نبض العروبة المجاهدة للثقافة والاعلام
في مقال للكاتب السوداني الاستاذ البخيت النعيم في جريدة الهدف السودانية الغراء اثار قضية مهمة وصحيحة تتعلق بنتائج ممارسة (حق تقرير المصير) ومن اخطرها انفصال جنوب السودان لكن الاخطر منها هو عواقب انفصال الجنوب وقال : (مصطلح تقرير المصير لا ينطبق على واقعنا السوداني، ولعلنا كسودانيين ارتكبنا جريمة العصر عندما مررنا اتفاقية نيفاشا 2005 وبروتكولاتها الستة المفخخة، فقد دفع شعبنا ثمناً غالياً بعدما انفصل الجنوب من الدولة الأم، فقد انهار السودان الشمالي والجنوبي سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً،
وثقافياً. وقد تأكد أن الجنوب دولة فاشلة وتحول لحروب أهلية طاحنة ودولة فاسدة.).
انفصال جنوب السودان يلفت نظرنا الى الاهمية الطاغية لعواقب ما سمي ب(حق تقرير المصير ) على ماعداها فمشروعيته لا تستمد من اطاره القانوني بل من نتائجه على الارض وهذا ما يتم تجاهله من قبل الغرب الاستعماري .في ضوء تجربة السودان المرة لابد من التساؤل : هل تقرير المصير الزامي ام هو حق مشروط ؟ تقرير المصير هو ترجمة للمصطلح الانكليزي Self-Determination ويعتقد بان هذا المصطلح من طرح الرئيس الأميركي وودرو ويلسون. و(كان مبدأ حق تقرير المصير في جوهر اتفاقية فرساي التي وُقعت بعد الحرب العالمية الأولى، وأمر بإقامة دول قومية جديدة في أوروبا بدلاً من الإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية الألمانية. وفيما بعد كان هذا المبدأ أساس المطالب المناهضة للاستعمار، بمعنى الدعوة إلى إلغاء السيطرة الأوروبية الاستعمارية على أفريقيا وآسيا.) . واستنادا الى التجربة المعاشة ثمة حقائق بارزة لابد من اخذها بنظر الاعتبار قبل قبول او رفض هذا المبدأ :
1-ان مرحلة الاعداد لتدمير الاتحاد السوفيتي وانهاء الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية تميزت بتعمد زرع بذور تقسيم الامم في العالم الثالث والثاني ( الثاني هو دول المعسكر الاشتراكي ) ، ومن وضعها هو المخابرات الامريكية والبريطانية وكان من بين اهم اساليب تلك الخطط اثارة الصراعات الدينية والطائفية والقومية وتصعيدها وصولا للتقسيم والانفصال لهذا كان انهيار الاتحاد السوفيتي مقدمة لمسلسل انهيارات مرسومة في دول عديدة سواء نتيجة صراعات داخلية غذيت بقوة كما حصل في يوغسلافيا وجيكوسلوفاكيا اللتان قسمتا ، او بتدخل خارجي مباشر كما حصل للعراق الذي مازال يواجه خطة تقسيمه وكذلك سوريا واليمن وليبيا.مسألة الاقليات هنا تستخدم بالاساس كأداة لقهر الشعوب ولخدمة مصالح استعمارية .
2-ان تقرير المصير اعتمد كجزء من القانون الدولي بعد حربين عالميتين اسقطت دول واقيمت دول اخرى وهذا يذكّر بان من فرضه هو القوى الاستعمارية الغربية لخدمة اهدافها وليس لخدمة الشعوب بدليل جعل (حق) الاقليات نزعا قسريا لحق الاغلبية الشعبية وتدمير لها وهذا امر غريب يتم تجاهله . واستخدام كلمة (حق) قبل مصطلح تقرير المصير تضليل واضح فتقرير المصير ليس حقا بل مبدأ مثل باقي مبادئ السياسة الدولية يمكن الاخذ به مثلما يمكن رفضه تبعا لنتائجه وليس لمقدماته فقط واستنادا لحقائق ثابتة وليس تلفيقات تاريخية تفتقر للدليل الواضح روجتها قوى استعمارية وصهيونية .انه حق مشروط بالاتفاق والتوافق بين الشعوب وبغياب التوافق تنتفي عنه صفة الحق .
3-شمل المبدأ قوميات محددة معترف بها وكانت سابقا تتمتع بالاستقلال لكنها دمجت مع قوميات اخرى بالقوة لتشكيل امبراطورية اكبر مثل الامبراطورية النمساوية -المجرية. ولهذا فان احد اهم اركان التمتع بالمبدأ هو وجود كيان مستقل سابقا للقومية التي تريد الاستقلال ،وهذا يجعله لا يشمل التنوعات الاثنية والقومية داخل دولة واحدة او اكثر وتعايشت وتفاعلت واندمجت تلك المكونات لقرون مع غيرها ، وبنفس الوقت تفرقت المجموعة الواحدة مكانيا بحيث لم تعد تجمعها ارض واحدة متصلة ولم يكن لها كيان مستقل في التاريخ او الماضي القريب ودمر وضمت لغيرها . وبناء على ما تقدم أقرت الأمم المتحدة، التي قبلت بمبدأ تقرير المصير كجزء من ميثاقها في تعديل عام 1951، مؤكدة أن تطبيق حق تقرير المصير هو داخل الحدود القائمة وليس بالانفصال .
