علينا إذن أن نميّز بين مبدأ الشراكة السياسية الذي أوجده الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر استنادا إلى مبدأ المحاصصة الطائفية العرقية، فلو كانت هناك معارضة حقيقية تستند على المعايير الدستورية المعتمدة في الغرب الذي قال الأمريكيون إنهم يريدون نقل تجربته الديمقراطية إلى العراق، لأفرزت كل انتخابات جرت في العراق منذ عام 2005
وحتى اليوم معارضات تلتقي على برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي وتضم في صفوفها عربا من السنة والشيعة وأكرادا وتركمانا، ولا تقيم هذه القوى المعارضة وزنا لانتماءاتها المذهبية والعرقية بل لاستندت إلى رؤية سياسية متقاربة أو متطابقة، لكن ما يحصل الآن هو أن إشارة واحدة من زعيم حزب أو كتلة تستطيع رسم معالم التصويت على مشاريع القوانين في مجلس النواب، ثم علينا أن نلاحظ أن السنة بقوا في صف المعارضة من بداية الاحتلال وحتى اليوم.
لكن هذا أيضا ليس وحده الذي يميّز المشهد السياسي في العراق، فهناك حقيقة لا يريد أحد الاعتراف بها، سواء كان من يمارسها بآليات متحجرة وقسوة بالغة، أو ضحاياها الذين يحلو لهم تمثيل دور الكومبارس الذي يزعم لنفسه أهمية أكثر مما رسم له، لأن هؤلاء مغلوبون على أمرهم ويتحاشون الوصول إلى دائرة التصادم الكامل لأنهم يعرفون أن نتيجة ذلك واحدة من احتمالين أما التصفية الجسدية ثم تقييد القضية ضد مجهول، أو خسارة المكاسب التي تحققت لهم، من دون أن تتوقف طرق الاستهداف التي تبدأ بملفات الفساد وما أكثرها، وصولا إلى الشمول بالمادة 4 من قانون مكافحة الإرهاب.
واقع الحال هذا هو واقع سنّة العملية السياسية الذين انسلخوا منها وظلت اللعنات تنصب عليهم من المكون السني بسبب خذلانهم لبيئتهم بالمرتبة الأولى من جهة، والمادة 4 تطاردهم من قبل الجهات الأمنية التي تسيّرها حكومة التحالف الشيعي، وملفات الفساد الجاهزة ومرشحة أن تشهر بوجوههم في أي وقت يشاء الشيعة الذين يمسكون بالحكم بقبضة من حديد ولا يسمحون لسنّي أن يفكر مجرد تفكير بالعودة إلى الحكم، وفقا لهذه الوقائع لا يمكن أن نفترض وجود معارضة سنية في عملية سياسية ترفع شعارها الشراكة لأن هذا الشعار لا يسمح أصلا بالزعم بوجود معارضة سياسية.
جاء الاحتلال الأمريكي وهو محمّل بفكرة واحدة وهي أن السنّة العرب في العراق هم أقلية ضئيلة وأنهم كانوا يحكمون العراق قبل الاحتلال بعد أن سلبوا حق الشيعة والأكراد من كل حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكرّس الأمريكيون التوازن الذي تصوروه في تشكيلة أول مجلس للحكم شكّلوه بعد الاحتلال، وفي قانون إدارة الدولة العراقية المؤقت، وانساق بعض السنة من المتلهفين للحصول على مكاسب السلطة، وخاصة من العناصر التي شاركت في الإعداد لخطة العدوان على العراق وغزوه، أو الحزب الإسلامي الذي كان قد تأسس عام 1960 بصورة رسمية كواجهة للإخوان المسلمين من قبل نعمان عبد الرزاق السامرائي، وقد لعب الحزب أخطر الأدوار في تفريغ المطالب السنية من محتواها الحقيقي وذلك بالزعم باعتماد تكتيكات مرحلية للوصول إلى أهدافهم بعيدة المدى، ولكن تجربة 14 سنة من عمر الاحتلال تأكد أن الحزب المذكور كان يجري وراء مصالح خاصة وتوزيع المناصب والامتيازات على قياداته بخطوطها المختلفة وصولا إلى الخطوط الخلفية.
