المؤتمر القوميّ العربيّ يغرّد خارج القوميّة العربيّة.
قامت فكرة تأسيس المؤتمر القوميّ العربيّ على النّهوض بالعمل القوميّ العربيّ الشّعبيّ الجماهيريّ خصوصا بعد تراكم فشل المنظّمات والهيئات العربيّة الرّسميّة وعلى رأسها الجامعة العربيّة التي غدت مجتمعة مجرّد فضاءات
لا تستجيب للحدّ الأدنى من تطلّعات جماهير الأمّة العربيّة وهواجسها وانتظاراتها في الرّدّ خصوصا على التّحرّشات الخارجيّة والتّهديدات الجدّيّة لأعدائها التّقليديّين والمستحدثين ناهيك عن الاعتداءات المتكرّرة والمتلاحقة للاستعمار الامبرياليّ وللصّهيونيّة وكيانها اللّقيط، وكما يحدّث بذلك اسمه، فإنّ أولى المهامّ التي من المنطقيّ أن يتصدّى لها هذا المؤتمر هي السّعي لتثوير الجماهير وتنسيق جهودها النّضاليّة والجهاديّة وممارسة ضغط شعبيّ عالي على الأنظمة العربيّة الرّسميّة وكلّ ما يتفرّع عنها من أٌطٌر لتغادر سلبيّتها في التّعاطي مع استحقاقات الوجود القوميّ العربيّ ورهاناته وما يحدق به من أخطار جمّة ليست تخفى على أحد.
ولقد انعقدت أولى دورات المؤتمر القوميّ العربيّ في تونس عام 1990، وكانت الآمال المعلّقة واسعة من حيث تدشين حقبة جديدة يتلاقح فيها الجهد الفكريّ العربيّ بالكفاح الشّعبيّ السّلميّ والمسلّح معا تزامنا مع تزايد انتهاكات سيادة الأمّة وأقطارها خصوصا في العراق وفلسطين.
وباعتبار تشكّله بمبادرات غير رسميّة وضمّه لشخصيّات قوميّة عربيّة، فإنّ المنطقيّ أن يسلك هذا المؤتمر درب العمل على تحقيق الوحدة العربيّة وطرق كلّ سبل الارتقاء بالوعي العربيّ بجسامة التّحدّيات المطروحة والتّهديدات المحدقة بالمشروع العربيّ بل وبالوجود العربيّ من الأساس.
وفي حقيقة الأمر، ظلّ أداء المؤتمر القوميّ العربيّ مترنّحا ما بين الضّعيف والقريب من المتوسّط لحدود عام 2003، ليشهد بعد زلزال غزو العراق وما تلاه من تردّدات مزيدا من التّردّي والتّرهّل والسّوء. فلقد فشل هذا المؤتمر في الولوج لضمائر الجماهير التي لم تلامس فيه فعلا يترجم النّوايا والشّعارات التي التزم بها هذا الإطار وتعهّد بتكريسها واقعيّا، رغم بعض المجهودات الصّادقة والمساعي الحميدة لكثير من أعضائه.
إنّ المتابع لنشاطات المؤتمر وما يصدر عنه خصوصا في السّنوات الخمس الأخيرة، سيلاحظ بيسر شديد انحرافا مفزعا في تلك المهامّ بل وفي الاستحقاقات التي بعث من أجل تحقيقها.
فلقد استغلّت عناصر ووجوه تعرّف بأنّها قامات وحدويّة عروبيّة وذات تاريخ نضاليّ قوميّ مشرق، حالة الوهن والرّكود الذي أصاب الأمّة وعجزها عن استيعاب ما حلّ بالعراق وما أحدثه ذلك من انخرام شامل على جميع المستويات أمنيّة وعسكريّة واقتصاديّة واجتماعيّة وفكريّة وحضاريّة، لتفرض سيطرتها على المؤتمر القوميّ العربيّ وتوجّه قراراته صوب الأجندات التي أنيطت بعهدتها وهي أجندات لا علاقة لها بمصالح الأمّة العربيّة وجماهيرها.
