نبض العروبة المجاهدة للثقافة والاعلام
من الحكمة الاعتراف بأن "لنظام الحكم" إذا جاز لنا أن نطلق عليه، والذي أقامه الأمريكيون والإيرانيون بعد احتلال العراق 2003، قد أقام لنفسه ركائز واسعة وأقام دولة فساد عميقة لها ركائزها الأمنية وأجهزتها المرتبطة بها، ولها قطاعات واسعة من المنتفعين منها والمتعاونين معهم، إما تأمينا لأنفسهم من شرور المليشيات المسلحة، أو لمغانم مادية أو معنوية مباشرة أو غير مباشرة يأملون الحصول عليها من "المؤسسات التي أقامتها العملية السياسية".
واعتمد من تصدى لمشروع دولة العراق البديلة عن الحكم الوطني الذي استمر منذ عام 1921 وحتى سنة 2003، على حقيقة أن المجتمع العراقي سريع في تغير مزاج الفرد العراقي وتحوله من أعلى درجات التأييد لجهة ما، إلى أقصى درجات معارضتها، فالفرد العراقي يعيش في داخله أربعة فصول في وقت واحد، وهذه ليست حالة عابرة مر بها العراق أخيرا، فهي متأصلة في النفسية العراقية منذ القدم، واكتشفها الحكام العراقيون على مر العصور ولكنهم في ساعة الفصل تجاهلوا تفعيل التعامل معها واعتمدوا على ما يظهره لهم العراقي من تأييد مبالغ فيه، وما دروا أن أي تجمع يقف فيه نوري السعيد خطيبا لصفق الجمهور وهتفوا له بلا توقف زمنا طويلا، وأن هذا الجمهور سوف يقف بنفس الدرجة من الحماس لو أن فهد مؤسس الحزب الشيوعي جاء خطيبا بعد نوري السعيد مباشرة، ونحن جيل الخمسينات وما أعقبها وحتى الآن رأينا العجب العجاب من العراقيين الذين صفقوا لكل الحكام، فمثلا فإن المغني الذي غنى للملك فيصل الثاني رحمه الله "صوت الشعب يا فيصل يناديك... ذخرا للعرب ألله يخليك" وهو نفسه الذي استبدل كلمة فيصل بكلمة جيشنا، بعد 14 تموز 1958 بيوم واحد فانطلق صوته من الإذاعة، وهناك مثل آخر لشخص أعرفه جيدا، تفاخر يوما بأنه صاحب أول ضربة مطرقة على تمثال الملك فيصل الأول في الصالحية، وبعد الاحتلال راح يكيل الشتائم لمن فعل ذلك واعتبر ذلك نموذجا للتخلف وانهيار منظومة القيم، فهل هناك نفاق سياسي أكبر من هذا؟
هذه أمثلة بسيطة تختصر بقية المشهد السياسي والاجتماعي لما حصل بعدها وخاصة لبعض الشعراء الشعبيين الذين تسابقوا للمشاركة في مهرجانات الشعر الشعبي التي شهدتها قاعة الخلد بعد تسنم الرئيس صدام حسين رحمه الله للرئاسة، وكذلك الفنانين الذين غنوا له حد التخمة فزايدوا على كل ما هو أخفض منهم صوتا وصراخا بالولاء المعلن ولم يستند على حقيقة مشاعر، فراح كثير منهم بعد الاحتلال يغنون وينشدون لنوري المالكي ولعمار الحكيم ومن لف لفهما.
فمن أين جاء هذا التقلب في المزاج السياسي والاجتماعي وكيف ولماذا؟
لندع عوامل التاريخ والتفسيرات البيئية والطبيعية لمثل هذا المزاج الحاد والتقلب بين الحزن والفرح وبين الولاء والولاء المضاد، ولنذهب إلى عوامل سياسية واجتماعية معاصرة ومرتبطة بالظرف السياسي الذي نشأ بعد الاحتلال الأمريكي ونقل ملكية العراق من المالك الأمريكي إلى المالك الإيراني، فقد حرص هؤلاء على....
