في سنة سبع عشرة وثلاثمائة هاجم قرامطة البحرين مكة المكرمة في موسم الحج، وأعملوا السيوف في رقاب الحجيج، واستحلوا حرمة البيت الحرام، فخلعوا باب الكعبة، وسلبوا كسوتها الشريفة، واقتلعوا الحجر الأسود من مكانه، واحتملوه إلى بلادهم، وأعملوا السل والنهب في البلد الحرام،وقتلوا زهاء ثلاثين ألفا من أهل البلد ومن الحجاج وسبوا النساء والذراري، وانقلبوا إلى بلادهم يحملون الحجر الأسود حيث أبقوه عندهم نحو اثنتين وعشرين سنة، ثم أعادوه إلى مكة.
فمن هم القرامطة؟ وما هي معتقداتهم؟ وما السبب الذي دعاهم إلى انتهاك الحرمات، والكيد للإسلام وأهله على هذا النحو المريع؟ وما وقائع هذا الحادث بالتفصيل؟ وماذا كان هدفهم من انتزاع الحجر الأسود؟ وما الصفة التي ردوه عليها؟ ولماذا ردوه؟.
يقوم هذا البحث بالرد على هذه الأسئلة في شيء من الإيجاز معتمدا على عدد من المصادر الأصلية في الموضوع من عربية وفارسية، وهي المصادر التي وردت فيها أخبار ها الحدث منبثة ومتفرقة، ضمن أخبار القرامطة، ومن ثم أصبح لزاما علينا إلا نعني إلا بهذا الحادث وحده، ولا نلقي بالا إلى الوقائع والأحداث الأخرى المتداخلة معهم الله إلا إذا كانت هذه الأحداث والوقائع تلقى ضوءا أو تفسر غامضا من الحدث الرئيسي الذي خصصناه لهذا البحث.
وتنسب القرامطة إلى مؤسسها حمدان بن الأشعث الملقب بقرمط وكان قد قدم من خوزستان ونزل بموضع في الكوفة حوالي سنة 273 وتظاهر بالزهد والورع والتقشف، وكان ينسج الخوص، ويأكل من كسب يده، ويكثر من الصلاة، وأقام على ذلك زمنا، وكان إذا تردد عليه الناس وجلسوا إليه، حدثهم أمر الدين وزهده في الدنيا، وأخبرهم أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في اليوم والليلة، حتى نشا ذلك بموضعه، ثم أعلمهم أنه يدعو إلى إمام من أهل البيت، فأقام على الدعاية حتى اجتمع حوله أناسا كثيرون.
والقرامطة ينتمون إلى الإسماعيلية، وهي طائفة من طوائف الشيعة، وقد أتقن هؤلاء الإسماعيلية فنون الدعوة إلى مذهبهم كل الإتقان، وبثوا دعاتهم في المناطق المتطرفة وبين الناس يغلب عليهم الجهل وقلة النظر والبحث، فيستميلون الناس إلى مذهبهم.
ولا شك أن نظرية الإمامة هي أهم مبادئ هذا المذهب، وهي الفيصل بينهم وبين سائر مذاهب الشيعة، فهم يقولون أن العالم لم يخل من أمام ولن يخلو من أمام، فالإمامة متسلسلة من آدم عليه السلام، ولا بد أن يكون ابن أماما، وابن ابنه الذي سوف يتولى الإمامة من بعده، قد ولد أو انفصل عن صلبه، ويقولون أن هذا هو المعنى الآية ((ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)) [آل عمران:34]، والآية ((وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ)) [الزخرف:28]، فلما احتج علي الشيعة بالحسن بن علي، وكان إماما باتفاق الشيعة أجمعين، بينما لم يكن ابنه إماما، قالوا أن إمامته مستودعة، أي لم تكن ثابتة أو مستقرة، أو هي عارية، أما إمامة الحسين فكانت مستقرة، والآية ((فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)) [الأنعام:98]، تشير إلى ذلك.
ولا يكون الإمام ظاهرا على الدوام، فهو أحيانا يظهر وأحيانا يستتر، مثله في ذلك مثل الليل والنهار متعاقبان.
ومن أهم النظريات الفارقة عندهم نظرية التأويل، أي تفسير النصوص على غير ظاهرها، فهم يقولون بأن الرسل هم أصحاب التنزيل والأئمة أصحاب التأويل.
والأئمة كانوا دائما موجودين إلى جانب الرسل، فكل رسول يصحبه أمام مهمته تأويل وحي الله إلى الرسول، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة الإمام.
والتأويل عندهم هو الباطن، وللشريعة عندهم ظاهر وباطن فإذا كان الإنسان عارفا بباطن الشريعة فلا شي إن هو استهان بالظاهر ولم يؤدي الفرائض، ولم يحل الحلال ويحرم الحرام.
