لا شك أن إقامة العدل وأداء الحقوق لأهلها من أسباب بقاء الدول وتفوقها وغلبتها ، الجزاء في الدنيا متفق عليه أهل الأرض ، فإن الناس ايقنوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة ، ولهذا قيل: "الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة"
ولما سمع عمرو بن العاص المستوردَ بن شدادَ يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : تقوم الساعة والروم أكثر الناس . قال له عمرو : أبصر ما تقول ؟ فقال المستورد : أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمرو : لئن قلت ذلك ؛ إن فيهم لخصالا أربعا :
إنهم لأحلم الناس عند فتنة ، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك. (رواه مسلم)
فكأنَّ عمر رضي الله عنه يحكم بأن هذه الخصال هي السبب في بقائهم وكثرتهم ، وفي المقابل يكون الظلم وتضييع الأمانة وإهدار الحقوق هي معالم الخراب والهزيمة ، وهذا أصل مقرر في علم الاجتماع ، وقد عقد له ابن خلدون في مقدمته فصلاً بعنوان: (الظلم مؤذن بخراب العمران).
والمقصود أن الأمم الكافرة إن توفرت على معالم قيام الدول ونهضتها أقامها الله وجازاها بجنس عملها ، ولا يظلم ربك أحدا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة ، يعطى بها في الدنيا ، ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها. ( رواه مسلم). فالله تعالى يعطيهم في الدنيا ما يستحقونه باعتبار ما عندهم من خير وما يبذلونه من حق .
فهذا جانب، وهناك جانب آخر لا يصح إغفاله في هذه القضية ، وهو أن الله تعالى قد ينصر أمة كافرة على أمة مسلمة ؛ عقوبة لها على معاصيها ، وشاهد هذا ما حصل في غزوة أحد ، كما قال تعالى : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ) آل عمران: 152.
وقد ذكر ابن كثير في حوادث سنة خمس عشرة وستمائة أن المعظم أعاد ضمان القيان والخمور والمغنيات وغير ذلك من الفواحش والمنكرات التي كان أبوه قد أبطلها ، بحيث إنه لم يكن أحد يتجاسر أن ينقل ملئ كف خمر إلى دمشق إلا بالحيلة الخفية ، فجزى الله العادل خيرا ً، ولا جزى المعظم خيراً على ما فعل ، واعتذر المعظم في ذلك بأنه إنما صنع هذا المنكر لقلة الأموال على الجند واحتياجهم إلى النفقات في قتال الفرنج . ثم علق ابن كثير على ذلك فقال : وهذا من جهله وقلة دينه وعدم معرفته بالأمور ؛ فإن هذا الصنيع يزيد عليهم الأعداء وينصرهم عليهم ، ويتمكن منهم الداء ويثبط الجند عن القتال فيولون بسببه الأدبار ، وهذا مما يدمر ويخرب الديار ويزيل الدول ، كما في الأثر: إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني ، وهذا ظاهر لا يخفى على فطن .
www.alssadaa.net