1 – غض النظر عن تدفق مئات الآلاف من مختلف المحافظات الجنوبية بل والتشجيع على تلك الهجرة العشوائية وغير المبررة، وتركهم في ظروف معاشية واقتصادية وسكنية في غاية السوء، من أجل دفعهم إلى البحث عن مصادر رزق وفرص لحماية أنفسهم وعوائلهم ضد أي تهديد من دوائر الدولة المعنية بشأن سكنهم غير الشرعي وخارج الضوابط القانونية، هذا كله دفع بهم للتوجه إلى مقار المنظمات الحزبية والسياسية الجديدة والمليشيات المسلحة للانتماء إلى صفوفها، تلك الجهات المدفوعة بحافز توريط أكبر كتلة بشرية في جرائمها من أجل إضاعة المسؤولية الأخلاقية والجنائية عما يتم ارتكابه من جرائم من عناصر تلك الجهات.
2 – يبحث هؤلاء المتهالكون والساعون وراء رغيف الخبز للانضمام إلى هذه المنظمات عن حماية ذاتية في البيئة الاجتماعية التي باتوا ينتمون إليها مع بحث عن وجاهة اجتماعية لهم.
3 – الخروج من حالة الفقر المدقع والمستشري في المجتمع العراقي على نطاق واسع والتي يعانون منها هم وأسرهم، ودفعا لغائلة الجوع عن طريق معالجة البطالة والتي وصلت نسبة مروعة في المجتمع العراقي.
بالمقابل كانت المنظمات الحزبية الطائفية والمليشيات المسلحة، تبحث عن الشباب المتعطلين من الفاشلين في الدراسة والمتسكعين على الأرصفة وفي الأزقة الضيفة، وزجهم في هذه الفعاليات، التي تعطي لكل منظمة حزبية أو مليشيا مسلحة حالة من الشعور بالانتفاخ والتباهي في الوسط السياسي والاجتماعي، إما لإرهاب الخصوم أو لجلب المزيد من المؤازرين أو للحصول على فرص أكبر من الدعم الخارجي أو لجني الأموال من خلال العمليات الخارجة على القانون والأخلاق والأعراف والدين، أو لرفع سقف طموحاتها السياسية، كما بتنا نسمع عن طموح بعض قادة المليشيات بترأس الحكومة.
وتعمد قيادات تلك التشكيلات على
1 – تأمين الحاجات الجنسية لعناصرها وتأمينها للشباب المتعطشين للجنس والمحرومين منه، سواء بنشر ثقافة زواج المتعة، أو التغاضي عن كل ما يرتكبه المنتمون إليها من جرائم جنسية حتى خارج زواج المتعة، مثل الزنا بالمحارم والاغتصاب وما شابه.
2 – إطلاق فرص الثراء الفاحش والعاجل خارج القانون لهذا القطاع، وذلك من خلال التغطية التي تمارسها الأجهزة الأمنية الحكومية على عمليات السطو المسلح على الدور أو البنوك أو مكاتب الصيرفة ومحال الصاغة أو المحال التجارية، والأخطر من هذا شجعت تهريب الآثار والمخدرات أو تهريب العملة وتبييض الأموال في الخارج عن طريق أعوان خارج العراق، وكذلك عمليات اختطاف المعارضين السياسيين أو أصحاب رؤوس الأموال، وأخذ فدية لإطلاق سراح الضحية، وما أكثر ما تم قتل الضحايا بعد أخذ الفدية.
3 – بعد أن تثبّت المنظمات لنفسها اسما سياسيا وتتحول إلى واقع ميداني داخل العملية السياسية، تقوم ببيع المناصب الرسمية المدنية والعسكرية والأمنية بما في ذلك المناصب العليا كالوزراء ووكلائهم والمحافظين والسفراء والمدراء العامين والمناصب العسكرية العليا، كل ذلك لا يعتمد أي معيار قانوني أو إداري، ولا شك أن مثل هذه الصفقات تدّر على الأحزاب والمليشيات أموالا طائلة تستطيع من خلالها استدراج المزيد من المنخرطين إلى صفوفها، فتضيف لها بندقية جديدة أو رقما آخر لموجودات مليشيات متطفلة على ثروات البلد.
