نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
شهدت مدينة سوتشي الرّوسيّة انعقاد مؤتمر الحوار الوطني السوري، وهو المؤتمر الذي سعت الإدارة الرّوسيّة للتّرويج له طويلا وشدّدت طيلة حملاتها الدّعائيّة على أنّه سيحمل في طياته وتفضي مخرجاته لخارطة طريق تنقل السوريّين لبرّ الأمان من خلال معالجة كل المسائل العالقة وفضّ الإشكاليّات والاختلافات بين مختلف الخصوم وأيضا عبر توفير الضّمانات اللاّزمة لوقف نزيف معاناة الشّعب السّوريّ وحلّ أزمات المهجّرين والمشرّدين وغير ذلك.
ويبقى أهمّ الرّهانات على مؤتمر سوتشي وأعلاها هو ضمان سيادة سوريّة والالتزام بوحدتها الشّعبيّة والتّرابيّة وبالتّالي الحيلولة دون تقسيمها من خلال التأكيد على ضرورة صياغة دستور تتكفّل به لجنة سمّيت باللّجنة الدّستوريّة ويكون التّنصيص فيه على أنّ سوريّة دولة ديمقراطيّة غير طائفيّة تقوم على المواطنة المتساوية، وحماية حقوق الإنسان والحرّيات في أوقات الأزمات وعدم التّمييز في الحقوق، والرّفض القاطع لكلّ أشكال الإرهاب والتّطرّف والطّائفيّة والالتزام بمكافحتها، فضلا عن ضمان سلامة النّازحين واللاّجئين والمهجّرين وحقّهم في العودة إلى ديارهم.
إلاّ أنّه وبغضّ النّظر عن الغوص عميقا في المسائل الفنّيّة المتعلّقة بالمؤتمر، فإنّ تناوله ولا الحكم عليه فيما بعد لا يستقيمان دون تنزيله في إطاره العام والأخذ بعين الاعتبار بعدد مهمّ من المسائل الجوهريّة التي تتمثّل رأسا في محرّكات ودوافع رعاة هذا المؤتمر والمشاركين فيه وعلاقتهم بالملفّ السّوريّ وتأثيرهم على الأرض.
فمن نافلة القول إنّ هذا المؤتمر هو بتخطيط وإشراف وتنفيذ روسيّ خالص، بل إنّه لطالما اعتبره المحلّلون حالة نقيضة لمسار جينيف، وهو فوق هذا كلّه يأتي في سياق الحرص الرّوسيّ الشّديد على الظّهور بمظهر الطّرف القويّ والفاعل والمؤثّر في الملفّ السّوريّ الذي لا يجوز تأخيره في سلّم ترتيب الفاعلين واللاّعبين الدّوليّين والإقليميّين على الأرض السّوريّة. وهو أيضا تتويج لصراع لم يعد خافيا على ذي بصر وبصيرة بين الغريمين التّقليديّين الولايات المتّحدة من جهة وروسيا التي تعمل على تبوّئ مكانة الاتّحاد السّوفييتيّ المنهار واعتبارها وريثته وامتدادا له، ولقد بدا ذلك جليّا خصوصا من خلال تهميش دور الولايات المتّحدة في هذا المؤتمر حيث ولأوّل مرّة منذ انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ تستدعى واشنطن كضيف مراقب يتمّ تجريده من التّأثير المباشر والقويّ في مسار المفاوضات وأعمال المؤتمر ومقرّراته، وهو التّهميش الذي استمرّ تصاعديّا منذ مفاوضات الآستانا.
إلاّ أنّ هذا المؤتمر، لم يخل من تداعي الصّراعات بين المحاور المتداخلة والمتناحرة سلميّا على الأرض السّوريّة، واصطدم بالتّالي بحسابات ومصالح كلّ محور وهو ما اتّضح خصوصا في مقاطعته من قبل لفيف واسع من المعارضة السّوريّة، وهو ما يتعلّق رأسا بمقاطعة الأكراد المرتبطين بداهة بالأمريكان والمناوئين للاّعب الإقليميّ التّركيّ من جهة، ومقاطعة فريق من الفصائل المسلّحة للمؤتمر احتجاجا على طريقة معاملتها ولعلاقاتها بتركيا ناهيك عمّا رافق سير أعمال المؤتمر والاحتجاجات على حضور وفد النّظام الأسديّ وشعاراته وغير ذلك، ليبقى غياب الهيئة العليا للمفاوضات السّوريّة أبرز الغيابات، كما قاطعت أعماله دول كبرى على رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة وفرنسا وبريطانيا.
