خسر الاتحاد السوفيتي الحرب الباردة وخسر معها عقيدته السياسية الاشتراكية ومناطق النفوذ والعلاقات الودية التي كانت تجلب له العقود الاستراتيجية لمبيعات السلاح وتجهيزات النفط وغيرها. غير أن العراق الملتزم باتفاقيات الصداقة والتعاون مع روسيا أخلاقياً ومادياً لم يتأثر بما جرى وأبقى على علاقاته مع روسيا التي خلفت الاتحاد السوفيتي وظل نظامنا الوطني يفي بمستلزمات العلاقة بيعاً وشراءاً ودبلوماسياً وسياسياً إلى أن صمت الدب الروسي وعجز
عن نطق كلمة معارضة واحدة فضلاً عن عدم فعل أي شيء إيجابي لوقف غزو العراق وتناسى تماماً بنود اتفاقيات الصداقة والتعاون مع العراق وكأنها لم تكن مصدراً مهماً من مصادر القوة السوفيتية والروسية. غير هذا وأسوأ منه فإن هناك من يقول ان الروس قد بعثوا فرقة من مخابراتهم قبيل الغزو بساعات إلى بغداد للاستيلاء على وثائق معينة.وبعد أن انسحبت القوات الأمريكية الغازية من العراق وتسليم العراق أمنياً وسياسياً لإيران تحت الإشراف الاحتلالي الأمريكي برزت إلى السطح علاقات متينة بين النظام الإيراني وبين روسيا التي استفادت من الضعف والوهن والخسائر الجسيمة التي حلت بأميركا وحلفاءها بفعل المقاومة العراقية الباسلة فاستعادت بعض عوامل قوتها وفرضت إرادتها في أكثر من واقعة وساحة.
إذن أول بوادر العودة الروسية للمنطقة جاءت على حساب العراق أيضاً إذ ان الإسناد الروسي لإيران على مختلف الأصعدة قد عاون إيران على المضي قدماً في برنامج احتلال العراق وابتلاعه بكل السبل الاقتصادية والأمنية والعسكرية.
ثم تطورت سطوة روسيا الجديدة بعد ان غرقت إيران في المواجهة مع الشعب السوري عبر مساندتها العسكرية الواسعه للنظام في حربه مع المعارضة السورية وتعرضها لخسائر جسيمة وعجزها عن تغيير معادلات الأرض لصالح النظام لتضرب روسيا ضربتها المفصلية في احتواء إيران أو تحقيق المزيد من الاحتواء لإيران وفي احتلال سوريا عسكرياً على ذات الذريعه وهي حماية النظام السوري.
احتلال روسيا لسوريا مر عبر بوابة العلاقة الحميمة مع إيران فضمنت روسيا الدخول مجدداً للعراق بحكومته المنصبة إيرانياً وذات المنهج الطائفي الصفوي الإيراني الحاصل على المباركة الأمريكية والتي لا تزال تصفي جسدياً رجال النظام الذي كانت روسيا تركع تحت أقدامه عبر المعاهدات وتطبيقاتها وعبر علاقات كان العراق ونظامه الوطني يتعامل معها على أنها علاقات ممهوره بصدق الصداقة ومصلحة الشعوب المحبة للحرية بل وحتى علاقات الشراكة العقائدية القائمة بين المواجهين لغول الرأسمالية وجشعها وماديتها الاستغلالية البغيضة.
ببساطة يمكننا أن نقول ان روسيا العائدة إلى حلبة الشراكة القطبية العالمية هي ليست روسيا التي عرفناها وتعاملنا معها بل هي روسيا الميكافيلية المحكومة بمصالح وسياسة وتوجهات استعمارية أحتلالية تحكمها النوايا الاحتكارية وكأنها تعلن للعالم ان النظام الإمبريالي الاحتكاري الاستعماري الذي هزم الاشتراكية السوفيتية وشيوعيتها هو الأصلح لروسيا بوتين.