ومما توقف عنده مراقبو المشهد العراقي بشأن صفحة الفساد مثلا، أن العراق الذي تحكمه أحزاب دينية طائفية نصبّتها إيران الولي الفقيه وقدمت لها دعما مفتوحا، وتعاملت معها سلطة مرجعية النجف بصمت ينم عن الرضا عن كل خطواتها وممارساتها، وإن تظاهرت بذلك فقط، أن الفساد الفلكي في العراق، والذي فاق في حجمه في دائرة أو محافظة واحدة حجم الفساد في كل الدول المدرجة على لائحة الفساد الدولية، هذا الفساد لم تصدر فيه فتوى دينية بإدانته، أو منع الاستمرار فيه ويبدو أنها تعتمد أن السلطة في العراق أيا كان من يحكم فيه تبقى سلطة كافرة وبالتالي تحلل السطو على أموال الدولة وهنا نجد الفرق في حجم الفساد بين إيران والعراق، حسنا إذا كان مال الدولة متاحا لسرقة اللصوص والمرتشين فهل توقف الحد؟ أم أن الأموال الخاصة تعرضت (لفرهود) غير مسبوق استنادا إلى قناعة مذهبية بأن أموال أهل السنة هي غنائم حرب ويجب أن توزع استنادا إلى ما ورد في القران الكريم في التعامل مع أموال المشركين والكفار وأهل الكتاب؟
والأكثر جلبا للانتباه أن الدول الأكثر شفافية ونظافة في الذمم المالية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وأستراليا وغيرها، شجعت على نحو أو آخر هذا الفساد أو الغموض في مراحل تشكّله، لأنها محكومة من أطراف منتفعة من استمراره على مرحلتين، الأولى في ملاحقة الفاسدين من مسؤولي الحكم الجديد في العراق للحصول على تعويضات لها وليس للعراق، وكذلك ملاحقتهم مرة أخرى بتهم الحصول على أموال الإعانات المالية من بلدياتها وحكوماتها المحلية، مع كل ما يترتب على ذلك من غرامات لصالح خزينتها، أما الأموال المتراكمة لديها من فساد هؤلاء فتبقى في بنوكها لإدارة ماكنة اقتصاداتها أو لتنشيط سوق العقارات أو أسهم الشركات المتعثرة أو حركة البورصة.
لكن ما يهمنا هنا بالدرجة الأولى هو الموقف الذي تلتزمه الجهات التي تلبس لبوس الدين من الحكام أو المقربين منهم (شيعة وسنة)، فإنهم لم يتجاهلوا الفساد فقط، بل أن عجلته لفتهم جميعا وأصبحوا جزءً فاعلاً منه وتقاسموا الغنيمة مع أقرانهم من المعممين وأخذوا حصصهم المتناسبة مع حجم تأثير كل واحد منهم في وسطه.
إن الفساد المستشري في البلد فاق خيال أكثر العقول تعاملا مع الأفلام الخرافية، فلماذا حصل كل هذا؟
علينا أن نعود إلى أصل فكرة المذهب الجعفري الاثني عشري عن الإمام الثاني عشر أي ما يسمى بالإمام الغائب، التي تؤمن أن المهدي المنتظر لن يخرج ليملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملئت ظلما وجورا ما لم يعم الفساد في كل مفاصل المجتمع.
ولكننا سنصطدم مرة أخرى بالسؤال التالي لماذا العراق والعراق فقط وليس أي بلد آخر؟ إيران على وجه الخصوص التي تحكمها زعامة دينية)منذ سنة 1979 وحتى الآن؟
بل لماذا تركز إيران على بناء نفسها اقتصاديا وعلميا وتركز على جعل العراق مطارا لهبوط طائرة المهدي المنتظر؟
هذا المتراكم من الأزمات المتناسلة هل يترك فرصة لبصيص أمل بالتغيير؟
العراق عبر التاريخ كان أكبر مراكز المفاجآت على سطح الأرض، ومن يشعر بالإحباط عليه بإعادة قراءة تاريخ بلده.