نبض العروبة المجاهدة للثقافة والاعلام
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي نهضت المخابرات الغربية كلها خصوصا الامريكية والبريطانية لتنفذ حملات تشويش ايديولوجي محورها التشكيك بالاشتراكية عموما استنادا الى التجربة السوفيتية خصوصا نماذجها المشوهة للاشتراكية التي قمعت المبادرة الابداعية،وهي مصدر تفوق الرأسمالية ،وحولت الانسان الى قط سمين شبعان البطن لكنه فقير الروح وجائع للحرية،وكانت الاطروحة الرئيسة تقول بان سقوط الاتحاد السوفيتي يؤكد فشل الاشتراكية على وجه الاطلاق،وطرحت الليبرالية خصوصا الاقتصادية بديلا عن الاشتراكية ،وروجت فكرة خاطئة تقول بان العالم وقع في قبضة امريكا وان على العالم اجمع الاستسلام لها ولنظامها العالمي المنفرد القطبية – نظام لم يقم حتى الان - لان مقاومتها عبث غير مجد .
بل ان الامريكي فرانسيس فوكوياما لفق نظرية كاملة وضمنها في كتابه (نهايةُ التّارِيخ والإِنسانُ الأخير) في 1989، وأُطْروحَتهُ الأساسيَّة تقول (أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة بقِيَمها عن الحرية الفردية ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تُشَكِّلُ مرحلة نهاية الصراع العالمي والتطور الأيديولوجي للإنسان فتكاملت شروط عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية). وظهرت نظرية (صدام الحضارات ) The Clash of Civilizations لصموئيل هنتنجتون والتي قالت ان صراعات مابعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية وإختلافاتها السياسية والإقتصادية بل ستكون الاختلافات الثقافية هي القوة المحركة الرئيسة للنزاعات بين البشر وطبعا فان الثقافات يقصد بها منابعها القومية والدينية والتاريخية،تلك كانت مقدمات لحروب ايديولوجية طاحنة ضد الاشتراكية والتحرر، وبطبيعة الحال كانت نظرية بريجنسكي الخاصة بتسخير الدين لتدمير الشيوعية والحركات التحررية القومية هي الاطار العام لتحريك الصراعات منذ الثمانينيات .
اما على المستوى الستراتيجي فقد دعمت الحرب الايديولوجية تلك بسياسات ابرزها سياسة (الاحتواء المزدوج) Dual containment لمارتن انديك الاسرائيلي الامريكي لاجل احتواء العراق و(ايران) والفت كراسا حللها ونقدها بالتفصيل ونشر مما دفع وزراة الخارجية الايرانية لدعوتي لالقاء محاضرة حولها في طهران في نهاية عام 1995 وبالفعل القيتها في طهران وركزت وقتها على فكرة جوهرية فيها اثبتت الاحداث اللاحقة كلها خصوصا ما يجري الان صحتها وهي ان سياسة الاحتواء المزدوج اكدت على ضرورة احتواء العراق بالقوة بينما ثبتت بلا غموض ان احتواء ايران يجب ان يتم بالوسائل السلمية فقط ولذلك اسميت ب(سياسة الاحتواء التمايزي )، وبعدها كانت سياسة (محور الشر) .
كل ذلك كان تمهيدا لغزو امريكي للعالم بشرط ان يبدا بالعراق لاسباب جيوبولتيكية وتاريخية . ردا على تلك الاطروحات قمت منذ بداية التسعينيات بنقد صارم لنظرية فوكوياما واكدت انها فقاعة ساذجة ومتهافتة وانها سوف تنفجر في وقت قصير وهذا ما تحقق بالفعل حيث كان فوكوياما مجبرا على الاعتراف بخطأها وفشلها رغم انها تحولت الى بدعة جعلت حتى بعض الرفاق في الحزب وقتها يقعون في فخ الموضة السائدة هذه وروجوا لفكرة (ضرورة التكيف مع العصر الجديد واعادة النظر في ايديولوجيا الحزب ومنطلقاته) خصوصا الاشتراكية ووصل الحال بحزبيين الى (الدعوة للتكيف مع العصر الامريكي وعدم مقاومته )!!! ، وقمت ايضا بنقد شامل لنظرية صدام الحضارات في المجلة الفصلية (شؤون سياسية) والتي كنت رئيسا لتحريرها .