وتوزع السنة بين حركات وتحركات شتى، كل منها يزعم تمثيل المكون السني، وبعضها يذهب أبعد من ذلك عندما يطرح نفسه ممثلا للشعب العراقي بكامله وهذه القوى هي التي تمثل القوى غير الدينية مثل حزب البعث العربي الاشتراكي الذي ظل يحتفظ برصيد اعتباري كبير في الشارع العراقي ولكنه لم يتمكن من تحويله إلى فعل ميداني منظم وقادر على استقطاب قوى أخرى.
إن الحقائق على الأرض أكدت أن المقاومة المسلحة التي واجهت المحتلين واستطاعت أن تعجّل بانسحاب الأمريكيين عام 2011 بسبب حجم الخسائر التي تكبدوها، كانت ردة فعل عراقية بضمير وطني نقي، ولكنها ما كانت تمتلك رؤية سياسية متكاملة أو برنامجا سياسيا موحدا أو مقبولا من جميع أطرافها، التي يزعم كل طرف منها أنه وحده الأكثر تمثيلا لطموحات العراقيين، ناهيك عن سائر التجمعات السياسية السنية التي تظهر كبثور يطفح على الجلد ولكنه سرعان ما يزول، فما أكثر العناوين والواجهات السياسية والكتل التي أعلنت عن نفسها، ولكنها سرعان ما تلاشت وكأنها ضباب اختفى بشروق الشمس.
من الحقائق المعروفة عن السنة عبر التاريخ أنهم لا يلتقون عند مرجع ديني ليتلقوا منه الفتاوى أو التوجيهات كما هو شأن الشيعة، إذ يتميّز السنة أن السلطة هي التي تجمعهم، فهم يعتبرون ذلك أحد أوجه الاختلاف الذي يميزهم عن سواهم بل هو دليل التفوق في درجة الوعي الذي يميّز سنة العراق وبقية سنة العالم عن سائر المكونات الأخرى، لكن هذا لم يمنع وفي مرحلة ضعف السلطة أو انهيارها أن تبرز ولاءات لا تقل عن تبعية الشيعي لمرجعه الديني، مثل الولاء للعشيرة أو المدينة، وكان لمثل هذه الولاءات التي قفزت إلى الواجهة مؤخرا أن تصبح سدا منيعا يقف حائلا دون الالتقاء على أي برنامج سياسي يوحد السنّة على توجه واحد، ومما فاقم من حدة الانقسام السنّي تغذية تيارات متنفذة في التحالف الشيعي الحاكم للعناصر سريعة الاستجابة لإغراءات المنصب والمال، فكانت بمثابة قنابل موقوتة داخل الكتل السنية تفجرها متى تحين ساعة الصفر فتتشظى تلك الكتل بخلافات تضاف إليها توصيفات أيديولوجية غير مطروقة من قبل، فتصبح العودة إلى الوضع السابق أصعب مما كان عليه الحال قبل ذلك، ولاحظنا انسلاخ عدد من المحسوبين على كتل سنية عنها وانضمامهم إلى تحالفات يقودها متنفذون داخل التحالف الشيعي الحاكم.
في ضوء ما تقدم هل هناك بارقة أمل في تجاوز كل هذه المعوقات التي تعترض طريق السنة للوصول إلى منتصف طريق بينهم ليبحثوا عن مشتركات ويدعّوا الانقسامات جانبا وليبدأوا في خطوات حقيقية للخروج بمشروع مشترك من خلال الاتفاق على الحد الأدنى؟
لقد فشلت كل المشاريع السابقة لأنها تموّلت من رجال أعمال لا صلة سابقة لهم بالعمل السياسي، بل جاءوا إليه وكأنه معهد تأهيلي لإعدادهم لوظيفة أرادوا منها رافعة اجتماعية تكرس لهم حضورا سياسيا، وتنمي لهم ثرواتهم وتضاعف منها من خلال الأذرع التي يمدونها في مفاصل الدولة المختلفة، ولكن الفساد تفاقم ولم يتمكنوا من التقاط درس ناجح وحيد من دخولهم في عالم السياسة من أضيّق ممراته وهو المال، أو من أصحاب تجارب سياسية فاشلة أو من متعجلين أكثر مما ينبغي للوصول إلى أهدافهم، ولهذا عجزت كل التجارب التي حصلت منذ انتخابات 2005 وحتى اليوم ولم تبذل جهود جادة لتشخيص الداء والحلول المقترحة لتخطي أزمة المكون السنّي والحكم.