ويشير الوزير السلجوفي نظام الملك في كتابة سياسة تامة إلى أن القرامطة ما هم إلى فرقة من الفرق الباطنية التي انتشرت كل حين في أرجاء العالم الإسلامي، وتسمت باسم مختلف، في حسن أن عقائدها كلها متشابهة، وهم يضرون الكيد، ويكنون الحقد للأمة الإسلامية ويتربصون بها الدوائر، ويطلق عليهم في بغداد وما وراء النهر وغزنة قرمطية، وفي الكوفة مباركيه، وفي البصرة رواندية وبرقمية، وفي الرس خلفية وباطنية، وفي كزكان محمرة، وفي الشام مبيضة، وفي المغرب سعيدية، وفي الحسا والبحرين جنابية، وفي اصفهان باطنية، بينما هم يسمون أنفسهم) تعليمية) أي أنهم لا يبرءون أمرا أو يأتون عملا إلا بناء على تعليمات أمامهم الحي القائم أبدا، ولي لهم من هدف إلا الإطاحة بالإسلام وهم أعداء لأهل ببيت رسول الله عليه السلام...
وكان مبدأ أمرهم في البحرين (القديمة) وكانت بداية القرامطة هناك أن أحد دعاتهم خرج إلى) القطيف) عاصمة البحرين وأعظم مدنها في الإسلام، والتقى بمن بها من الشيعة وأخبرهم أنه رسول المهدي إليهم، وقد قرب خروجه وأوصاهم بالاستعداد والتأهب، وكان عددهم لا يزيد على ثمانمائة، وكان من بينهم رجل يسمى بأبي سعيد الحسين بن بهرام الجنابي، بصفه القاضي عبد الجبار الهمذاني بقوله:) كان يبيع الطعام والدقيق في أحدى قرى البحرين، وكان شويسرا فاسقا جاهلا لا يعرف من كتاب الله شيئا، ولا من سنة نبية ولا شيئا من الأدب، ولا شغل له إلا بالمعاش.
وقد عظم أمرهم بالبحرين فأغاروا على نواحيها، وقرب بعضهم من البصرة، وكان ذلك في سنة سبع وثمانين ومائتين (287 هـ)، ونادي أبو سعيد الجنابي في الناس حين سيطر على منقطة البحرين بعد أن هزم الجيوش التي جردها الخليفة العابس لقتالهم – بأنه رسول الإمام وبأن الإمام مقيم في بعض هذه الجبال، وهو المهدي، وأنه في سنة ثلاثمائة للهجرة يخرج ويملك الأرض لكها.
فلما كانت سنة ثلاثمائة لم يظهر الإمام الموعود، ولم يلبث أبو سعيد نفسه أن قتل، فتله خادم من خدمه في الحمام في سنة أحدى وثلاثمائة (301).
ولما قتل أبو سعيد كان قد استولى على هجر والإحساء والقطيف والطائف وسائر بلاد البحرين.
ومن استقراء تطور الأحداث في تلك الفترة نلاحظ على القرامطة ما يلي:
1- أنهم كانوا من الإسماعيلية يدعون إلى أن الإمامة قائمة في أبناء محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وأن أمامهم قائم حي، وأعلنوا أنهم ليسوا كالرافضة والاثنى عشرية الذين يقولون أن لهم أماما ينتظرونه.
2- تمكن القرامطة من فتنة عدد كبير من الفلاحين وأهل البادية، وضموهم إلى مذهبهم، ووعدوهم بأن التوبة عليهم لكن يمسكوا أزمة الأمور في هذا العالم، بعد أن كانوا مستضعفين مستذلين، يستغلهم سادتهم من الحكام والأغنياء، وكانوا يكتبون على أعلامهم التي يرفعونها أثناء القتال الآية الشريفة: ((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)) [القصص:5]( ).
3- كان القرامطة يتدرجون في دعوتهم للناس، فيدعون إلى التشيع وإلى إمام من أهل البيت، ثم يتدرجون شيئاً فشيئاً إلى الغلو والإباحة، يقول القاضي عبد الجبار عنهم: (ألا ترى أن من بالإحساء من القرامطة والباطنية لما غلبوا شتموا الأنبياء، وعطلوا الشرائع وقتلوا الحجاج والمسلمين حتى أفنوهم، واستنجوا بالمصاحف والتوراة والإنجيل، وجاءوا برجل يقال له: زكرويه الأصفهاني المجوسي، وقالوا: هذا هو الآله في الحقيقة، وعبدوه..... وكل هؤلاء كانوا في أول أمرهم يخدعون الناس بأنهم شيعة، وأن المهدي أرسلهم.
ثم يشير القاضي عبد الجبار: إلى أنهم كانوا يسترون عقائدهم فلا يكاشفون العامة بشتم الأنبياء وتعطيل الشرائع، وإنما يخدعون الناس سراً، وينقلونهم عن الإسلام بالحيل والأيمان من حيث لا يشعرون شيئاً فشيئاً، وهم يقصدون بدعوتهم الديلم والأعراب، وكل من يقل بحثه ونظره، وله رغبه بالدنيا، وشغل بها، ثم يقطعونهم عن البحث والنظر بالعهود ولإيمان المغلطة.