والان وبعد ان رأينا ان المقدمات الايديولوجية تلك منذ نهاية السبعينيات وما يدعمها من ستراتيجيات عامة لم تكن سوى تمهيد لما سيأتي وليس مجرد نظريات عائمة مما يجبرنا على الاقتناع بان ما يطرح الان من افكار واراء تتعلق بالعقيدة والستراتيجية القومية للحزب من الصعب جدا اعتباره عابرا وعفويا ولابد ان يكون له صله بما يعد للخطوات اللاحقة حتى لو كان بعض من يشاركون في طرح ذلك انقياء الضمير والنوايا ، لهذا علينا التساؤل : كيف يعبر الان ونحن في ذروة اسوأ كوارث العرب اطلاقا عن نفس الافكار المهزومة التي تشتق من الليبرالية الغربية ؟
1- يجب بداية لفت الانتباه الى واحدة من اهم حقائق ما بعد انتهاء الحرب الباردة وهي ان هيمنة امريكا وانفرادها لفترة ما بتحديد مسار احداث العالم وصولا لغزو العراق وتدميره وما كشف عنه من نزعات استبدادية كونية امريكية اضطر كبار مفكري امريكا واوربا الى وصفها ب(الوحشية) ووصف الرأسمالية التي تفرعنت بانها (الرأسمالية المتوحشة) ، وهذا الوصف ينطبق على خادم الرأسمالية وهو الليبرالية .ونحن في العراق ضحايا امريكا نعرف معنى الرأسمالية المتوحشة لانها عبرت عن جوهرها الذي كان مخفيا جزئيا اثناء الحرب الباردة لكنها كشفت عن الاوجه المبرقعة لمعاداتها للجنس البشري بصفتها اشد النظم في التاريخ وحشية ولاانسانية واحتقارا للبشر وسعيا وراء المال والمال فقط .
اما الليبرالية فكانت وظيفتها الاساسية تفتيت الضحايا داخليا وكان فرضها على العراق يقصد به تفتيته واعداده للتقسيم ليس الا من خلال اجتثاث القوى الكبيرة الموحدة للشعب مثل البعث ومنع نشوء قوى كبيرة ودعم انشاء كتل صغيرة تسمى في الغرب ب( احزاب الفرد الواحد ) وهي كفيلة بالاعداد لتقسيم الدولة بعد تقسيم المجتمع ومسخ الهوية . ولهذا دعمت امريكا واسرائيل الشرقية اقامة اكثر من مائتي حزب !!!
افتضاح الرأسمالية اكد بقوة حقيقة مناقضة وهي ان الاشتراكية هي البديل الاوحد لكافة النظم الاجتماعية والاقتصادية في العالم كله بحكم احترامها لكينونة الانسان وقيامها على ضمان امنه الاجتماعي الشامل للغذاء والطب والتعليم...الخ ، فحينما توفر للانسان تلك الضمانات فانك تطلق طاقاته الخبيئة وتفجرها وتجعله انسانا مبدعا (لايترك للموت الا العظام النخرة واللحم الجاف) كما اكد القائد المؤسس احمد ميشيل عفلق رحمه الله في كتابنا المرجعي الاهم ( في سبيل البعث ) . الاشتراكية اذا هي الحل الاوحد الناجح لانها تحرر الانسان من الحاجة وتجفف منابع الفساد والجريمة والانتهازية وتنهي العبودية المتخفية تحت عباءات القبيلة والطائفة والتدين الشكلي .
والاشتراكية التي نعنيها ليست الاشتراكية الاممية بل هي الاشتراكية القومية المعبرة عن خصوصية كل شعب وتميزها مياسم مشتركة بقت وازدهرت وقاومت رياح التدمير الامريكية وابرزها :
أ- احترام المعتقدات الدينية دون التحول الى اداة دعوة دينية واخضاع رجال الدين للدولة الوطنية ،لان هزيمة الشيوعية السوفيتية كان احد اهم اسبابها الحاديتها فعزلت عن مئات الملايين من المؤمنين بالله ،وهذا يفرض فصل الاشتراكية عن اي مفهوم فلسفي يربطها بالالحاد ويبقيها خيارا اجتماعيا.
ب- تجنب منع الملكية كليا واطلاق الملكية الخاصة والمبادرة الفردية لانهما مصدر التنافس الابداعي ولكن ضمن نظام يقوده القطاع الاشتراكي .
