاة وتوجّهاتهم المعادية للعراق ولشعبه والتي تتبنّى التّضليل والشّيطنة والكذب والتّلفيق.
نحن نتحدّث عن ضمير الإنسان وقناعاته الرّاسخة في الصّدور وفي العقول، نتحدّث عن ما نعرفه من أغوار النّفسيّة العراقيّة وطريقة تصرّفها في الظّروف السّلميّة عندما يكون هامش التعبير عن الذّات الإنسانيّة مفتوحا على مصراعيه وتلك التي تنتجها الظّروف الملجئة ويجتهد فيها العراقيّ لحماية نفسه وأسرته ووطنه بطريقة لا يفقهها إلاّ العراقيّون فالسّكوت أو التّغاضي لا يعني عند العراقيّ إهمالا ولا خوفا بل هو الحِلم بعينه، الحِلم الذي يبقي الكيان العام للوطن قائما حتى تحين لحظة تكليل الكيان بغار النّصر والعودة إلى المسارات الحياتيّة الرّائدة والخلاّقة ثانية.
سنحدّد بعض النّقاط التي تثبت أنّ ثورة ١٧ - ٣٠ تمّوز ١٩٦٨ ما زالت قائمة وستعود روحها منبعثة من جديد ولن تغيب قطّ عن سفر العراق والعراقيّين لا بل ولن تغيب حتّى عن سفر الأمّة العربيّة والإسلاميّة كلّها :
أوّلا: لا زال نائب رئيس مجلس قيادة ثورة البعث الأستاذ المجاهد المناضل الرّفيق عزّة إبراهيم يقود المعارضة العراقيّة للاحتلال ومنتجاته والمقاومة المسلّحة الباسلة للغزو والاحتلال المركّب وقد تمكّن هو ورفاقه في السّلاح وشركاؤهم أحرار العراق من طرد الجسد الأمريكيّ الغازي وأجبر أميركا وحلفها الدّوليّ الواسع على الهرب والحفاظ على وجود إداريّ فقط للشّريك الإيرانيّ الذي مازال ينزف في العراق وسيظلّ ينزف حتى الهلاك بإذن الله.
ثانيا: تمثّل قيادة قطر العراق لحزب البعث العربيّ الاشتراكيّ التي يقودها القائد الشّجاع عزّة إبراهيم قوّة وطاقة ورمزيّة الاستمرار التي لن تنقطع أبدا بإذن الله ومعها جبهة الجهاد والتّحرير وجيش رجال الطّريقة النّقشبنديّة والقيادة العامّة للقوّات المسلّحة البطلة.
ثالثا: إنّ البناء العقائديّ الوطنيّ والقوميّ للإنسان العراقيّ قد نفذ عميقا في التّركيبة الاجتماعيّة العراقيّة أفقيّا وعموديّا ومن أقصى شمال العراق إلى أقصى جنوبه، في البيئة المدنيّة وفي البيئة العسكريّة على حدّ سواء، فتحوّل هذا التّأسيس والبناء إلى إرث وطنيّ يتفاعل في داخل الشّخصيّة العراقيّة بطريقة ظاهرة مكشوفة صريحة معبّر عنها بمواقف جهاديّة ونضاليّة أو كما أسلفنا بطريقة أخرى مدفونة في عمق الإنسان ويمكن أن تظهر بأيّة لحظة.
إنّ من يؤسّس على ما هو ظاهر في بعض أجزاء العراق يخطئ خطأ كبيرا لأنّ الحكمة في مواجهة العواصف لا تعني أبدا الانجراف في أتّونها.
رابعا: إنّ ما بنته الثّورة وشعبها عصيّ على الفناء. وحتّى ما يدمّر منه يبقى بعوامله التي تركها في النّفوس نافذا في عمق التّصرّف والنّقل المتتالي جيلا بعد جيل.
فتأميم النّفط علامة شاخصة والبرنامج النوويّ علامة شاخصة أيضا والحكم الذّاتي للأكراد سيبقى عنوانا لإنسانيّة البعث وعبوره المتفوّق للأفق الإنسانيّ المنصهر في تشكيل الأمّة ودحر العدوان الإيرانيّ سفر خالد وكذلك التّصنيع العسكري ّوالمدنيّ، ما هدم منه وما ظلّ قائما، يتحدّى الطّغاة لن يغيّبه جاحد أو عميل محكوم تابع، ولن يقدر أحد على هدم قصر المؤتمرات ولا قصور الشّعب ولا فنادق الرّشيد والمنصور وعشتار والمريديان التي شهقت في سماء بغداد تؤثّث لحضارة عراقيّة شعبيّة جماهيريّة بعثيّة وتؤرّخ لزمن لن ينقطع حتّى مع هذا الكمّ الهائل من التّبشيع والشّيطنة والتّزوير .
خامسا: إنّ جريمة غزو العراق من قبل أميركا وما أقدمت عليه من إجراءات لطمس تاريخ ومعالم إنجازات ثورة ١٧ -٣٠ تموز ١٩٦٨م المجيدة سيظلّ يطرح آلاف التّساؤلات التي تؤجّج مشاعر وضمائر العراقيّين مهما بلغت عجلة الإعلام المضلّل من ضخامة ودهاء ومكر، وسيظلّ الحدث حاضرا يحاكم التّاريخ والأزمنة المتلاحقة كلّ يوم.
الغزو أسقط الأمريكان وإيران ومن معهم من دول وأحزاب وأشخاص وميليشيّات في جدل منطقيّ وعلميّ لن يتوقّف إلى يوم الدّين، ومهما كان عدد الذين التحقوا أو الذين سيلتحقون بالغزو وملحقاته سيبقى ضئيلا بل وتافها أمام الشّعب الذي مازال يتغنّى بسفر الثّورة.
سادسا: إنّ محاكمة قيادة العراق الوطنيّة القوميّة الثّائرة المرتبطة بحكم سلطة الثّورة وإنجازاتها من قبل الغزاة وأذنابهم سيظلّ وصمة عار فارقة في صفحة التّاريخ الأمريكيّ ومن والاه وستبقى من جهة أخرى علامة فارقة تحرّك الأزمنة القادمة عبر حراك الضّمير الوطنيّ والقوميّ في العراق وفي الأمّتين العربيّة والإسلاميّة وسيبقى موقف القائد صدّام حسين في المحكمة وفي لحظات اغتياله حاضرا أيضا في ضمير الامّة ويشكّل حافزا لها للحرّية والاستقلال والكرامة وفي الاقتداء بروح الشّجاعة والبطولة والإيمان الأسطوريّة التي ثبّتها التاريخ بحروف من ذهب ومن نور لشهيد الحجّ الأكبر.
تحرير العراق قادم لا محالة، وبعد التّحرير النّاجز سيعلن كلّ العراق وكلّ شعب العراق عن فتح صفحة جديدة في تاريخ العراق من نصف سطورها أو يزيد على النصف تستمدّ عنفوانها وخطط تنميتها وعزمها على التّطوّر والتّقدّم على هدي ما أنجزته ثورة تمّوز عام ١٩٦٨ من بناء للإنسان ومن عمران وتنمية وطموحات نجح الغزو المجرم في إيقافها مرحليّا لكنّه فشل في إفنائها.