لقد تسلّلت هذه العناصر المخرّبة والغارقة في ارتهانها لسياسات المحاور وهي التي أخفت حقيقتها طويلا - إلاّ على قلّة قليلة سعت لفضحها وتعريتها ولكن أخفقت للأسف الشّديد في مسعاها ذاك لأسباب عديدة متنوّعة لا نخالها خافية على أحد – وشكّلت تكتّلات داخل المؤتمر وهيئاته على أسس عديدة منها ما هو طائفيّ وما هو سياسيّ ليتكوّن ما يشبه اللّوبي المتحكّم بكلّ ما يتعلّق بهذا الإطار، وأضحى هذا المؤتمر أسيرا لدى هذه العصابة المخاوزة.
إنّ هؤلاء المتنفّذين المسيطرين اليوم على المؤتمر القوميّ العربيّ هم تلك الوجوه التي أسقطت عنها كلّ الأقنعة وتكشّفت خيوط ارتباطاتهم بمشاريع وأجندات هدّامة حاقدة على العرب لا تتورّع عن استهدافهم وتقتيلهم وترهيبهم ومضاعفة أزماتهم.
قد لا نجد توصيفا ولا حكما أدقّ نطلقه على هذه الزّمرة المتساقطة الفاسدة ممّا كتبه الرّفيق حميد سعيد في مقالته " الواقع العربيّ بين منظورين " نورد منه الجزء التّالي:
( "..إنّهم ثرثارون ومغرورون تسمع في مواقعهم كلّ الجعجعة ولا ترى شيئا من الطّحن، من مواصفاتهم رفع شعارات يعرفون هم قبل غيرهم استحالة تحقّقها على أرض الواقع. غير أنّهم يمثّلون ذروة التّراجع في حالات الاحتدام والصّراع ولأنّهم من قصيري النّفس ولأنّهم يفتقدون البناء النّضاليّ الرّاسخ كواقع وكأفراد وكمنطلقات فكريّة سرعان ما يسقطون في هوّة التّراجع الكامل والقبول بأكثر الحلول التّراجعيّة إيذاء للأمّة...
إنّ هذه الأنماط من النّاس ومن الفكر ومن التّنظيمات قد ترفع شعارات التّحرير وتتحدّث عنها بصوت مرتفع وبكثير من اللّغط والمزايدة وبمزيد من الادّعاء الفارغ إلاّ أنّها في الواقع تخلط التّسوية بالتّحرير ولا ترى فروقا بينهما ولا تضع حدودا بين هذه وتلك رغم التّناقض الحادّ والأساسيّ والجذريّ بينهما.. ولذلك فهي وإن رفعت شعارات التّحرير لكنّها تسير في نهج التّسوية.. إمّا في طريق التّسويات المباشرة والعلنيّة وإمّا بوسائل وممارسات تعتمد الشّغب والإثارة ولفت الأنظار والتّظاهر بالجدّية ولبس لبوس الثّورة ولكنّها تصبّ في مصبّ التّسويات وتكون في خدمتها..
إنّ الواقع العربيّ مزدحم بأمثال هذه المواقف في الأنظمة والتّنظيمات.. في الفكر والسّياسة.. في الشّعارات والتّحالفات.. وإنّ حالة تردّي المواقف في السّياسة الدّوليّة وتقدّم وحضور المصالح الذّاتيّة والأنانيّة للدّول الكبرى والمؤثّرة ساعد كثيرا في خلط الأوراق وتسهيل مهمّة مرور التّسويات والمخطّطات المعادية للكفاح والتّقدّم..
إنّ القوى الكبرى والمؤثّرة تستسهل وترغب في التّعامل مع قوى رخوة وصغيرة وقصيرة نظر وتمنحها صكّ الغفران مرّة وجواز مرور مرّة أخرى..