4- كان موقف القرامطة من الحجاج وقوافل الحج عجيبا، فقد بدأ تعرضهم للأفواج الأولى من القوافل منذ سنة أربع وتسعين ومائتين (294)، فكانوا يعملون فيها السيف، ويقتلون الرجال، ويغنمون الزاد والمال ويسبون النساء، ويأسرون الشيوخ والأطفال، ويسدون الآبار التي على الطرق بالجيف والرمال والأحجار فلا تجد القوافل المتابعة على الطريق ماء، فيحاربونها وأصحابها على غير ماء، فيضطرون للتسليم من شدة العطش، فيفعلوا القرامطة بهم مثل فعلهم بمن سبقهم من الحجيج، وقد ذكر ثابت بن سنان في كتابة) تأريخ أخبار القرامطة) أن عدد القتلى في أحدى القوافل بلغ عشرين ألفا)
وعندما ولى أمر القرامطة بالبحرين أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي، الذي بدأ بالتعرض للحجاج سنة أحدى عشرة وثلاثمائة (311)، فنهب قوافل الحجاج من أهل بغداد والمشرق وأخذ جمالهن، وما أردا من أمتعتهم وأموالهم، ونسائهم وصبيانهم وعاد إلى هجر وترك الحجاج في مواضعهم، فمات أكثرهم جوعاً وعطشا ومن حر الشمس.
وسار أبو طاهر في السنة التالية، سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة (312) يريد الحاج أيضا، فاستولى على الكوفة، وكانت تقع في طريق القوافل إلى مكة، فانصرف الناس عن الحج ولم يحج أحد منهم في تلك السنة (12).
وتتابعت هجمات القرامطة على الحجاج في السنوات التالية، حتى هاجموا مكة، واقتلعوا الحجر الأسود سنة سبع وعشرة وثلاثمائة (317).
وربما كان أفضل من أرخ لهذا الحادث وأسهب في وصفه واستعص أطرافه، وبين غوامضه قاضي القضاء عبد الجبار الهمداني (المتوفى سنة 415 أو 416) أي أنه عاصر بعض من شهد حادث هجوم القرامطة واقتلاعهم الحجر الأسود، وقد أورد القاضي عبد الجبار وصفه لهذا الحادث في كتابه (تثبيت دلائل النبوة)، كما عاصر الحادث نفسه وأورد مختصرا له كل من أبي الحسن المسعودي (المتوفى سنة 345) في كتابة (التنبيه والإشراف).
وثابت بن سنان بن قرة الصابر (المتوفى سنة 365) في تأريخه عن القرامطة.
وسنعتمد على هذه المصادر الثلاثة في إيراد وصف مجمل لهذا الحدث:
غادر أبو طاهر القرمطي البحرين متجها إلى مكة فوصلها في أوائل ذي الحجة، وقد اجتمع الحجاج بها من كل مكان استعداد الأداء فريضة الحج فمنعه من بمكة من الحجاج وغيرهم من دخولها وحاربوه أياما، فلما لم يطقهم، أظهر أنه جاء حجا ومتقربا إلى لله، وأنه لا يحل لهم أن يمنعوه من بيت الله، وأنه أخوهم في الإسلام، وأظهر القرامطة أنهم محرمون، ونادوا بالتلبية، واستدعى رجلا من أئمة قريش بمكة وحلف له بالإيمان الغليظة أنه قد أمنه على دمائهم وأموالهم وحرمهم، وأنه لا يؤذي أحدا منهم، وأنه ما جاء إلا ليحج، إلا أصحاب الجند والسلطان، فإنه لا يؤمنهم، وقال: أنا لا أغدر..... ولو أردت ذلك لأمنت أصحاب السلطان ثم غدرت بهم، لكن لا لؤمنهم لأنهم يشربون الخمر، ويلبسون الحرير، ويعينون السلطان الذي يحجب عن الرعية، ويظلم اليتيم، والأرملة، ويشرب الخمر، وسمع القيان فازداد الناس به اغترارا، وقبلوا أمانة، وأفرجوا له حتى دخل مكة في ستمائة فارس وتسعمائة راجل، ووضع الناس السلاح.
فلما دخل وتمكن وسكن الناس، وثب بهم على غرة منهم، وقال لأصحابه: ضعوا السيف واقتتلوا كل من لقيتم، ولا تشتغلوا إلا بالقتل فل يزل كذلك ثلاثة أيام، ولاذ المسلمون بالبيت، وتعلقوا بأستار الكعبة، فما نفعهم ذلك، وقتلوهم في المسجد الحرام، وما زالوا يقتلونه ويقولون لهم:)ومن دخلة كان آمنا)، أفأمنون أنتم يا حمير) أما ترون كذب صحابكم، وأمروا من يصعد لقلع الميزاب، فصعد وهو يقول مستهزئا: هو في السماء وبيته في الأرض!!
وسلب البيت، فاقتلع باب الكعبة، وكان مصفحا بالذهب، وأخذ جميع ما كان في البيت من المحاريب الفضة، والجزع وغيره، ومعاليق، وما يزين به البيت من مناطق ذهب وفضة، وقلع الحجر الأسود، ومقدار موضعه ما يدخل فيه اليد إلى أقل من المرفق، ثم جرد ما كان على البيت كسوة.
وقد اختلف الأقوال في عدد من قتل من الناس من أهل مكة وغيرهم من سائر الأنصار، فمكثر ومقلل، فمنهم من يقول ثلاثين ألفا، ومنهم من يقول دون ذلك وأكثر، وهلك في بطون الأودية و رؤوس الجبال والبراري عطشا وضرا ما لا يدركه الإحصاء.
أما من قتل في البيت الحرام فقد رماهم القرامطة في بئر زمزم حتى امتلأت بجثث القتلى.