قاطع العرب السنة في العراق العملية السياسية واستنكفوا منها منذ مباشرة الحاكم الأمريكي المدني بول بريمر بعرض أفكاره ثم فرضها بعد ذلك للبدء بتجربة الانتخابات التي وصفها بأنها ستكون نزيهة وحرة، في إطار خطة شاملة لنقل الديمقراطية إلى العراق، وكان طبيعيا أن ترفض تلك المساعي، لسبب بسيط وهو أن تجربة انتخابات في ظل احتلال أجنبي لم تكن معروفة على نطاق واسع في دول العالم الأخرى، ومع ذلك جازف عدد من السياسيين السنّة وقرروا تشكيل كتل سياسية لخوض الانتخابات، واستطاعوا تحقيق نتائج لم يكن الشيعة ليتوقعوا أن السنة قادرون على حصدها من حقل أرادوا بيدره لهم وحدهم، فرفعت شخصيات شيعية شعار "السنة يحتفلون بالنصر والشيعة يشكلّون الحكومة" وفعلا اقتطف التحالف الشيعي النتائج وجيّرها لصالحه، وتم تشكيل حكومة شيعية مما عزز وجهة نظر رافضي الدخول في العملية السياسية أو المشاركة في أي انتخابات تعقد في نطاقها، إن عدم القناعة بأهلية التيار الإسلامي الذي يمثله الحزب الإسلامي، أو تيار من يطلق على نفسه لقب العلمانيين من السنّة، أو بمساعي رجال المال والأعمال لاستغلال ظرف العراق الحائر، رسخ حالة العزوف السنّي عن سلوك طريق تأكد فشله وما زال فشله يخيم على العراق بظلاله.
أضيف الآن إلى المشهد عامل سيطرة المشروع الإيراني على مفاصل الدولة العراقية على نحو يفوق في تأثيره سيطرة سلطة الاحتلال الأمريكية قبيل عام 2011 أي قبل الانسحاب الأمريكي الرسمي من العراق، فهل سيكرر السنّة الموقف من الاحتلال الإيراني مثلما وقفوا من العملية السياسية والانتخابات تحت لافتة لا انتخابات في ظل الاحتلال الأمريكي؟ وهل سيتمكنون إيجاد قاعدة مشتركة تجمعهم على قاسم مشترك بينهم؟
فماذا يمكن أن يحصل لو تحقق اللقاء بين كتل سنيّة على برنامج سياسي مشترك؟
يختلف السنّة عن غيرهم من مكوّنات المجتمع العراق في أنهم رجال دولة وبناتها الحقيقيون، ولديهم من الخبرات والمهارات الذاتية التي لا يحتاجون معها على الارتكاز على دولة أخرى، فعندهم من الكفاءات في مختلف الاختصاصات العلمية والإنسانية والعسكرية والاقتصادية والأمنية ما يؤهلهم للنهوض بتجربة قيادة الحكم في العراق وإعادة الأمن والاستقرار إلى ربوعه والنهوض بواقعه الاقتصادي ووضع حد للفساد وفرض سلطة القانون وإعادة هيبة الدولة وإعادة الروح إلى القضاء العراقي، تلك الخاصية التي افتقدها جرّاء تفشي الفساد المالي والإداري وإخضاع هذه السلطة لجموح السياسيين وشهواتهم الحيوانية، كما أن إصلاح التعليم بكل مراحله يجب أن يكون عمود أي برنامج سياسي لأي تيار يريد أن يعبر عن طموحات الشعب العراقي وخاصة المكون السني فيه الذي يمتلك ركائز متميزة في هذا المجال.
إن حفظ هوية العراق العربية وتفاعله مع محيطه العربي يعدّ حجر الزاوية في أي برنامج ناجح يراد اعتماده، وينطلق العراقيون منه لبناء دولتهم القوية التي تستطيع صدّ كل الطامعين فيها والمتربصين بها، ثم الانتقال إلى مرحلة البناء الاقتصادي التي يحافظ على الثروات فوق الأرض وخاصة مياه دجلة والفرات وروافدهما وتطوير الزراعة عن طريق اعتماد أحدث الأساليب العملية، واستغلال الثروات في باطن الأرض لخدمة المجتمع العراقي كله، هذه خلاصة ما ينبغي اعتماده في خطة التقاء المعارضة السنية على كلمة سواء فيما بين أطرافها بدلا من الاصطراع والنزاع.