يُعَدُّ الوطن العربي أكثر مناطق العالم احتكاكاً بالعالم الخارجي وتأثُّراً بالعوامل الخارجية لعدة أسباب منها موقعه الجغرافي الذي يتوسط العالم ويتحكم في أهم خطوط مواصلاته، ومكانتُه الثقافية والحضارية باعتباره مهداً للديانات السماوية الثلاثة، ولعدد من أهم الحضارات القديمة، كما لأهميته الاستراتيجية والاقتصادية
كمستودع لأكبر مخزون لاحتياطيات النفط المؤكدة في العالم. ولقد كانت هذه العوامل والمعطيات تضيف إلى الوطن العربي، في مراحل صعوده، وتدعم مكانته على المسرح الدولي. لكنها كانت تشكّل أيضاً عبئاً ثقيلاً عليه في مراحل التراجع والانكسار بمقدار ما تغري القوى الخارجية بالتدخل في شؤونه أو بسط السيطرة عليه وإفقاده استقلاله.
لقد كان الاستقلال الوطني والقومي –وما زال– شرطاً بديهياً
من شروط النهضة وركيزةً أساس من ركائزها. إذ لا يمكن لأي شعب أن ينهض ويتقدم إذا كان فاقداً لإرادته أو كانت إرادتُه مقيَّدة، كما لا يمكنه أن يحمي استقلالية إرادته وقراره إن لم ينجح في حماية أمنه الوطني أو القومي. ولأن أيَّ مشروعٍ للنهضة هو، في جوهره، مشروعٌ للاستقلال والأمن في آنٍ معاً، فمن الطبيعيّ أن يصبح الأمن أحد أهم أهداف المشروع النهضوي العربي.
وللوطن العربي اليوم خصوصية يتعذر في إطارها إحداث فصلٍ كامل بين البعد الوطني والبعد القومي لقضيتيْ الاستقلال والأمن. ومع أن مفهوم الاستقلال الوطني يبدو أقرب إلى واقع الحالة العربية الراهنة من مفهوم الاستقلال القومي – لأن الموجود فعلاً دولٌ وطنية "مستقلة" أو معْتَرفٌ لها بالاستقلالية من منظور القانون الدولي وليس دولة عربية قومية جامعة ومستقلة – إلا أن الاستقلال الوطنيَّ نفسَه ما زال يعاني من النقص والانتقاص الشديديْن. فإلى جانب أن مفهوم الاستقلال الوطني يشمل استقلالية القرار الوطني ويفترض الأمنَ الاقتصاديَّ والغذائيَّ من مقوِّماته، وهذا مما ليس متحققاً، فإن قسماً غيرَ قليلٍ من البلدان العربية ما زالت أراضيها رازحة تحت الاحتلال: كلاًّ أو بعضاً، وما زالت سيادتُه متراوحةً بين الفقدان الكامل والفقدان الجزئي والاستباحة الدائمة! فإلى فلسطين المحتلة منذ عام 1948 من قبل الصهاينة، وأضيف احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وحليفاتهما في2003؛ ، وظلت مدينتا سبتة ومليلية والجزر الجعفرية المغربية محتلة منذ مئات السنين من طرف إسبانيا، وجزر "طنب الكبرى" و"طنب الصغرى" و"أبو موسى" الإماراتية محتلة من قبل إيران. المجوسية منذ سبعينات القرن الماضي، وخضع جزء من أراضي الصومال لتدخل إثيوبي مسلح منذ2006. وهذا إذا تغاضينا عن أراضٍ عربية أخرى تم الاستيلاء عليها ولم تعد الدول العربية المعنية تطالب بها.
إن خطورة وحيوية مسألة الاستقلال الوطني والقومي، والأمن الوطني والقومي استطراداً، تدفعها إلى موقع الأولوية من ضمن أولويات أخرى في المشروع النهضوي، وتفرض الحاجة إلى صوغ استراتيجية عمل شاملة لتناولها في وجهيْها المترابطين: الاستقلال والأمن، لاتصال ذلك بتأمين القاعدة الارتكازية لتحقيق سائر عناصر المشروع النهضوي العربي وأهدافه الأخرى. وتتزايد الحاجة إلى هذه الاستراتيجية في ضوء الخبرة التاريخية التي أثبتت أنه كلما أخفق الوطن العربي في صناعة أمنه القومي وحماية استقلال إرادته وقراره، أخفق في صون أمنه وحماية أراضيه وسيادته من الأطماع الأجنبية بل من جيوش الغزاة الزاحفين عليها. وكان فشلُهُ في تسوية نزاعاته الداخلية – ومنها النزاعات الحدودية بين دوله – مدخلاً إلى تمكين القوى الأجنبية المعادية من التدخل في شؤونه والنيل من سيادته، كذلك أصبح احتلال هذه القوى المعادية لأراضيه، وبصفة خاصة الاحتلال الصهيوني لفلسطين والاحتلال الأمريكي للعراق، مدخلاً إلى إعادة تمزيق كياناته الوطنية من خلال دقّ الإسفين بين الجماعات المختلفة المكوّنة للجماعة الوطنية، وتوظيف تمايزاتُها الثقافية أو الإثنية في توليد انقسامات سياسية وإنتاج فتن طائفية وحروب أهلية ترهن الوطن برمته لسياسات الدول الاستعمارية وإدارتها.
www.alssadaa.net