وقد أشار نظام الملك في كتابة) سياسة تامة إلا أن القرامطة عندما فاجئوا الناس بالهجوم وأعملوا فيهم السيف، ألقى كثير من الناس بأنفسهم داخل الآبار، لكي يختفوا عن أنظار القرامطة، ولا يتعرضوا للقتل، ويعد انتهاء المذبحة، أمر أبو طاهر القرمطي أصحابه بأن يلقوا بجثث من قتلوهم في نواحي مكة في تلك الآبار، فوق الأحياء المختفين فيها حتى يموتوا بدروهم.
وبعد انتهاء هذه المذبحة أمر أصحابه بنهب الحجيج، فجمع شيئا عظيما من الذهب والفضة والجوهر والطيب، ومن متاع مصر واليمن، والعراق، وخراسان، وفارس وبلدان الإسلام كلها... وسبى من العلويات والهاشميات وسائر الناس نحو عشرين ألف رأس.
وقد ذكر المسعودي أن القرامطة بقوا في مكة ثمانية أيام يدخلونها غدوة ويخرجون منها عشيا، يقتلون وينهبون، حتى رحلوا عنها يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 317.
كما أشار المسعودي أيضا إلى أن القرمطي بعد خروجه من مكة عرضت له هذيل بن مدركة بن الياس ابن مضر، وهم رجاله في الضايق والشعاب والجبال، وحاربوه حربا شديدا بالنبل والخناجر ومنعوه من السير، واشتبهت عليهم الطرق، فأقاموا بذلك ثلاثة أيام حائرين بين الجبال والوديان، وتكن كثير من النساء والرجال المأسورين من الخلاص، واقتطعت هزيل ألوفا كثيرة من الأبل والثقلة، وكانت ثقلته على نحو مائة ألف بعير (14) عليها أصناف المال والأمتعة.
ويفهم من رواية أوردها الفاسي في كتابة (شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) (15) أن أبا طاهر القرمطي لم يكن يريد في مبدأ الأمر أن يقتلع الحجر الأسود، وإنما كان يريد الاستيلاء على مقام إبراهيم، ولكن) سدنة المسجد قد تقدموا إلى حمل المقام وتغبيبه في بعض شعاب مكة، فتألم لفقده إذ كان طلبه، فعاد عند ذلك إلى الحجر الأسود فعلقه.
والواقع أن المرء يحار عن السبب الذي دعا القرامطة إلى اقتلاع الحجر الأسود، وحمله معهم إلى البحرين، وربما نجد جواباً على ذلك عند الرحالة الاسماعيلى ناصر خسرو، الذي زار البحرين حوالي سنة 440، وكتب تقريرا مفصلا عن رحلته في بلاد القرامطة في كتابه) سفرنامه) وبين أن السبب في انتزاعهم الحجر الأسود أنهم زعموا أن الحجر مغناطيس يجذب الناي إليه من أطراف العالم، ويعقب ناصر خسروا بعد ذلك بقوله: لقد لبث الحجر الأسود في السا سنين عديدة، ولم يذهب إليها أحدا.
وهناك نص آخر أورده القاضي عبد الجبار ينقل فيه قولا لحفص عمر بن زرقان، وهو خال أبي طاهر القرمطي، في وقعه الحرم سنة 317 فبينما هذا الرجل) واقف حذاء) البيت والسيف يأخذ الناس، وهو على فرسه يضحك ويتلو: ((لِإِيلافِ قُرَيْشٍ)) [قريش:1]، حتى وصل إلى قوله: ((وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)) [قريش:4] قال: ما آمنهم من خوفنا، ظهر الباطن يا أهل مكة حجوا إلى البحرين، وهاجروا إلى الإحساء من قبل أن نطمس وجودها فنردها على أدبارها.
وبناء على هذا القول فأنه ربما يصح تفسير ناصر خسروا لحملهن الحجر الأسود إلى الإحساء من أنهم أرادوا أن يصرفوا الحج عن مكة إلى عاصمتهم في البحرين، وظنوا أنهم يستطيعون تحقيق هذا الهدف إذا هم نقلوا هذا المغناطيس، الذي يجعل قلوب الناس تهفوا إلى مكة المكرمة نقلوه إلى البحرين.
وتكاد المصادر الفارسية التي اهتمت بهذا الحدث تجمع على أن القرامطة عندما حملوا الحجر الأسود إلى بلادهم قطعوه نصفين ولم يشر من المصادر العربية إلى هذا الأمر إلا ابن جبير في رحلته، الذي ذكر في رحلة أن الحجر الأسود قطع إلى عدة قطع، والمقريزي في كتابة الذي قالأن شقوقا حدثت بعد انقلاعه.
وظل الحجر الأسود عندهم نحو اثنين وعشرين سنة، ثم حملوه وأتوا به إلى الكوفة فنصبوه في المسجد الجامع حتى يراه الناس، ثم حملوه إلى مكة وردوه في مكانه في الكعبة، وقالوا:) أخذناه بأمر ورددناه بامر).
وكان عدد من ملوك الإسلام قد طلبوا أن يستردوه بأي مبلغ من المال يحدده) القرامطة) وبذل بعض الملوك والأمراء لهم خمسين ألف دينار، فلم يردوه، وردوه في سنة 339 بغر شيء
وقد بعث الخليفة الفاطمي عبيد الله المهدي من بلاد المغرب إلى ابن طاهر القرمطي رسالة ملؤها التبديد واللعن، يقول له: [[أخفقت علينا سعينا، وأشبهت دولتا بالكفر والإلحاد بما فعلت متى لم ترد على أهل مكة ما أخذت، وتعيد الحجر الأسود إلى مكانة، وتعيد كسوة الكعبة فأنا برئ منك في الدنيا والآخرة]].
