اقام نادرشاه حملة لحصار الموصل ,بعد ان سمع الناس بهذه الحملة أهاب والي الموصل حسين باشا الجليلي بالشباب والرجال بل وحتى الشيوخ للتطوع والدفاع عن المدينة ، وقد غلقت المدينة أبوابها ، فهي لا تفتح الا ساعة في الصباح لخروج المزارعين وساعة في المساء عند عودتهم ، بعد التعرف عليهم واحداً تلو
الآخر.كانت للموصل آنذاك أبواب عدّة: باب العمادي ، باب السراي ، باب الشط ، باب سنجار ، باب العراق ، باب الجسر ، باب لكش ، باب البيض ، وباب الطوب .. أبوابٌ ثقيلة مصنوعة من الخشب الجوز ومبطنة بأحزمة من حديد محروسة ليلاً ونهاراً ، ان والي الموصل (حسين باشا الجليلي )رجل حصيف وعاقل ، وله ما يبرر قراره ، وهو واحد من أهل البلد ليس غريباً عنهم ، كما انه مقاتل غيور وبطل معركة الغزلاني جنوب الموصل ، الذي تصدى في 15شوال 1145هـ/آذار 1732م للقوات الفارسية بقيادة نركز خان ، على رأس ثمانية آلاف مقاتل ، فقتل القائد الفارسي وأبيدت معظم قواته .. وفر الباقون باتجاه بغداد التي كانت
تحاصرها آنذاك قوات نادر شاه ، ان نركز خان هذا وجنوده فتكوا بسكان القرى الممتدة مع ساحل النهر وسَبَوا النساء وأسروا الرجال .. ونهبوا خيراتها ، كانت موجة مغولية بغيضة .. فكأنّهم لم يدخلوا الإسلام ولم يلامس الإيمان قلوبهم ، بل هم كذلك ، اوباش أجلاف لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً فكانت أخبار تقدم نادر شاه الذي لم ينسَ هزيمة جيش (تركز خان) على يد أهل الموصل فجهز جيشاً جراراً قوامه ثلاثمائة وسبعون ألفاً من مختلف الأقوام وتقدم فاحتل سهل شهرزور ثم استباح كركوك بوحشية لا مثيل لها بعد قصفها بالقنابل لمدة ثمانية أيام ، فقتل الكثير من مواطنيها فلم يتمكن ابناؤها من الصمود ، فاستسلمت كركوك له وزحف إلى اربيل فاستباحها وقبيل توجه الجيوش إلى الموصل ،أخذ أهالي الموصل يكدسون الأرزاق والمؤن والوقود لأنهم مقبلون على المعركة والصمود في وجه الغزو ، وفضلوا الدفاع والموت في مدينتهم على التشرد والسبي ، وصارت المؤونة عادة لأهل الموصل منذ ذلك اليوم .وفي صباح يوم موصلي استيقظ الاهالي على صوت قنابل جيش (نادر شاه) الذي واصل سيره حتى أحاط بالموصل وقد حشد قواته في منطقة (يارمجة) ونصب جسراً من هناك وعبرت قواته لتحيط بالموصل من كل الجهات .. فكان يوم السادس من شعبان 1156هـ الموافق 25 أيلول 1743 أول أيام الحصار والحرب.استمر قصف المدينة طيلة ثمانية أيام ، قُدّرَ ما القي على الموصل بخمسين ألف قذيفة ، دكت كثيراً من البيوت وأطاحت بمعظم منائر المدينة كل شيء في الموصل يتحرك ، الرجال .. النساء .. الشيوخ .. والاطفال ، كل يحصّن داره ، وينقل الماء إليه تحسّباً للدفاع من بيت إلى بيت ، وقد أقسم الرجال كلهم على الموت ، والا يسلموا أعراضهم إلى المعتدين ، أخفيت الفتيات الصغيرات في سراديب متداخلة لا يهتدي إليها غريب ، وضعن بإمرة المرأة العاقلة ، ذات الحياء .. والخدر .. والدين زوجة حسين باشا الجليلي ورعايتها ، وقد تم نقل كل المحاصيل المحصودة إلى داخل الموصل ، لئلا يستفيد منها العدو ، أو يعمدوا إلى اتلافها ، وحفروا خندق عظيم حفره الأهالي حول الموصل ، وأجروا فيه الماء كمانع لعبور القوات الأثيمة كون والي الموصل جيشاً من اهلها شباب ورجالاً بزي عسكري موحد ، يحمل بعضهم بنادق وعتاد ، وآخرون يحملون السيوف يلبسون خوذات من الحديد وقد ربطوا زمزميات الماء بأحزمتهم مع جعبة للأرزاق ، وجوههم صارمة الملامح قد تغشاها الجد ، متأهبة للانطلاق ، شباب أشداء مفتولي العضل ، قد شمروا عن سواعدهم ، تُدخل رؤياهم الهيبة في النفوس وقد انتظموا على شكل مجاميع ، كل مجموعة معها قائدها ومراتبها ، وعلمت ان الأمر جلل فالساحة قد ملئت رجالاً يقدر عددهم ما بين التسعة آلاف والعشرة وهذه الساحة التي كانت تحيط بمقر الوالي انذاك (قلعة باشطابيا حالياً)وهي مقر القيادة وقد جعل أبناء عمه على حراسة أبراج المراقبة وكذلك أولاده.