ج- بناء الاشتراكية في اطار قومي وليس اممي مادام البشر تميزهم هوياتهم القومية وتقاليدهم الخاصة.
اشتراكية من هذه ؟ انها اشتراكية البعث ذات السمة القومية والخاصة بكل شعب وهي التي تزداد انتشارا وتحظى بقبول شعبي ، نتيجة الظلم الفادح الذي لحق بالبشرية جمعاء بعد هيمنة الرأسمالية المتوحشة وارتكابها ابشع الجرائم في التاريخ البشري ، وهذا القبول ليس في الوطن العربي فقط بل في العالم كله حيث نرى الان تعاظم الحركة العالمية المناهضة للرأسمالية والداعية لانهاء استغلالها البشع للانسان واقامة نظام عادل تضمن فيه الحقوق الاساسية للبشر خصوصا السكن والصحة والغذاء والتعليم والمساواة القانونية وهذه هي اسس الاشتراكية القومية التي تبناها البعث ودافع عنها طوال سبعين عاما وجاء الوقت الذي يؤكد فيه الناس حاجتهم اليها ونحن في العراق اكثر من يعرف معنى الاشتراكية واهميتها الوجودية للحياة بعد ان حرمنا من دولة الخدمات العامة في زمن البعث والتي كانت تمهد لقيام نظام اشتراكي .
د-توفير الحرية للفرد والجماعات وممارسة حقوقهم الديمقراطية في اطار المصلحة الوطنية والقومية العليا ، فالحرية هنا ليست ليبرالية ومطلقة لحد التحلل الاجتماعي والانساني كما نراه في الغرب لان الليبرالية ليست الا استجابة لحالة مجتمع متقدم فقد اغلب صلات الرحم الاجتماعي وحلت فيه الفردية والانانية والاغتراب النفسي والفكري والاجتماعي فكان لابد من نظام ليبرالي يجسد ويغذي بنفس الوقت النوازع الانانية والفردية والتي وصلت حد المرض النفسي في حالات ليست بالقليلة . فالليبرالية بهذا المعنى هي تعبير عن حالة شيخوخة المجتمع وانهياره وتفككه وليست مظهرا لنهوضه وحيويته وتماسكه الذي لايحدث الا بالتلاحم الشعبي والعمل الجماعي خصوصا وان والنهوض هو الضرورة الوجودية الاولى لمجتمعات العالم الثالث والتي لم تتعاظم فيها الفردية وتطغى عليها صلات الرحم الاجتماعي وصلات ما قبل الوطنية .
الليبرالية الغربية في اصولها سايكولوجيا ومفهوم اجتماعي وسياسي وظيفته الاساسية اطلاق او تعميق النزعات الفردية والانانية واعتبرها المحرك الاساس للانسان بكل ما فيها من عيوب تكوينية ويمكن السيطرة على الجوانب السلبية فيها بالقوانين وهو ما تروج له الانظمة الاستبدادية الغربية. اما في العالم الثالث فالوظيفة الاساسية لليبرالية الغريبة عليه كليا لانها نشأت في الغرب المتقدم هي تفتيت المجتمع والقوى السياسية بصورة منظمة ودورية والافساد التدريجي للانسان عبر دعم النوازع الفردية والانانية ، لانها عندما تطبق في مجتمع لم تنشأ فيه ولاتصلح له تخرب اهم روابط المجتمع العضوية ومداميكه وهذا مانراه في العراق المحتل ايرانيا وامريكيا ونعيشه بكل مأسيه البرلمانية والحزبية الفاسدة والمفسدة .
الليبرالية اذا هي العدو الاول للانسان والتهديد المميت لحريته ذاتها وكرامته الانسانية فهي وكما نرى ذلك في واقع الغرب تدفع الانسان ليكون متوحشا في انانيته مهما تظاهر بالتحضر الشكلي، ولانها وحشية ببنيتها فانها ترميه في شيخوخته في دور العجزة بعد ان امتصته الرأسمالية وانتهت فائدته ، وفي العالم الثالث تحول الليبرالية الانسان الى وحش اعمى اساس توحشه التعبير عن انانية مفرطة نمتها عوامل الحرمان مع الاتاحة المتعمدة امريكيا وايرانيا لفرص الكسب غير المشروع ، فتفضي الى الفساد الشامل والتشرذم المبرمجين كما رأينا ونرى ذلك في العراق المحتل . يتبع.
Almukhtar44@gmail.com
31-1-2018