فلما وصلت هذه الرسالة أعيد الحجر إلى مكة.
فمن هم القرامطة؟ وما هي معتقداتهم؟ وما السبب الذي دعاهم إلى انتهاك الحرمات، والكيد للإسلام وأهله على هذا النحو المريع؟ وما وقائع هذا الحادث بالتفصيل؟ وماذا كان هدفهم من انتزاع الحجر الأسود؟ وما الصفة التي ردوه عليها؟ ولماذا ردوه؟.
يقوم هذا البحث بالرد على هذه الأسئلة في شيء من الإيجاز معتمدا على عدد من المصادر الأصلية في الموضوع من عربية وفارسية، وهي المصادر التي وردت فيها أخبار ها الحدث منبثة ومتفرقة، ضمن أخبار القرامطة، ومن ثم أصبح لزاما علينا إلا نعني إلا بهذا الحادث وحده، ولا نلقي بالا إلى الوقائع والأحداث الأخرى المتداخلة معهم الله إلا إذا كانت هذه الأحداث والوقائع تلقى ضوءا أو تفسر غامضا من الحدث الرئيسي الذي خصصناه لهذا البحث.
وتنسب القرامطة إلى مؤسسها حمدان بن الأشعث الملقب بقرمط وكان قد قدم من خوزستان ونزل بموضع في الكوفة حوالي سنة 273 وتظاهر بالزهد والورع والتقشف، وكان ينسج الخوص، ويأكل من كسب يده، ويكثر من الصلاة، وأقام على ذلك زمنا، وكان إذا تردد عليه الناس وجلسوا إليه، حدثهم أمر الدين وزهده في الدنيا، وأخبرهم أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في اليوم والليلة، حتى نشا ذلك بموضعه، ثم أعلمهم أنه يدعو إلى إمام من أهل البيت، فأقام على الدعاية حتى اجتمع حوله أناسا كثيرون.
والقرامطة ينتمون إلى الإسماعيلية، وهي طائفة من طوائف الشيعة، وقد أتقن هؤلاء الإسماعيلية فنون الدعوة إلى مذهبهم كل الإتقان، وبثوا دعاتهم في المناطق المتطرفة وبين الناس يغلب عليهم الجهل وقلة النظر والبحث، فيستميلون الناس إلى مذهبهم.
ولا شك أن نظرية الإمامة هي أهم مبادئ هذا المذهب، وهي الفيصل بينهم وبين سائر مذاهب الشيعة، فهم يقولون أن العالم لم يخل من أمام ولن يخلو من أمام، فالإمامة متسلسلة من آدم عليه السلام، ولا بد أن يكون ابن أماما، وابن ابنه الذي سوف يتولى الإمامة من بعده، قد ولد أو انفصل عن صلبه، ويقولون أن هذا هو المعنى الآية ((ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ)) [آل عمران:34]، والآية ((وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ)) [الزخرف:28]، فلما احتج علي الشيعة بالحسن بن علي، وكان إماما باتفاق الشيعة أجمعين، بينما لم يكن ابنه إماما، قالوا أن إمامته مستودعة، أي لم تكن ثابتة أو مستقرة، أو هي عارية، أما إمامة الحسين فكانت مستقرة، والآية ((فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)) [الأنعام:98]، تشير إلى ذلك.
ولا يكون الإمام ظاهرا على الدوام، فهو أحيانا يظهر وأحيانا يستتر، مثله في ذلك مثل الليل والنهار متعاقبان.
ومن أهم النظريات الفارقة عندهم نظرية التأويل، أي تفسير النصوص على غير ظاهرها، فهم يقولون بأن الرسل هم أصحاب التنزيل والأئمة أصحاب التأويل.
والأئمة كانوا دائما موجودين إلى جانب الرسل، فكل رسول يصحبه أمام مهمته تأويل وحي الله إلى الرسول، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة الإمام.
والتأويل عندهم هو الباطن، وللشريعة عندهم ظاهر وباطن فإذا كان الإنسان عارفا بباطن الشريعة فلا شي إن هو استهان بالظاهر ولم يؤدي الفرائض، ولم يحل الحلال ويحرم الحرام.
ويشير الوزير السلجوفي نظام الملك في كتابة سياسة تامة إلى أن القرامطة ما هم إلى فرقة من الفرق الباطنية التي انتشرت كل حين في أرجاء العالم الإسلامي، وتسمت باسم مختلف، في حسن أن عقائدها كلها متشابهة، وهم يضرون الكيد، ويكنون الحقد للأمة الإسلامية ويتربصون بها الدوائر، ويطلق عليهم في بغداد وما وراء النهر وغزنة قرمطية، وفي الكوفة مباركيه، وفي البصرة رواندية وبرقمية، وفي الرس خلفية وباطنية، وفي كزكان محمرة، وفي الشام مبيضة، وفي المغرب سعيدية، وفي الحسا والبحرين جنابية، وفي اصفهان باطنية، بينما هم يسمون أنفسهم) تعليمية) أي أنهم لا يبرءون أمرا أو يأتون عملا إلا بناء على تعليمات أمامهم الحي القائم أبدا، ولي لهم من هدف إلا الإطاحة بالإسلام وهم أعداء لأهل ببيت رسول الله عليه السلام...