القوة العسكرية التي كانت في الساحة قد أغارت فجر الخميس على قوات نادر شاه باتجاه مقر قيادته خارج الموصل ، بقوة صاعقة سريعة الحركة واشتبكت مع العدو في منطقة (يارمجة) وأوقعت فيه خسائر فادحة وقتلت أحد قادة (نادر شاه) المسمى (جيلوخان) وانسحبت بكفاءة بعد أن اثارت الرعب في جيش العدو وأعطت درساً لطهماسب عن بسالة رجال الموصل.كان العمل مستمراً في البناء والترميم ورفع الأنقاض بهمة لا تفتر أبداً ، هذه توصيات الوالي فكل بيت يهدم يُعاد بناؤه بالحال ، ومسؤولية بنائه على أهل الحي في تعاون تام.وفي اليوم الثامن اذن المؤذنين من أعالي ما تبقى من منائر وقباب المساجد يهيبون بالأهالي للإسراع إلى جنوب الموصل ، حيث استطاعت مدفعية العدو إحداث ثغرة في السور بعد ثمانية أيام من القصف المركز الكثيف على السور.تدافع الناس كالسيل إلى منطقة (الثلمي) ينقلون التراب والحجارة بالأكياس وعربات النقل ، ويقاتل الرجال بعناد أذهلني وأثار نخوتي ، وقد شكّلوا سَداً بأجسامهم على طول الثغرة حتى تم ردمها وَصدّ المقاتلون العدو وأحبطوا أحلامه.استمرت المعركة سبع ساعات ,وكان من الشهداء من أعيان الموصل ومنهم السيد عثمان الجليلي ابن عم الوالي.حيث دفن في السور مع الشهداء جميعاً بملابسهم حسب اقتراح مفتي الموصل (يحيى أفندي الفخري) ليبعث إلى الأجيال رسالة لن تنسى.لملَمَتْ المدينة جراحها في الأيام التي أعقبت (معركة الثلمي) لم ييأس (نادر شاه) بعد فشل (معركة الثلمي) فدفع بمزيد من قواته عبر جسر من القوارب اقامه بين (القاضية) و (حاوي الكنيسة) واستكمل عبور قواته يوم 15شعبان1156هـ وجهزهم بألف سُلَّم.وخطط لمعركة جديدة في محاولة لنسف السور ، فقد تم الغام السور بالديناميت في ثلاث مناطق بين باب سنجار وقضيب البان ، فشل تفجير اثنين منها وانفجر الثالث باتجاه قوات (نادر شاه) ، فأحدث حرائق فنكت بهم وشردهم ، واستمر القصف المدفعي على السور ونصبت السلالم لتسلق السور ودارت رحى معركة رهيبة طاحت فيها رؤوس الغزاة من أعالي السلالم ، فقد كان رجال الموصل يتواثبون على الأسوار يقطعون أيدي الغزاة ورؤوسهم حتى بلغ عدد قتلى المعتدين خمسة آلاف وأربعمائة قتيل ، واستشهد من أبناء المدينة مئتين من الرجال يذكر ان القازوقجي والي حلب وفد مقاتلي الموصل بنفسه وألفين من شباب حلب ، اشتركوا في الدفاع عن الموصل يئس (نادر شاه) من أهل الموصل بعد فشل معركة (السلالم) ونفاد العتاد عنده ، فعمد إلى تحويل مجرى نهر دجلة عن المدينة فوصف ذلك شاعرنا الذي حضر المعركة (خليل البصير المتوفي سنة 1163هـ) فبان بيننا سمات القحط ... حتى حُرمنا شرب ماء الشط فأمر الباشا دون تردد أن يحفر الناس الآبار الخاصة وأمر بحفر آبار عامة لسقاية المدينة.في الليلة الثالثة والثلاثين من حصار المدينة بعث الوالي الجليلي (شاحوذ الفحام ) وهو من ابطال الموصل تسلل الى خيمة (طهماسب) و وضع رسالة لنادر شاه تحت وسادته وغرسها بالخنجر ورجع الى الوالي و وصله في صلاة الفجر في جامع (يحيى أبي القاسم) وبشره بنجاح المهمةبعدها في الصباح خضَّبَ (نادر شاه) يديه الآثمتين بدماء حراسه بعد أن أراهم الخنجر والرسالة ، ثم أرسل في طلب (ملا باشي علي أكبر) كبير علمائه ، وطلب منه أن يصالح أهل الموصل على أن ينسحب بجيشه وليحفظوا له ماء وجهه بعدد من الخيول العربية الأصيلة وراسل (علي أكبر) ، (يحيى افندي الفخري) .. وانسحب يجر أذيال الخيبة مثقلاً بالضحايا من جيشه وبالآثام.في الرابع من رمضان 1156هـ بعد حصار استمر أربعين يوماً وبعد احتفالات النصر وصلاة الشكر ، التي أقيمت في جوامع الموصل