بالعودة إلى سنوات الأربعينيات الأولى من القرن الماضي وهي الحقبة التي بدأت تظهر فيها الدعوة البعثية سيجد أي باحث علمي منصف أن ولادة حزب البعث العربي الاشتراكي لم تكن ولادة سياسية صرفة بل هي ولادة منهج سياسي واجتماعي واقتصادي وتربوي يتداخل فيه الإصلاح مع الثورة والموضوعية في تقييم الواقع مع التحدي النابع من الرفض العقلي والعلمي لهذا الواقع. فالبعث
حين وضع أهدافه في ثالوثه المقدس (الوحدة والحرية والاشتراكية) فقد وضعها لتعالج معضلات الواقع العربي وتنتفض وتثور على معطياته التي تتناقض مع الطبيعة الوجودية للأمة العربية التي خلقها الله أمة موحدة في كل عوامل تشكيل الأمم الحية من لغة وتاريخ وجغرافية وحضارات ومسالك تفاعل إنساني.ولم يكن رد فعل القوى الداخلية والخارجية على ولادة البعث من حينها المؤرخ في ٧-٤- ١٩٤٧ إلا بما يتناسب مع الخطر الذي مثله البعث على مصالح سايكس - بيكو وعلى الجشع الاستعماري الإمبريالي لثروات العرب المختلفة المادية والبشرية والخطط الصهيونية لاحتلال قلب الوطن (فلسطين) وتهجير أهله لاجئين في بقاع الأرض المختلفة ليكون الكيان الصهيوني هو القاعدة المتقدمة للأطماع الاستعمارية وهو الحامي للتجزئة والنافذ من خلالها إلى جسد لا يرى فيه الصهاينة ومن يسندهم إلا كياناً متخلفاً لا يستحق الحياة ولا يستحق الخيرات التي يرفل بها وطن هذا الجسد ويرون فيه منبع الرسالات وخاصة الإسلامية الحنيفة التي يكن لها المحفل الماسوني وأدواته الكراهية والعداء والأحقاد السوداء. لقد كان رد الفعل المناهض لحركة البعث موجهاً للإدامة والإبقاء على التجزئة والفقر والجهل لشعبنا العربي لكي يبقى خارج حركة التاريخ وخارج الإدراك الحقيقي والعميق لمعنى الرسالة العربية القومية الإنسانية المؤمنة الخالدة التي وصفها البعث توصيفاً ثورياً يلامس روح العرب الوثابة ويمزج فيها بعمق فلسفي وأخلاقي بين هذه الروح الوثابة وبين قدرات الأمة الخلاقة في النهوض وإسقاط حواجز التقدم والرقي والتطور بما يسقط الفجوات العلمية والتقنية والتكنولوجية وما يرتبط بها من حيثيات الحياة المعاصرة.
إن هدف الوحدة العربية وفق المنظور الذي طرحته حركة البعث الثورية التقدمية التحررية الاشتراكية لا تعني فقط إقرار الوحدة الإنسانية والجغرافية والمادية للعرب بل تعني أن العرب موحدين في الخط العام لتحقيق أهدافهم ومنها الوحدة. فالمنطقي جداً أن تتحقق الوحدة العربية بأيدي أبناء الأمة وعقولهم المؤمنة بهذه الوحدة. بكلام آخر فإن الوحدة العربية لا يحققها البعث لوحده مع الإقرار بأرجحية الدور لأن البعث هو من وضع المنهج الوحدوي في إطاره المترابط مع الحرية والاشتراكية لكن هذا لا يلغي دور العرب في قواهم السياسية والاجتماعية الأخرى بكل توصيفاتها الوطنية والإسلامية والقومية واليسارية.
وانطلاقاً من روح ومعطيات البداية وانتقالاً عبر سفر مشهود خاض البعث جزئياته مفلحاً أو خاسراً, صحيحاً أو مخطئاً, مثله مثل أية حكة شعبية تناضل من أجل تحقيق أهداف تعاديها قوى عظمى وتجند لمعاداتها قوى وأنظمة محلية وتضع العراقيل بوجهها وتحيك المؤامرات لكبح جماحها فإننا نعيد وضع منهجنا المؤمن بالوحدة والشراكة بين قوى الأمة الأصيلة الحية لإنجاز تحالف جبهوي وطني قومي عريض يقود حركة شعبنا العربي لإنقاذ أمتنا مما حل بها بعد غزو العراق واحتلاله وأدى إلى احتلال ليبيا وسوريا ولبنان وخلق صراعات مدمرة في أجزاء أخرى في مشرق الوطن ومغربه على حد سواء كان لإيران وما زال دور محوري ومفصلي فيها.