وكان مبدأ أمرهم في البحرين (القديمة) وكانت بداية القرامطة هناك أن أحد دعاتهم خرج إلى) القطيف) عاصمة البحرين وأعظم مدنها في الإسلام، والتقى بمن بها من الشيعة وأخبرهم أنه رسول المهدي إليهم، وقد قرب خروجه وأوصاهم بالاستعداد والتأهب، وكان عددهم لا يزيد على ثمانمائة، وكان من بينهم رجل يسمى بأبي سعيد الحسين بن بهرام الجنابي، بصفه القاضي عبد الجبار الهمذاني بقوله:) كان يبيع الطعام والدقيق في أحدى قرى البحرين، وكان شويسرا فاسقا جاهلا لا يعرف من كتاب الله شيئا، ولا من سنة نبية ولا شيئا من الأدب، ولا شغل له إلا بالمعاش.
وقد عظم أمرهم بالبحرين فأغاروا على نواحيها، وقرب بعضهم من البصرة، وكان ذلك في سنة سبع وثمانين ومائتين (287 هـ)، ونادي أبو سعيد الجنابي في الناس حين سيطر على منقطة البحرين بعد أن هزم الجيوش التي جردها الخليفة العابس لقتالهم – بأنه رسول الإمام وبأن الإمام مقيم في بعض هذه الجبال، وهو المهدي، وأنه في سنة ثلاثمائة للهجرة يخرج ويملك الأرض لكها.
فلما كانت سنة ثلاثمائة لم يظهر الإمام الموعود، ولم يلبث أبو سعيد نفسه أن قتل، فتله خادم من خدمه في الحمام في سنة أحدى وثلاثمائة (301).
ولما قتل أبو سعيد كان قد استولى على هجر والإحساء والقطيف والطائف وسائر بلاد البحرين.
ومن استقراء تطور الأحداث في تلك الفترة نلاحظ على القرامطة ما يلي:
1- أنهم كانوا من الإسماعيلية يدعون إلى أن الإمامة قائمة في أبناء محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وأن أمامهم قائم حي، وأعلنوا أنهم ليسوا كالرافضة والاثنى عشرية الذين يقولون أن لهم أماما ينتظرونه.
2- تمكن القرامطة من فتنة عدد كبير من الفلاحين وأهل البادية، وضموهم إلى مذهبهم، ووعدوهم بأن التوبة عليهم لكن يمسكوا أزمة الأمور في هذا العالم، بعد أن كانوا مستضعفين مستذلين، يستغلهم سادتهم من الحكام والأغنياء، وكانوا يكتبون على أعلامهم التي يرفعونها أثناء القتال الآية الشريفة: ((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)) [القصص:5]( ).
3- كان القرامطة يتدرجون في دعوتهم للناس، فيدعون إلى التشيع وإلى إمام من أهل البيت، ثم يتدرجون شيئاً فشيئاً إلى الغلو والإباحة، يقول القاضي عبد الجبار عنهم: (ألا ترى أن من بالإحساء من القرامطة والباطنية لما غلبوا شتموا الأنبياء، وعطلوا الشرائع وقتلوا الحجاج والمسلمين حتى أفنوهم، واستنجوا بالمصاحف والتوراة والإنجيل، وجاءوا برجل يقال له: زكرويه الأصفهاني المجوسي، وقالوا: هذا هو الآله في الحقيقة، وعبدوه..... وكل هؤلاء كانوا في أول أمرهم يخدعون الناس بأنهم شيعة، وأن المهدي أرسلهم.
ثم يشير القاضي عبد الجبار: إلى أنهم كانوا يسترون عقائدهم فلا يكاشفون العامة بشتم الأنبياء وتعطيل الشرائع، وإنما يخدعون الناس سراً، وينقلونهم عن الإسلام بالحيل والأيمان من حيث لا يشعرون شيئاً فشيئاً، وهم يقصدون بدعوتهم الديلم والأعراب، وكل من يقل بحثه ونظره، وله رغبه بالدنيا، وشغل بها، ثم يقطعونهم عن البحث والنظر بالعهود ولإيمان المغلطة.
4- كان موقف القرامطة من الحجاج وقوافل الحج عجيبا، فقد بدأ تعرضهم للأفواج الأولى من القوافل منذ سنة أربع وتسعين ومائتين (294)، فكانوا يعملون فيها السيف، ويقتلون الرجال، ويغنمون الزاد والمال ويسبون النساء، ويأسرون الشيوخ والأطفال، ويسدون الآبار التي على الطرق بالجيف والرمال والأحجار فلا تجد القوافل المتابعة على الطريق ماء، فيحاربونها وأصحابها على غير ماء، فيضطرون للتسليم من شدة العطش، فيفعلوا القرامطة بهم مثل فعلهم بمن سبقهم من الحجيج، وقد ذكر ثابت بن سنان في كتابة) تأريخ أخبار القرامطة) أن عدد القتلى في أحدى القوافل بلغ عشرين ألفا)
وعندما ولى أمر القرامطة بالبحرين أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي، الذي بدأ بالتعرض للحجاج سنة أحدى عشرة وثلاثمائة (311)، فنهب قوافل الحجاج من أهل بغداد والمشرق وأخذ جمالهن، وما أردا من أمتعتهم وأموالهم، ونسائهم وصبيانهم وعاد إلى هجر وترك الحجاج في مواضعهم، فمات أكثرهم جوعاً وعطشا ومن حر الشمس.
