أتى التدخل العسكري التركي في جرابلس السورية بعد انقلاب تركيا العسكري الفاشل قبل شهر، وبعد زيارة نائب الرئيس الأميركي بايدن إلى أنقرة والتي استبقتها تركيا بالإعلان عن محاربة داعش والأكراد..
لا يمكن هنا أن نتجاهل أن كل ذلك يجري
تزامنا مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية ومواصلة أوباما الترويج لسياساته وتوجهاته التي ستحاول هيلاري كلينتون اتّباعها في حال انتخابها.
فمن المؤكد أن تركيا استبقت الأحداث عموما، وزيارة بايدن على وجه الخصوص، حيث ترى تركيا في الجيش الحر ضامنا للحدود الممتدة من إعزاز إلى جرابلس، في مواجهة أي تفكير في إقامة دولة كردية أو إقليم فيدرالي مزمع، قد يفكر الأكراد في إنشائه. كما استبق الرئيس أردوغان أيضا زيارة بايدن، ليضع جملة من مسارات التوجهات التركية الجديدة (توجهات ما بعد الانقلاب) ويقطع الطريق على أي تأويلات للموقف التركي بشأن سوريا، ويحدد عددا من العوامل الفاعلة في علاقة تركيا بكل شركائها، وعلى رأسهم روسيا والولايات المتحدة رغم أن الأخيرة في هذا السياق هي المعنية بالدرجة الأولى بالعمليات العسكرية التركية في "جرابلس"، وبخطاب أردوغان.
لقد أدلى بايدن قبل زيارته أنقرة بتصريحات مرنة وتوددات متعددة. فإذا كانت وعوده لدول البلطيق بحمايتها والقتال من أجلها، بصفتها أعضاء في حلف الناتو، فهذا يعني أيضا تركيا عضو الحلف ورأس حربته في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأسود، وهو ما يتضح في إصرار بايدن عشية زيارته لتركيا على التزام واشنطن بأمنها أيضا:
"أكرر ما قاله الرئيس أوباما. الهجوم على عضو في الناتو هو هجوم على الجميع، وعندما أتحدث عن الجميع، لا أقصد فقط الولايات المتحدة ودول البلطيق، بل والحديث يدور عن جميع الحلفاء. ونحن نريد أن يعرفوا هذا في موسكو أيضا نحن نعتقد بذلك حقا، وسنعمل وفقا لذلك".
وبالعودة لجرابلس، فمن الضروري التأكيد على أنها تكتسب أهمية استراتيجية بموقعها الجغرافي على نهر الفرات، وتشكل عقدة مواصلات مهمة بين عين العرب، وريف حلب الشمالي، وصولا إلى منبج والباب والراعي، وتتحكم بالطريق بين شرق نهر الفرات وغربه من الناحية الشمالية، وتعد عقدة الوصل بين جهتي النهر. وتعد جرابلس إحدى البوابات الحدودية مع تركيا، وتخشى تركيا أن تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، التي يشكل الأكراد عمودها الفقري، وتعد ذلك تهديدا للأمن القومي التركي، فيما تخشى المعارضة السورية أن يسيطر الأكراد على هذه المدينة وغيرها، ما يسمح لهم بوصل مناطق متفرقة أعلنوها فيدرالية، ما يسهل عليهم طرح فكرة الانفصال.
وعليه فقد أعلن وزير الداخلية التركي أفكان آلا، أن عملية “درع الفرات” التي أطلقتها القوات المسلحة التركية فجر الأربعاء ٢٤|٨\٢٠١٦، بدعم من التحالف الدولي لطرد مسلحي تنظيم الدولة من بلدة جرابلس السورية “ستنتهي سريعا”.
وتأتي عملية جرابلس العسكرية في سياق تطورات مستجدة في سوريا والمنطقة، خصوصا بعد الانقلاب الفاشل في تركيا والتقارب الروسي التركي، وقد ضربت أنقرة من خلالها عدوين في عملية واحدة (الوحدات الكردية وتنظيم الدولة) مستفيدة من التقارب مع موسكو ومن فتور العلاقة مع واشنطن في مرحلة ما بعد الانقلاب ومن تفاهمات جديدة رسمت معالمها في موسكو بعد زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان مؤخرا.
وتنظر أنقرة بقلق منذ سنوات إلى أي محاولة من أكراد سوريا لتشكيل وحدة جغرافية ذات حكم ذاتي على طول حدودها، ولذلك سعت لإعاقة أو إنهاء محاولة القوات الكردية وصل مناطقها في الشمال والشمال الشرقي لسوريا مع منطقة عفرين في الشمال الغربي بهدف تشكيل ما يعرف بإقليم "روج آفا".
وقبيل العملية العسكرية بيوم واحد قال نائب رئيس الوزراء التركي نعمان قورطولموش إنه "لا يمكن لتركيا أن تقبل سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا المرتبط بحزب العمال الكردستاني في تركيا على الحدود السورية التركية البالغ طولها ٩١١ كلم".
وأشار إلى أن بلاده لا يمكنها أن تبقى مكتوفة الأيدي تجاه التطورات التي تعني المرحلة النهائية لإلغاء وحدة التراب السوري وتشكيل دولتين وثلاث في سوريا، لافتا إلى متابعة بلاده لتلك التطورات لحظة بلحظة، وفقا لما نقلته عنه وكالة الأناضول، ومن جهة أخرى اعتبر الناشطون الأكراد أن الهدف من تصرف تركيا هو ضرب محاولات قوات سوريا الديمقراطية الجادة في محاربة داعش بعد إنجازاتهم الملحوظة في الأيام الأخيرة ضد تنظيم الدولة في مدينة منبج شمال حلب وتل الأبيض بريف الرقة.
الملاحظ أن أزمة ثقة كبيرة تجاه فصائل الجيش السوري الحر التي يرى فيها أكراد سوريا رمزاً للتطرف بسبب ارتباط بعض عملياتهم العسكرية بتنظيمات متطرفة كجبهة النصرة التي خاضت معارك عدة ضد الأكراد، بينما يرى بعض السوريين العرب في الأكراد عناوين مشروع تقسيمي يسعى إلى ربط المناطق الكردية السورية بكردستان العراق.
هذا وسجل بعض السوريين المحايدين موقفا أشاروا فيه إلى أن سوريا تحولت إلى ضحية لشتى أنواع الإحتلالات بمختلف أشكالها وألوانها من روسيا وإيران وأميركا والتنظيمات الإرهابية وتركيا كما اعتبروا أن المعارك المشتعلة في شمال سوريا بين المشروع الكردي التقسيمي، ومشروع تركيا التوسعي هما مشروعان يصبان في دائرة القضاء على سوريا المتداعية والمنهكة أصلا تسهيلا لتفتيتها وتقسيمها.
وفي النهاية لا بد لنا من التذكير بما قالته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة غونداليزا رايس من أن مشروع الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد قد انطلق وما نشهده من فصول (الربيع العربي) المشؤوم في وطننا العربي الكبير ما هو سوى حلقة في المشروع الأكبر والأخطر الذي يداهم أقطارنا العربية وعنينا به مشروع سايكس بيكو ٢ بحلته التفتيتية والمذهبية والطائفية والعرقية والإقليمية في ظل الاحتلال والتوسع والهيمنة لكل من إسرائيل الغربية وإسرائيل الشرقية.
ولنا في العراق بعد فلسطين خير دليل والأيام القادمة حبلى بالتطورات والمفاجئات ما لم يتدارك العرب ما يتربص بهم وقبل فوات الأوان...
أبو محمد عبد الرحمن
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثقافة والإعلام