إنّ عملّيات الشّغب التي تحاول في العلن أن تقترب من الثّورة وتتعايش في السّرّ مع الرّدّة ومخطّطيها، وترفع في النّهار شعارات الشّعب وتقضي اللّيل في فنادق الأعداء، تدبّج الكلمات الصّاخبة المزايدة صباحا وتعاشر أعداء الشّعب ليلا.. إنّ هذه العمليّات مهما كسبت إلى صفّها من قوى ومهما حقّقت من تقدّم لصالحها، ومهما كسبت من سمعة لا تتطابق وواقعها الحقيقيّ فإنّ كلّ هذا مجرّد حالة طارئة ستتكشّف عن واقعها الحقيقيّ عاجلا أم آجلا ويكون ما لله لله وما لقيصر لقيصر.. ".. )
إنّ المفزع حقّا، أن يفيق العرب على أنّ هذا المؤتمر القوميّ العربيّ لم يعد عربيّا من الأساس، بل ولم يعد يربط بينه وبين العروبة سوى الأبجديّة التي تصاغ بها قراراته وبياناته.
غَـدَا هذا المؤتمر سيفا مسموما جديدا في خاصرة الأمّة، بعد أن استغلّ خاطفوه كلّ التّطوّرات القوميّة والإقليميّة والدّوليّة وما يرافقها من سيل المغالطات والتّضليل والخداع الماكر وقلب الحقائق والخلط بين الضّحايا والجلاّدين القتلة، وبات هذا المؤتمر مدافعا شرسا عن أحد أكبر أعداء الأمّة التّاريخييّن ومروّجين لأبغض الأخطار المحدقة بالعرب في عصرنا هذا، بل ومباركا لكلّ ما يرتكب في رقعة كبيرة من الوطن العربيّ من جرائم ينفذّها هذا العدوّ، ألا وهو العدوّ الفارسيّ الإيرانيّ.
ليس من المغالاة في شيء أن يطلق المتابعون لأعمال المؤتمر القوميّ العربيّ عليه " المؤتمر القوميّ الفارسيّ - الصّفويّ "، بل إنّ المدحيّات التي يحبّرها عٌتاة خاطفي هذا المؤتمر وعلى رأسهم معن بشور وزياد الحافظ وبقيّة عرّابي المشروع الفارسيّ الصّفويّ في الوطن العربيّ وكلّ سرديّات التّيه والهيام بنظام ولاية الفقيه المتخلّف في إيران وتبييض جرائمه الإرهابيّة السّاديّة في العراق والأحواز العربيّة وسوريّة واليمن والتّغاضي عن كلّ مساعيه المحمومة لتقويض وخلخلة أمن البحرين والسّعوديّة وغيرهما من أقطار الخليج العربيّ فضلا عن تمطّطه النّاعم في المغرب العربيّ، لا تبقي لأحد من المتفائلين بإمكانيّة تدارك ما آل إليه هذا الفضاء من انحراف وخيانة وتأمر لا لبس فيه، أيّة حجّة للدّفاع عنه.
لقد استخدم عرّابو المشروع الفارسيّ الصّفويّ الخمينيّ القضيّة الفلسطينيّة والصّراع العربيّ المفتوح مع الصّهيونيّة العالميّة وكيانها الغاصب فيها مطيّة لتعمية العيون وتكميم الأفواه وخنق الأصوات الفاضحة للأجندا الإيرانية الشّعوبيّة الحاقدة على العرب، وتذرّعوا كدأبهم دوما بفِرية المقاومة والممانعة ومحورها الثّلاثي المتكوّن حسب زعمهم من النّظام الإيرانيّ والنّظام الأسديّ وميليشيا حزب الله.
