منذ الانقلاب الفاشل في تركيا، عاشت الدّولة التّركيّة على وقع إجراءات وسياسات تنذر بتحوّلات عميقة ستعرفها تركيا لا فقط على الصّعيد الدّاخليّ وإنّما في
كلّ ما يحيط بها.
انشغل المتابعون بالإجراءات التي عالجت بواسطتها السّلطات التّركيّة ملفّ الانقلاب داخليّا وأفاضوا في تناولها نظرا لسرعة ردّ الأجهزة التّركيّة وصرامة معالجتها للحدث حيث بلغ عدد الذين طالتهم الإجراءات الرّدعيّة من فصل من الوظيفة وتحقيق وتحجير سفر وإقامة جبريّة وغيرها فوق المائة ألف بالتّمام والكمال من جنرالات وضباّط وكبار موظّفين وغيرهم، ولكن قليلين هم الذين عكفوا على رصد التّغيّر الموازي والمتزامن في السّياسات الخارجيّة التّركيّة.
لقد تواترت تصريحات عدّة من أكثر من مسؤول تركيّ كبير وعلى رأسهم رجب طيّب أردوغان، وكانت تتحدّث صراحة عن علم الأمريكان بالانقلاب وعدم إعلام الأتراك به رغم ما يربطهم من تحالف وثيق واستراتيجيّ، وكادت أن تتطوّر المسألة لأزمة ديبلوماسيّة حقيقيّة بين الجانبين خصوصا بسبب ما أثاره ويثيره تواجد عبد الله كولن بالولايات المتّحدة الأمريكيّة وهو الذي تصرّ أنقرة على اتّهامه بالتّخطيط للانقلاب وإدارته من مقرّ إقامته بأمريكا.
ورغم التّعامل الحذر من الأمريكان مع ردّة الفعل التّركيّ، ورغم تطمينات واشنطن لأنقرة وتعهّدها بأنّه فور تلقّيها أدلّة قانونيّة ثابتة تدين عبد الله كولن فإنّها لن تتردّد في تسليمه لبلاده، فإنّ ذلك لم يحل دون تمرّد شبه واضح من الأتراك على كلّ الأعراف التي ميّزت تعاملها مع الغرب وخصوصا الولايات المتّحدة.
فلقد أبدى الأتراك عزما واضحا على تحدّي كلّ محاولات أروبّا والأمريكان للضّغط على أنقرة واستغلال دقّة الظّرف، فجاهرت بإمكانيّة العودة لتفعيل حكم الإعدام وهي رسالة قويّة لأروبّا خصوصا مفادها أنّ مصلحة تركيا القوميّة أهمّ من انضمامها للاتّحاد الأروبيّ وهو ااذي لا تجيز قوانينه الإعدام وتتعامل معه بصرامة.
كما تحرّكت الدّيبلوماسيّة التّركيّة في كلّ الاتّجاهات لتنتقل تركيا مسرعة لطور جديد لعلّ أبرز ما فيه الانفتاح الحثيث على روسيا رغم تصدّع العلاقات بينهما منذ قرابة 9 أشهر على خلفيّة إسقاط الطّائرة الرّوسيّة من قبل الجيش التّركيّ الأمر الذي أدّى بالرّوس لفرض عقوبات على تركيا ناهيك عن موقف الجانبين المتناقض تماما من الملفّ السّوريّ، وتوّج هذا التّحرّك بلقاء الرّئيسين الرّوسيّ والتّركيّ في موسكو والذي أسفر عن تطبيع العلاقات الثّنائيّة حتّى صار الحديث عن آفاق كبرى للتّعاون الثّنائيّ اقتصاديّا وخصوصا عسكريّا مثار توجس الحلفاء التّقليديّين للأتراك.
ولم يتوقّف اللّقاء الرّوسيّ التّركيّ عند حدود التّعاون المشترك بين الجانبين، بل فتح الطّريق أمام تركيا للتّحرّك بحرّية أكبر إقليميّا ودوليّا، وكانت أهمّ تجلّيات ذلك بتغيّر تركيّ ملحوظ من الملفّ السّوريّ ومصير رأس النّظام في دمشق ليبلغ ذروته بلقاء على أعلى مستوى بين الأتراك والإيرانيّين.
إنّ هذا التّغيّر الشّامل في السّياسات الخارجية في تركيا ينذر بمحاولتها التّخلّص من تبعيّتها للغرب وللحلف الأطلسيّ - رغم تأكيد أمينه العامّ على أنّ وجود تركيا فيه أمر استراتيجيّ لا جدال حوله ولا نقاش فيه - وينبئ بتبدّل الوضع الإقليميّ خصوصا وسيكون على حساب العرب مرّة أخرى حيث ستتراجع مستوى العلاقات بين تركيا والسّعوديّة بعد التّقارب التّركيّ الفارسيّ وهو ما سيكون له تداعياته على تحالفهما السابق؛ ولعل من أبرز تجليات ذلك اتهام الأتراك للمقاومة في الأحواز العربية بالإرهاب.
فمتى يتخلّص العرب بدورهم من المراهنات الفاشلة على الآخرين، ويمتلكون أسباب قوّتهم ونهضتهم ليتحكّموا لوحدهم في مصائرهم؟
أنيس الهمامي-تونس
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثقافة والإعلام