بداية وقبل الغوص في حيثيات الدور الروسي المستجد في الشرق الأوسط عموما وسوريا بشكل خاص، لنعد بالذاكرة إلى الوراء، بحيث أصبح 9 أيار من كل عام يوما روسيا وطنيا (الانتصار على الفاشية)!!
ففي العام 1945 ظهرت أول مقالة في صحيفة البرافدا الروسية تحت عنوان "صباح السلام، وطني أنت انتصرت "
إن المتتبع للسياسة الروسية في منطقة الشرق الأوسط يجد أن التحركات الروسية الأخيرة ما هي إلا خطوات تنفيذية لتوجهات حكمت السياسة الروسية منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.
ففي مطلع التسعينات من القرن الماضي، وما إن بدأت روسيا تستعيد عافيتها، نجح بوتين في إعادة ترتيب البيت الروسي من الداخل خلال فترة رئاسته الأولى مع بلورة التوجهات العامة لسياسته الخارجية لاسيما تجاه منطقة الشرق الأوسط، وفي ظل وجود بوتين في قصر الكرملين وطموحاته الشخصية المتجددة لإعادة بناء قوة اقتصادية-سياسية ( أوراسيا ) في منطقة نفوذ روسيا الجيو - سياسي، والتي سوف يكون لروسيا دور مميز بالتعددية القطبية العالمية.
فاتجهت السياسة الخارجية الروسية شرقا بعد رفض محاولاتها الالتحاق بالكتلة الأوروبية الغربية!!!
وهي لا تسعى إلى تكتل أو حلف جيواستراتيجي مناوئ للمنظومة الأورو- أطلنطية، وتحاول من خلال الانضمام إلى تكتلات مثل منظمة معاهدة الأمن المشترك أو مجموعة "البريكس " تحجيم إمكانات المد الغربي على الأقل قرب حدودها، لكن جميع هذه المنظمات ضعيفة ولا تعد منافسا حقيقيا لحلف الناتو.
هذا فضلا عن عديد الملفات الدولية الأخرى التي كانت مطروحة أمام روسيا في ظل الصراع الدولي والدبلوماسي الذي تخوضه في المجتمع الدولي، ابتداء من إيران والربيع العربي ومشروع ( الدرع الصاروخية ) التي تحاول أن تنشر في أوروبا، وكذلك إعادة التسلح وبناء القوة الصاروخية والدفاعية لروسيا، إضافة للوضع الداخلي لروسيا.
فروسيا لا تبحث عن هيمنة سياسية وليس ضمن أولوياتها أي مواجهات حادة مع الولايات المتحدة خاصة في منطقة أصبحت تحت النفوذ الأمريكي المباشر سياسيا وعسكريا، كما لم تتغير في سياساتها الخارجية منذ أكثر من ثلاثة قرون ( الأولوية الوصول للمياه الدافئة أي البحر الأبيض المتوسط ).
وفي المقلب الآخر يمكن القول بأن الأمريكان ما زالوا يعتبرون الروس عنصراً مزعجاً ومعيقاً لتطلعات التوسع الاقتصادي الاستراتيجي نحو آسيا الوسطى، وثبت ذلك في مواجهة أحداث أوكرانيا وجزر القرم، التي انتصر فيها الروس على الغرب بعض الشيء، وكان لهم الصوت الأعلى في توجيه الأحداث، وهو ما أثار الأمريكان على ما يبدو وربما دفعهم لاستدراج جديد للروس.
وتسعى روسيا، في الظرف الراهن وعبر تدخلها في سورية وإقامة تحالفات مختلفة مع بعض الدول، إلى إظهار نفسها للعالم أنها ما زالت دولة قوية ذات شأن، وإن لم تعد كما كانت عليه أيام الاتحاد السوفييتي على عكس الولايات المتحدة التي لا تحتاج إلى إثبات ذلك، إذ يكفي مجرد وجودها واحتمال تدخلها في منطقة أو دولة ما لإضفاء جدية على الوضع العام.
لذلك، هي تتردد كثيراً قبل أي تدخل، ولا تتصرف إلا عندما يكون هنالك ضرورة ترجيح قوة على أخرى.
وليس سرا أن الأميركيين مسرورون بالتدخل الروسي، ويرونه فرصة للحد من عنجهية بوتين.
وقد عبر توماس فريدمان في مقال له بصحيفة نيويورك تايمز بتاريخ ( 30 \9\2015 ) عن الانتهازية الأميركية في التعامل مع مغامرة بوتين في سوريا فقال: " إن بوتين سيواجه غضب العالم الإسلامي بأسره، بما فيه المسلمين الروس ". وسيجد نفسه في وضْع "مَن تسلق شجرة لا يستطيع النزول منها." وأضاف: " إن تسُّرع بوتين للتورط في سوريا ربما هو الذي سيرغمه في النهاية إلى البحث عن حل سياسي هناك."
لقد تعاملت واشنطن مع موسكو كدولة عادية وليس كعضو في مجلس الأمن حيث الكبار في السياسة في زمننا الحاضر.
ويمكننا من خلال هذا التأكيد على أن سوريا كانت الورقة التي تحرص روسيا من خلالها بالعودة الى نادي الكبار في السياسة الدولية.