روسيا التي تحمي نظام ولاية الفقيه بطرق مختلفة وعبر تحالفات تسليحية واقتصادية تعرف تماماً أنه يحتل العراق تحت جناح أميركا أي أنه الشرطي الذي يدير المنهج الأمريكي في العراق وبذلك فروسيا في حقيقة الأمر تخترق الأمريكان عبر هيمنتها على حراك الشرطي الطائفي الفارسي الصفوي. فالأحزاب المتحكمة بمشهد العملية السياسية الاحتلالية في العراق هي أحزاب إيرانية وأحزاب خاضعة للتوجيه الإيراني وميليشيات تتحكم بالعملية السياسية في ثوبها المصنوع أمريكياً وروحها الفارسية المتناغمة تماماً مع منهج ولاية الفقيه وروسيا تضع أصبعها في سرة الجميع من سرة الولي الفقيه وصولاً إلى حكومة وبرلمان العمالة والخيانة في الخضراء وانتهاءاً بالمليشيات المجرمة.
لم تحرك روسيا ساكناً حين حوصر الصديق الوفي المخلص لأربعة عشر عام ولا حين جندت له جيوش أكثر من ٣٠ دولة ولم يتحرك الصديق العقائدي للأمة حين تجمعت قوات الناتو لتنسف ليبيا وتحولها إلى ذكرى دول . غير أن ضميرها لم يصحوا إلا على وقع سطوة الغاز السوري الذي أدركت التكنولوجيات المعاصرة أنه أهم من النفط وإلا على وقع سطوة النفط والغاز العراقي الواصل مجاناً لأفواه الدب الروسي الشره وشركات السلاح المختلفة.
غير أن الدخول الروسي الجديد مختلف تماماً هذه المرة: فهو ليس دخول من بوابة الصداقة والشراكة أو التناغم العقائدي بل دخول بقوة السلاح وضد حركات التحرر العربية في العراق وفي سوريا غير أنه لا يستحي أن يعلن عن نبرات حزن قد تسمح بتحريك الخيال العربي العاطفي حين يصرح وزير خارجية روسيا أمس بأن روسيا لن تسمح بإضعاف سوريا كما حصل مع العراق وليبيا!!!!! وهنا لا تقع مفارقة بل كارثة فالإمبريالي الروسي يكمل مشهد التحاقه بالإمبريالية التي أسقطته في حرب الإعلام في مسار النفاق والكذب الذي تمارسه الإمبريالية طوال عمرها تحت لافتة مصالح الشعوب الأخرى.
نحن ندرك ان العلاقات الدولية يجب أن تستمر وتتواصل غير أننا ندعو إلى قوة عربية تكافئ عطاء العرب لمن يقيمون معهم العلاقات لتنتهي حقب البقرة الحلوب والأرض الرخوة القابلة لهبوط الاحتلال والاستعمار والاستثمار الجشع. لن تقوم لأمتنا قائمة إذا لم نتوحد بأية صيغة من صيغ التوحد التي ستنفع الجميع دون استثناء وقد ينتفع من الوحدة العربية من يقف ضدها الآن من العرب بحسابات قاصرة وفهم محدود أكثر من الوحدويون الذين مهروا عقيدتهم الوحدوية بالدم. الوحدة ستمنحنا الفضاء وتكامل الثروات والذراع البشري الهائل الذي سيغير فقط من اللغة الغليظة والفوقية والعنجهية والعدوانية التي يعاملنا بها القريب والبعيد، القرد والأسد، وستنتهي لغة الاستلاب والاستهانة وسوء التقدير .. فالإسلام وباقي ديانات السماء لم تأت من على ظهر الجمل العربي المستهدف بالازدراء بل جاءت من رب السماء وحملها العرب ومعها قدموا للبشرية الجبر والحساب والتفاضل والتكامل والطب وعلموه صناعة الحرف والعجلة والمحراث.
أ.د. كاظم عبد الحسين عباس
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثقافة والإعلام
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثقافة والإعلام