لهذا يقول الدبلوماسي العراقي المخضرم عبدالواحد الجصاني ما يلي : مبدأ الحق في تقرير المصير الوارد في ميثاق الأمم المتحدة وفي قرارات الجمعية العامة ينطبق على البلدان والشعوب المستعمرة ولا ينطبق على المجموعات العرقية أو الثقافية التي ترغب بالانفصال عن الدولة التي هي جزء منها. الفقرة (1) من قرار الجمعية العامة 41/101 تقول "تطلب إلى جميع الدول أن تنفذ تنفيذا كاملا وأمينا جميع قرارات الأمم المتحدة فيما يتعلق بممارسة الحق في تقرير المصير والاستقلال للشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية والأجنبية".) . وهذا يعني ان جنوب السودان لا ينطبق عليه حق تقرير المصير اصلا .
4- ان تقرير المصير يقوم على حقوق اصلية محددة ومعترف بها فقط وليس (حقوقا) مكتسبة نتجت عن ضم اراض او مناطق من قوميات اخرى الى القومية التي تريد التمتع بمبدأ تقرير المصير ، ولهذا فحالما تبرز مشكلة تناقض الحقوق والادعاءات حول المجال الجغرافي لاي قومية فان المبدأ يتعرض للنقد والرفض . ولدينا مثال قضية اقليم ناغورني كاراباخ .
5-ولعل اهم ما تميز به مبدأ تقرير المصير هو الطابع التحرري المعادي للاستعمار والتمييز العنصري ، وخدمته لهدف تحقيق الاستقلال الوطني والاستقرار ومنع عودة الاستعمار من الشباك بعد طرده من الباب . وهذا هو مصدر القيمة القانونية والاخلاقية والسياسية الحالية للمبدأ وجعل القوى التقدمية في العالم تعده حق طبيعي ،خصوصا وانه يقوم على الرفض التام للتسبب في كوارث ومشاكل خطيرة للطرف الاخر كما حصل في السودان بعد الانفصال .
ولقد ظهرت هذه الحقيقة في اكثر اشكالها وضوحا في السودان حيث ان من دافع عن مبدأ تقرير مصير جنوب السودان هو الغرب الاستعماري الداعم بنفس الوقت لغزو بلدان عديدة والناهب لثرواتها والمدافع عن النظم العنصرية في جنوب افريقيا وفلسطين مثلا ! بل ان اسرائيل الغربية التي تحتل فلسطين كانت اهم داعم لحركة انفصال جنوب السودان ! فكيف يمكن تقبل مطاليب تدعمها قوى استعمارية وعنصرية رغم ان الهدف ليس تقرير المصير بل تدمير الدولة وتحقيق اهداف استعمارية او عنصرية ؟
ان ما حصل في السودان يقدم لنا الجواب الحاسم والواضح للكيفية التي تستغل فيها القوى الاستعمارية والصهيونية مبدأ صحيحا لخدمة اهداف استعمارية معادية للشعوب ومهددة لوحدتها الاقليمية ولهويتها الوطنية ولحياة ملايين الناس . ان تطبيق مبدأ تقرير المصير في جنوب السودان ادى الى انفصاله ولكن على النقيض للاهداف المعلنة في بيانات ومواقف الانفصاليين السودانيين اصبح جنوب السودان الغني بالنفط والارض الزراعية الخصبة مرتعا للفقر الاشد وساحة لابادة الاف السودانيين وتشريد الالاف وتدمير ما تبقى من قدرات اقتصادية وبشرية لدرجة ان بعض من كان مع الانفصال اخذ يطالب بعودة الجنوب الى الوطن الام لانهاء الكوارث التي نتجت عن الانفصال .لقد عمق الغرب والصهيونية النزعات اللصوصية لاطراف قادت انفصال جنوب السودان وسخرها لايصال كل السودان الى نفس مصير الجنوب ،وهذا مايلاحظ الان حيث ان العمل يجري لفصل اجزاء اخرى من السودان وبدعم نفس الجهات التي دعمت انفصال الجنوب ثم تخلت عنه وتركته فريسة لصراعات كارثية .