وسار أبو طاهر في السنة التالية، سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة (312) يريد الحاج أيضا، فاستولى على الكوفة، وكانت تقع في طريق القوافل إلى مكة، فانصرف الناس عن الحج ولم يحج أحد منهم في تلك السنة (12).
وتتابعت هجمات القرامطة على الحجاج في السنوات التالية، حتى هاجموا مكة، واقتلعوا الحجر الأسود سنة سبع وعشرة وثلاثمائة (317).
وربما كان أفضل من أرخ لهذا الحادث وأسهب في وصفه واستعص أطرافه، وبين غوامضه قاضي القضاء عبد الجبار الهمداني (المتوفى سنة 415 أو 416) أي أنه عاصر بعض من شهد حادث هجوم القرامطة واقتلاعهم الحجر الأسود، وقد أورد القاضي عبد الجبار وصفه لهذا الحادث في كتابه (تثبيت دلائل النبوة)، كما عاصر الحادث نفسه وأورد مختصرا له كل من أبي الحسن المسعودي (المتوفى سنة 345) في كتابة (التنبيه والإشراف).
وثابت بن سنان بن قرة الصابر (المتوفى سنة 365) في تأريخه عن القرامطة.
وسنعتمد على هذه المصادر الثلاثة في إيراد وصف مجمل لهذا الحدث:
غادر أبو طاهر القرمطي البحرين متجها إلى مكة فوصلها في أوائل ذي الحجة، وقد اجتمع الحجاج بها من كل مكان استعداد الأداء فريضة الحج فمنعه من بمكة من الحجاج وغيرهم من دخولها وحاربوه أياما، فلما لم يطقهم، أظهر أنه جاء حجا ومتقربا إلى لله، وأنه لا يحل لهم أن يمنعوه من بيت الله، وأنه أخوهم في الإسلام، وأظهر القرامطة أنهم محرمون، ونادوا بالتلبية، واستدعى رجلا من أئمة قريش بمكة وحلف له بالإيمان الغليظة أنه قد أمنه على دمائهم وأموالهم وحرمهم، وأنه لا يؤذي أحدا منهم، وأنه ما جاء إلا ليحج، إلا أصحاب الجند والسلطان، فإنه لا يؤمنهم، وقال: أنا لا أغدر..... ولو أردت ذلك لأمنت أصحاب السلطان ثم غدرت بهم، لكن لا لؤمنهم لأنهم يشربون الخمر، ويلبسون الحرير، ويعينون السلطان الذي يحجب عن الرعية، ويظلم اليتيم، والأرملة، ويشرب الخمر، وسمع القيان فازداد الناس به اغترارا، وقبلوا أمانة، وأفرجوا له حتى دخل مكة في ستمائة فارس وتسعمائة راجل، ووضع الناس السلاح.
فلما دخل وتمكن وسكن الناس، وثب بهم على غرة منهم، وقال لأصحابه: ضعوا السيف واقتتلوا كل من لقيتم، ولا تشتغلوا إلا بالقتل فل يزل كذلك ثلاثة أيام، ولاذ المسلمون بالبيت، وتعلقوا بأستار الكعبة، فما نفعهم ذلك، وقتلوهم في المسجد الحرام، وما زالوا يقتلونه ويقولون لهم:)ومن دخلة كان آمنا)، أفأمنون أنتم يا حمير) أما ترون كذب صحابكم، وأمروا من يصعد لقلع الميزاب، فصعد وهو يقول مستهزئا: هو في السماء وبيته في الأرض!!
وسلب البيت، فاقتلع باب الكعبة، وكان مصفحا بالذهب، وأخذ جميع ما كان في البيت من المحاريب الفضة، والجزع وغيره، ومعاليق، وما يزين به البيت من مناطق ذهب وفضة، وقلع الحجر الأسود، ومقدار موضعه ما يدخل فيه اليد إلى أقل من المرفق، ثم جرد ما كان على البيت كسوة.
وقد اختلف الأقوال في عدد من قتل من الناس من أهل مكة وغيرهم من سائر الأنصار، فمكثر ومقلل، فمنهم من يقول ثلاثين ألفا، ومنهم من يقول دون ذلك وأكثر، وهلك في بطون الأودية و رؤوس الجبال والبراري عطشا وضرا ما لا يدركه الإحصاء.
أما من قتل في البيت الحرام فقد رماهم القرامطة في بئر زمزم حتى امتلأت بجثث القتلى.
وقد أشار نظام الملك في كتابة) سياسة تامة إلا أن القرامطة عندما فاجئوا الناس بالهجوم وأعملوا فيهم السيف، ألقى كثير من الناس بأنفسهم داخل الآبار، لكي يختفوا عن أنظار القرامطة، ولا يتعرضوا للقتل، ويعد انتهاء المذبحة، أمر أبو طاهر القرمطي أصحابه بأن يلقوا بجثث من قتلوهم في نواحي مكة في تلك الآبار، فوق الأحياء المختفين فيها حتى يموتوا بدروهم.