أما واشنطن فتبدو أكثر تحفظا وهذا قد لا يعكس ضعف بقدر ما يعكس امتحان قدرة الآخرين على التحرك بدون واشنطن.
خلال الأزمات المشار لها كانت الاتهامات توجه لأوروبا بأنها لا تبادر وأنها تتبع واشنطن، فأثناء رئاسة أوباما ثبت أن أوروبا لا تتحرك إلا بالتنسيق مع واشنطن، وتعتبر الحالة الإيرانية مثالا واضحا.
وبالعودة لروسيا، فهي ترى في تنظيم الدولة خطرا لأنه يحتضن حوالي 4000 من الشيشان، لكن لا يبدو أن الحملة العسكرية ستنهي هذا الخطر بالنسبة لروسيا، وكذلك الأمر بالنسبة لإيران المنخرطة أساسا في مشروع تصدير الثورة تمهيدا لاستعادة أمجاد امبراطوريتها.
فهما – أي روسيا وإيران - ترغبان بحضور قوي في تشكيل الوضع السياسي في سوريا ما بعد الأسد.
وتأمين هذا الهدف بالنسبة لهما يتحقق بتدخلات عسكرية والتركيز على حماية ( الأقليات )، فلقد سبق وأن استخدمتها روسيا في القرن التاسع عشر حيث تدخلت في شؤون الدولة العثمانية لحماية المسيحيين الأرثودكس في المشرق العربي.
لذا فان الاستراتيجية الأمريكية بعيدة المدى تعتبر التخلص من العقبة الروسية شرطا للاستمرار في تنفيذ أهدافها للعقود الخمسة القادمة دون عقبات، وربما إعادة السيناريو الأفغاني مع الروس في المشهد السوري، هي واحدة من تكتيكات تلك الاستراتيجية ليتفرغ الأمريكان لتعزيز وتجميع غنائمهم بعد استنزاف الروس.
إن المدى العميق للتدخل الروسي في سوريا إلى حد التدخل البري، أدى إلى أن تتحد ( فصائل المقاومة السورية ) على اختلاف توجهاتها، ضد عدو مشترك خارجي كما كان الحال مع ( فصائل الجهاد الأفغاني ) ضد الروس في الثمانينيات من القرن الفائت وخاصة بعد الضربات الجوية الأولى التي أصابت قوات المعارضة، فيما المعلن أنها ضد تنظيم الدولة!!!!
وفي السياق نفسه، لا شيء يمنع أن يصاب بوتين في مقتل بسبب مغامراته في سوريا، وستخرج روسيا بسبب تلك المغامرة بخفي حنين، وقد يسقط الأسد فيما تستمر الهيمنة الأمريكية على زمام الأمور بالعالم لعقود أخرى قادمة .
وفي ما يخص تأثير المتغيرات الإقليمية والدولية في سياسة روسيا تجاه منطقة الخليج العربي، نلاحظ أن هناك تنافرا مستمرا بين روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي منذ بدء الأزمة السورية وامتدادا إلى الأزمة اليمنية.
إن روسيا لا تملك سياسة خاصة تجاه دول الخليج العربي، والمحدد الرئيس لهذه السياسة هو المصلحة الإستراتيجية والنهج البراغماتي. فروسيا تتعامل مع دول الخليج من منظور موقع هذه العلاقة كتابع لعلاقة رئيسة مع طرف إقليمي آخر، ولا تطمح روسيا إلى أن يكون لها نفوذ في منطقة الخليج التي تعتبر أنها منطقة نفوذ واسع للولايات المتحدة، ولكنها تسعى إلى حصر هذا النفوذ ووقف أي مشاريع لمده نحو تخوم النفوذ الروسي في المنطقة. وتنظر روسيا إلى دول مجلس التعاون في نطاق الشرق الأوسط ككل وليس ككتلة مستقلة، كما لا تتعامل معها بوصفها تكتلا من ست دول إنما مع كل دولة منها على حدة.
أما على الصعيد العراقي، فلقد كانت روسيا حليفا أساسيا للعراق قبل الاحتلال الأمريكي له عام 2003، حيث أدانت روسيا الضربات الجوية الأمريكية البريطانية على العراق في كانون الثاني وحزيران عام 1993 وكانون الأول عام 1998 وشباط عام 2001، وكان التأكيد الروسي الدائم على ضرورة الانسحاب الأمريكي من الأراضي العراقية وحل القضية العراقية في إطار الشرعية الدولية ومن خلال الأمم المتحدة، وحق الشعب العراقي في اختيار حكومته وإدارة شؤون بلاده، فروسيا تعي جيدا أن تحقيق مصالحها الاقتصادية في العراق رهنا بتحقيق الاستقرار السياسي.
أخيرا روسيا لا يمكنها صنع استقرار بل تعميق حالة الفوضى وهو أمر يحقق لها ولإيران مصالح مؤقتة.
وفي ظل هذه الملفات المتداخلة يبرز التساؤل الآتي:
هل سيكون الموقف الروسي متصلبا أكثر أم يعاد سيناريو الحرب الباردة من جديد !!!؟؟؟
أبو محمد عبد الرحمن
نبض العروبة المجاهدة للثقافة والإعلام