6-اذا كان مبدأ تقرير المصير مبدأ عاما وشاملا لم رفض الاتحاد الاوربي استقلال كاتالونيا في اسبانيا رغم نتائج الاستفتاء التي طالبت بالانفصال،ويرفض استقلال كورسيكا وغيرها من الاقليات القومية الاوربية؟اليست هذه ازدواجية معايير تؤكد ان الاهداف الاستعمارية للغرب وراء دعم جعل المبدأ حقا مطلقا ؟وعندما تتحكم في هذا المبدأ ازدواجية المعايير هل يبقى صالحا ويحافظ على مشروعيته ؟
7-لم رفضت امريكا واوربا وبشدة حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني في ارضة ووطنه المغتصب ؟
8-لم اصرت امريكا وبريطانيا على غزو العراق ولم تتركا القرار لتطبيق حق تقرير المصير ؟ اليس من حق شعب العراق ان يقرر مصيره بنفسه بعيدا عن التدخلات الاجنبية ؟
9-هل يمكن دعم مبدأ تقرير المصير اذا كانت نتائجه خطيرة على الامة او الدولة ؟ ان حالة السودان المتدهورة بسبب انفصال الجنوب هي نتاج تطبيق لعبة الدومينو فحالما ينفصل جزء حتى تبدأ اجزاء اخرى بالسقوط خلف السقوط الاول ومن الصعب جدا ايقاف عملية الدومينو .
10- في مرحلة الاضطراب العالمي المخطط والمتعمد وحصول هجرات لملايين البشر خصوصا من الوطن العربي وافريقيا وافغانستان ودول اوربا الشرقية لم يعد مبدأ تقرير المصير يتمتع بتلك الهالة خصوصا في اوربا وامريكا ، فلقد هجّر اكثر من 15 مليون عراقي وسوري نتيجة الغزو الامريكي والتدخلات الاجنبية وذهب بعضهم الى الاتحاد الاوربي وامريكا فتخلت اوربا وامريكا عن كثير من الاتفاقيات وقواعد القانون الدولي والانساني التي تنظم حالات الهجرة واللجوء وضحايا الحروب والحروب الاهلية ، وهي التي وضعتها وفرضت تطبيقها على العالم الثالث وارادت تطبيقها على العالم الثاني لمجرد ان الهجرة اليها ادت الى مضايقتها اقتصاديا وربما ثقافيا ولم تسبب لها كوارث كما هي حال العراق والسودان وسوريا وليبيا واليمن !
الان امريكا ترفض قبول اللاجئين الا بحدود منضبطة وقليلة جدا تحتاج اليها ، اما اوربا فقد مارست الاستغلال للاجئين عندما وقعت اتفاقية مع تركيا على قبول اللاجئين ذوي التأهيل العلمي والتكنولوجي فقط ورفض البشر العاديين رغم انهم يتعرضون للابادة لان ما يهم اوربا هو استغلال حالة اللاجئين لتحقيق مكاسب اقتصادية لها ، وهنا نرى النزعة الاستعمارية الاوربية تطل واضحة جدا ، ثم اخذت تبحث عن حجج لطرد اللاجئين او تعطيل منحهم اللجوء ولم الشمل ! كل هذا حصل لمجرد تعرضها لمضايقات في حين ان تركيا الاقل امكانيات والاردن الفقير قبلا لاجئين من العراق وسوريا اضعاف مضاعفة للعدد الذي وصل اوربا .
الانسان هو الانسان وليس هناك فرق بين انسان يضطهد في مكانه واخر شرد وهجر ولكنه يتعرض للاضطهاد او المضايقات الشديدة في اوربا او امريكا مثل العراقيين والسوريين! فهل يجوز لاوربا وامريكا تطبيق القوانين الدولية بانتقائية داخلها والاصرار على فرض نفس القوانين بحرفيتها على العرب ؟ ان مبدأ تقرير المصير الان ليس سوى وصفة تدمير تلقائي ومتعاقب والسودان يقدم لنا انموذجا حيا لهذه الحقيقة فان اي ممارسة لتقرير المصير نتيجتها معروفة لانها مقررة سلفا ومتحكم بكل خطواتها وهي الانفصال واي انفصال لاي جزء سوف يهدم الكيان المتبقي من اي دولة عربية تتعرض له ، وهذا هو جوهر المخطط الصهيوني الامريكي الايراني : اقبلوا خطوة محدودة لكن الجحيم المفتوح يأتيكم بعدها حتما .
اذا ثمة سؤالان منطقيان جدا : هل يجوز دعم مبدأ تقرير المصير اذا كانت وراءه قوى معادية للحرية والاستقلال اصلا ويخدمها ويلحق ضررا كارثيا بالامة ؟ ان خراب وتدهور السودان مثال واضح لنتائج تطبيق مبدأ تقرير المصير بلا توافق وتحت تأثير الضغوط الخارجية. اما السؤال الاخر فهو : هل نسيان او تناسي ان العرب وهم اكثر من 350 مليون انسان ممنوع عليهم ممارسة مبدأ تقرير المصير في وطنهم التاريخي اسوة بالاقليات التي تنال (حقها) هذا بالقوة المفرطة وبقرارات استعمارية وصهيونية بينما العرب محرومون حتى من حق الحياة والبقاء في وطنهم ؟ هذه هي التساؤلات المركزية التي لابد من طرحها قبل مناقشة منح او عدم منح حقوق الاقليات من منطلق ان البشر كلهم سواء بالحقوق .
almukhtar44@gmail.com
16-10-2017