وبعد انتهاء هذه المذبحة أمر أصحابه بنهب الحجيج، فجمع شيئا عظيما من الذهب والفضة والجوهر والطيب، ومن متاع مصر واليمن، والعراق، وخراسان، وفارس وبلدان الإسلام كلها... وسبى من العلويات والهاشميات وسائر الناس نحو عشرين ألف رأس.
وقد ذكر المسعودي أن القرامطة بقوا في مكة ثمانية أيام يدخلونها غدوة ويخرجون منها عشيا، يقتلون وينهبون، حتى رحلوا عنها يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 317.
كما أشار المسعودي أيضا إلى أن القرمطي بعد خروجه من مكة عرضت له هذيل بن مدركة بن الياس ابن مضر، وهم رجاله في الضايق والشعاب والجبال، وحاربوه حربا شديدا بالنبل والخناجر ومنعوه من السير، واشتبهت عليهم الطرق، فأقاموا بذلك ثلاثة أيام حائرين بين الجبال والوديان، وتكن كثير من النساء والرجال المأسورين من الخلاص، واقتطعت هزيل ألوفا كثيرة من الأبل والثقلة، وكانت ثقلته على نحو مائة ألف بعير (14) عليها أصناف المال والأمتعة.
ويفهم من رواية أوردها الفاسي في كتابة (شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) (15) أن أبا طاهر القرمطي لم يكن يريد في مبدأ الأمر أن يقتلع الحجر الأسود، وإنما كان يريد الاستيلاء على مقام إبراهيم، ولكن) سدنة المسجد قد تقدموا إلى حمل المقام وتغبيبه في بعض شعاب مكة، فتألم لفقده إذ كان طلبه، فعاد عند ذلك إلى الحجر الأسود فعلقه.
والواقع أن المرء يحار عن السبب الذي دعا القرامطة إلى اقتلاع الحجر الأسود، وحمله معهم إلى البحرين، وربما نجد جواباً على ذلك عند الرحالة الاسماعيلى ناصر خسرو، الذي زار البحرين حوالي سنة 440، وكتب تقريرا مفصلا عن رحلته في بلاد القرامطة في كتابه) سفرنامه) وبين أن السبب في انتزاعهم الحجر الأسود أنهم زعموا أن الحجر مغناطيس يجذب الناي إليه من أطراف العالم، ويعقب ناصر خسروا بعد ذلك بقوله: لقد لبث الحجر الأسود في السا سنين عديدة، ولم يذهب إليها أحدا.
وهناك نص آخر أورده القاضي عبد الجبار ينقل فيه قولا لحفص عمر بن زرقان، وهو خال أبي طاهر القرمطي، في وقعه الحرم سنة 317 فبينما هذا الرجل) واقف حذاء) البيت والسيف يأخذ الناس، وهو على فرسه يضحك ويتلو: ((لِإِيلافِ قُرَيْشٍ)) [قريش:1]، حتى وصل إلى قوله: ((وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)) [قريش:4] قال: ما آمنهم من خوفنا، ظهر الباطن يا أهل مكة حجوا إلى البحرين، وهاجروا إلى الإحساء من قبل أن نطمس وجودها فنردها على أدبارها.
وبناء على هذا القول فأنه ربما يصح تفسير ناصر خسروا لحملهن الحجر الأسود إلى الإحساء من أنهم أرادوا أن يصرفوا الحج عن مكة إلى عاصمتهم في البحرين، وظنوا أنهم يستطيعون تحقيق هذا الهدف إذا هم نقلوا هذا المغناطيس، الذي يجعل قلوب الناس تهفوا إلى مكة المكرمة نقلوه إلى البحرين.
وتكاد المصادر الفارسية التي اهتمت بهذا الحدث تجمع على أن القرامطة عندما حملوا الحجر الأسود إلى بلادهم قطعوه نصفين ولم يشر من المصادر العربية إلى هذا الأمر إلا ابن جبير في رحلته، الذي ذكر في رحلة أن الحجر الأسود قطع إلى عدة قطع، والمقريزي في كتابة الذي قالأن شقوقا حدثت بعد انقلاعه.
وظل الحجر الأسود عندهم نحو اثنين وعشرين سنة، ثم حملوه وأتوا به إلى الكوفة فنصبوه في المسجد الجامع حتى يراه الناس، ثم حملوه إلى مكة وردوه في مكانه في الكعبة، وقالوا:) أخذناه بأمر ورددناه بامر).
وكان عدد من ملوك الإسلام قد طلبوا أن يستردوه بأي مبلغ من المال يحدده) القرامطة) وبذل بعض الملوك والأمراء لهم خمسين ألف دينار، فلم يردوه، وردوه في سنة 339 بغر شيء
وقد بعث الخليفة الفاطمي عبيد الله المهدي من بلاد المغرب إلى ابن طاهر القرمطي رسالة ملؤها التبديد واللعن، يقول له: [[أخفقت علينا سعينا، وأشبهت دولتا بالكفر والإلحاد بما فعلت متى لم ترد على أهل مكة ما أخذت، وتعيد الحجر الأسود إلى مكانة، وتعيد كسوة الكعبة فأنا برئ منك في الدنيا والآخرة]].
فلما وصلت هذه الرسالة أعيد الحجر إلى مكة.