وعليه فإنّ هذا المؤتمر انتهى للفشل الكلّيّ والذي شمل جميع الأصعدة، حيث أنّه لن يكون له من مخرجات تنعكس فيما بعد على الأرض ما يؤشّر لاستمرار النّزيف السّوريّ ودوام الحال على ما هو عليه، ذلك أنّ مقرّرات الأطراف لن تلزم في شيء مقاطعيه ورعاتهم متى وجدوا، حتّى غدا هذا المؤتمر مجرّد استعراض كرنفاليّ ضمّ مجموعة من الحلفاء وهم الرّوس والنّظام الأسديّ والفرس والأتراك، بل إنّ حضور موفد الأمم المتّحدة لدمشق دي مستورا لم يكن له من فاعليّة تذكر بالنّظر لعجزه على التّوسّط بين الفرقاء سواء المحليّين أو الدّوليّين من جهة ولكون سوتشي نفسها حالة موازية لمخرجات الأمم المتحدة.
لكن، لا يجب في هذا الصّدد إغفال عدد من المؤشّرات القويّة المحيطة بسوتشي، وهي المؤشّرات التي تجعل من أمل حلحلة المسألة السّوريّة أمرا بعيد المنال وصعب التّحقيق.
فمصلحة سوريّة تتناقض تماما مع الذّهنيّة الرّوسيّة التي قادت وطبعت ووجّهت المؤتمر ومساره، حيث لا يجب تجاهل الإعلان الأوّل أو التّبشير بهذا المؤتمر وقد أطلق عليه بوتين قبل أشهر تسمية " مؤتمر سوتشي للشّعوب السّوريّة " وهو ما يقفز على حقيقة سوريّة وتركيبتها وهويّتها ويشي بمسارات تعدّ في الخفاء ستنتهي حتما بتقسيم سوريّة على أسس مذهبيّة وطائفيّة وعرقيّة على عكس مضمون مقّررات مؤتمر سوتشي نفسه، ولقد كان للمفكّر القوميّ الاستراتيجيّ العربيّ صلاح المختار ردّ فوريّ على ذلك المصطلح وكشف فيه بإسهاب ما يختمر في أقبية المخابرات العالميّة سواء الرّوسيّة أو الأمريكيّة أو الغربيّة أو الفارسيّة أو الصّهيونيّة حول مستقبل سوريّة، الأمر الذي حدا بالرّوس للتّراجع عن ذلك المصطلح فورا واستبداله بمؤتمر الحوار الوطنيّ السّوريّ في سوتشي ( انظر المقال المذكور ).
ومصلحة سوريّة هي حتما لا تنهل ولا تستند على انتظار مآل الصّراع المحتدم والمستشري بين القوّتين الكبريين وهما الامبرياليّة الأمريكيّة والامبرياليّة الرّوسيّة، حيث وإن كانت الأولى قد بلغت مرحلة الشّيخوخة وتشارف على الانهيار فإنّ الثّانية تتّسم بكونها صاعدة ومتوحّشة وذات طابع بدائيّ فجّ، ومن البداهة بمكان الإقرار أنّ نتائج الوضع في سوريّة مرتبط جدليّا بهذا الصّراع بين القوّتين الامبرياليّتين وبما سينتهي عليه.
وممّا سبق، يمكننا الجزم بأنّ غياب المشروع السّوريّ الموحّد الجامع، وتزامنه مع غياب المشروع القوميّ العربيّ الذي كان من الممكن حال توفّره أن يشكّل عنصر توجيه وخلاص لسوريّة وشعبها، إنّما يعني يقينا استحالة تفيّئ السّوريّين لأيّ عوائد مثمرة ينتجها مؤتمر سوتشي ولا غيره من المؤتمرات في ظلّ استمرار الصّراع بين القوى الكبرى دوليّا والقوى الإقليميّة المؤثّرة، بل إنّ أيّ تسوية محتملة ستكون على حساب السّوريّين والعرب أنفسهم.
أنيس الهمّامي
نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 02/02/2018
نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 02/02/2018