وكأنّ هؤلاء القومجيّين يهملون حقيقة بل ومسلّمة بديهيّة تجري مجرى العرف عند القوميّين العرب وهي أنّ لا مفاضلة بين احتلال واحتلال، ولا مساومة على شبر من تراب الوطن الغالي الذي تروّيه دماء عشرات المئات من شباب الأمّة المقاومين الذّائدين عن الأرض والعرض في كلّ سوح الوطن العربيّ العزيز. وكأنّهم يخيطون ثوب القوميّة ويطرّزون شروط العروبة على مقاسات عمائم الدّم في قٌم ومشهد، وإلاّ فمن أين لهم بكلّ الرّصيد الثّقيل من الصّلف والوقاحة ليبشّروا بفضائل إيران ومزاياها على العرب؟؟
ألم يتبيّنوا لليوم ما الذي اقترفه العدوّ الفارسيّ ويقترفه يوميّا من ممارسات وأنشطة إرهابيّة ساديّة عنصريّة لا ينكرها جنرالات الحرس الثّوريّ الإرهابيّ ولا أركان نظام ولاية الفقيه؟؟
لماذا لم نقرأ لهم يوما إشارة يتيمة واحدة لمظلمة الأحواز العربيّة المتواصلة منذ 91 عاما بالتّمام والكمال؟ أليست الجزر الإماراتيّة الثّلاث أرضا عربيّة مغتصبة من إيرانهم المقاومة الممانعة المنتصرة لعروبة لا نستكنه مدلولاتها ولا نفهم تعريفاتها عند هؤلاء؟؟
أما رأوا المجرم قاسم سليماني وهو يقود ميليشيّات الحقد والثّارات الطّائفيّة لتذبيح الفلوّجيّين في أكبر حملة إبادة عرقيّة في التّاريخ؟؟
وعن أيّة مقاومة يهذي القوم؟؟ أم أنّه ما من مقاومة إلاّ تلك التي تطلق بالوناتها وفرقعاتها دفاعا فقط عن المصالح الاستراتيجيّة للفرس الصّفوييّن؟
لماذا ينكرون أكبر مقاومة في التّاريخ؟؟ لماذا يعتّمون على أسرع المقاومة تشكّلا فور الاحتلال؟؟ لماذا لم تجد المقاومة العراقيّة الباسلة مكانا لها في تدويناتهم وسجلاّتهم وقراراتهم؟؟ أم لأنّها تقارع أسيادهم الفرس وتثخن الجراحات فيهم وتعطّل مخطّطاتهم وتجهض أحلامهم فإنّها لا تغدو حَريّة ولا جديرة إلاّ بالتّجاهل والإنكار والشّيطنة؟؟
أهذه مهامّ المؤتمر القوميّ العربيّ والآمال المعلّقة عليه عندما كان فكرة تراود القوميّين العرب والجماهير العربية المتعطّشة لصوت أمين يترجم آلامها ويصيغ حلولا لمآسيها؟؟
ألا يخجل معن بشور وزياد الحافظ وبقيّة زمرة الارتهان للإملاءات الفارسيّة حين يحرّفون المؤتمر القوميّ العربيّ ويجعلونه واقعا وحقيقة مؤتمرا قوميّا صفويّا؟؟
لماذا لا يتحلّى خاطفي المؤتمر القوميّ العربيّ بأدنى ذرّات الشّجاعة وأبسط مقوّمات الرّجولة ويعلنونها صراحة أنّهم ليسوا عربا وإن نطقوا بلغة الضّاد، ومن ثمّة يطلقون على مؤتمرهم وفضائهم الشّاحب الخيانيّ ذاك ما يتوافق مع روحه وأهوائهم بكلّ صراحة " المؤتمر القوميّ الفارسيّ – الصّفويّ " ؟؟
إنّ هذا المؤتمر وقد أمسى حملا ثقيلا على العرب وقضاياهم، لا يجب التّعامل معه إلاّ على أسس وأده وقبره وإلقاء القائمين عليه في سلاّت المهملات بما يتوافق مع عار سقوطهم وتآمرهم وانقلابهم على ما يفترض أنّهم مؤتمنون عليه.
أنيس الهمّامي
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 14-07-2016