إن تحالف وائتلاف القوى الوطنية والقومية والإسلامية تحالفاً سياسياً بعيد عن ترهات التكفير وأطره الضيقة الخانقة البعيدة عن المعاني الجدية للتوحيد والإيمان والأديان الربانية كلها و أوهام السلفية والرجعية التي تغذيها قوى الردة والخيانة والعمالة المعروفة والمشخصة جيداً في حياة أمتنا والتقاءاً على أساسيات السيادة والاستقلال وحق الإنسان والديمقراطية عبر إيمان حقيقي بالتعددية والانتقال السلمي للسلطة مع حفظ وحماية المؤسسات الدستورية القانونية والأمنية والعسكرية وإقرار الأدوار السليمة المناطة بكل منها مثلنا مثل الأمم الأخرى ومنها الأمم التي تعتدي علينا تحت ذريعة الديمقراطية وتهافت القدرات الإنتاجية وعبر سطوة فجوة التخلف التي فرضتها علينا هي السبيل الناجع للانتصار على الغزو والاحتلال والاستهانة والاحتقار وسحق السيادة والكرامة التي تمارسها علينا الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الإمبريالي الذي تحركه المحافل الماسونية وأدواتها الصهيونية المجرمة وتجند النظام الإيراني مرتزقاً من مرتزقتها.
لقد بان الظلام والغي والعدوان والقهر جلياً لا مواربة ولا نفاق ولا جدل في أهدافه وغاياته الشريرة إلا من قبل البعض الذين سقطوا في حفره وآباره المظلمة. وعلى البعثيين في كل فروع الحزب في أمتنا وفي بلاد المهجر أن يتحملوا مسؤولياتهم التي بدأوها عام ١٩٤٧ بكفاءة واقتدار وقدموا من أجلها تضحيات جسيمة وفادحة تجبرهم على المضي قدماً في خلق فرص الأمة للحياة الكريمة والوحدة ورد العدوان وسحق بؤر الخيانة أياً كانت راياتها المزيفة دينية كانت أو مذهبية أو سياسية. هذا الواجب يفرض على البعثيين سعة صدر ورجاحة عقل وقدرات تحمل مضافة واستعداد للقاء الجميع عشر مرات بدل المرة الواحدة واحتواء التناقضات وهضم التشنجات وصهر الإرادات في بودقة الأمة ومصالح الإنسان العربي التي هدرت واغتصبت وسحقت بقسوة التفوق العسكري والتكنولوجي والمادي المترافق مع هدر قدراتنا وثرواتنا التي يستقوي من ينهبها من فرس وأمريكان وسواهم بها علينا.
إن على البعثيين الآن أن ينهضوا بواجبات إدامة زخم المقاومة العراقية الباسلة لأن تحرير العراق لا يحقق عودة العراق لأمته فقط بل هو المهماز الذي تتشكل على عتباته منطلقات وقواعد الائتلاف الجبهوي العربي العريض ومنه انطلاقاً إلى تحرير فلسطين وجزر الخليج وهضبة الجولان ومدن المغرب العربي المسلوبة. وهو أيضاً العتبة التي تنطلق منها تحالفاتنا الدولية واقترابنا أو ابتعادنا عن محركات السياسة المناطقية أو الدولية.
خلق التحالف العربي الواسع هدف وضعه البعث لنفسه وهو قادر على إنتاجه بل يجب أن ينتجه لأنه سبيل العرب الوحيد للعودة إلى مسارات الكينونة والتأثير. والبعث وحده هو من وضع نفسه في خط الكفاح والنضال والجهاد لتحقيق الصيرورة الجديدة والمتجددة لشعبنا العربي العظيم ولأمتنا المجيدة أمة الرسالات والحضارات والأبطال من المفكرين والعلماء والقادة وهو أهل لها بإذن الله.
أ.د. كاظم عبد الحسين عباس
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثقافة والإعلام
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثقافة والإعلام