العرب [نُشر في 2017/08/08، العدد: 10716، ص(7)]
الخميني سبب الفتنة والخراب في العراق
عمان - بعد عشر سنوات من إيقاف إطلاق النار على طول الحدود العراقية الإيرانية في حرب الخليج الأولى صدر قرار رئاسي بتوقيع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يقضي بتعيين أستاذ الفلسفة ومباحثها البروفيسور عبدالستار الراوي سفيرا لبغداد في طهران يوم 5 نوفمبر 1998، وهو اليوم الذي صادف ذكرى ميلاده السابعة والخمسين، فانتقل من مقاعد التدريس في جامعة بغداد إلى مقاعد الدبلوماسية لترميم علاقة مع بلد أثقلته ثماني سنوات من حرب ضروس معه.
لم يكن اختيار الراوي عشوائيا لهذه المهمة الصعبة، بل استند إلى أنه أصدر خلال تلك الحرب كتابين عن إيران، أولهما “مقدمة في الفكر الإيراني المعاصر” سنة 1983، وثانيهما “الأيديولوجية والأساطير” سنة 1988، فضلا عن أن حوزة قم كانت تدرس طلابها في إحدى مراحل دراستهم كتابه “ثورة العقل”، إلى جانب أن الراوي ذهب إلى إيران مفاوضا مع وفود عراقية في العامين 1997 و1998.
يكشف الراوي في حديث لـ”العرب” في الذكرى التاسعة والعشرين لقرار وقف إطلاق النار في حرب الخليج الأولى، عن أن جهاز المخابرات العراقي، بعد وقف إطلاق النار بين العراق وإيران في 8 أغسطس 1988، استبق التحرك السياسي والدبلوماسي، فعقد مع نظيره الإيراني أكثر من لقاء لتمهيد الطريق أمام وزارتي الخارجية في كلا البلدين، وكان من ثماره الاتفاق المبدئي على إيقاف الإيذاء المتبادل، وتعليق الأعمال العدائية للمعارضة تجاه كلا البلدين.
ويقول إن التواصل الدوري بين وزارتي الخارجية في بغداد وطهران جرى عبر اللجان الخمس المشتركة لحل الملفات العالقة ومعالجتها بين البلدين، يتقدمها الملف الإنساني المتعلق بالأسرى والمفقودين، وقد تم قطع شوط بعيد نسبيا في ذلك، وإن كان بطيئا، متذكرا لقاء الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بوزير الخارجية الإيراني الدكتور كمال خرازي في بغداد سنة 2001، واصفا اللقاء، الذي استغرق نحو ساعتين بحضور وزير خارجية العراق، آنذاك، السيد محمد سعيد الصحاف، بأنه كان واحدة من أهم المحطات الإيجابية في العلاقة بين البلدين، وكان من نتائجه تسريع عمل اللجان والاتفاق على التسوية التامة للملفات العالقة كافة.
إيران خانت الأمانة
ويشير الراوي إلى أن الرئيس الإيراني الأسبق السيد محمد خاتمي، الذي اعتمد شعار الحوار بين الحضارات والثقافات، أعلن رغبته في إعادة الاعتبار للسياسة الخارجية الإيرانية وفق مبدأ الاحترام المتبادل والامتناع عن التدخل في الشؤون الوطنية للدول الأخرى، وكان خاتمي نفسه يبدي رغبة، وإن كانت مترددة أحيانا، في إنهاء الأزمة باتجاه معالجة المشكلات العالقة وفتح صفحة جديدة بين البلدين، لكن التيار المحافظ كان يقف، بالقدر نفسه وفي السر والعلن، ضد تطبيع العلاقات، إذ كان يختلق الأزمات بين البلدين، منوها بأن الحرس الثوري الإيراني، ووزارة الأمن كانا يقفان أيضا مع التيار المحافظ، وكانا يحاولان إعاقة أي تقدم أو تطوير للعلاقات الثنائية، ولغرض إعاقة تحقيق أي فرصة تقدم على طريق تطبيع العلاقات بين بغداد وطهران.
لم يكف الحرس الثوري في التصدي لجهود التسوية، فكان التنسيق قائما ومستمرا بينه وبين مجلس الحكيم و”فيلق بدر” في إعداد الخلايا الإرهابية وتدريبها وتسهيل تسللها إلى داخل الأراضي العراقية بقصد استهداف بعض المنشآت الحيوية مدنية وعسكرية وضربها وقتل واغتيال بعض الضباط والجنود، ما اضطر السيد محمد خاتمي إلى الاعتراف بأن هناك من يتعاون مع جماعة السيد الحكيم لتخريب أي تقدم في مسار العلاقات مع بعض دول الجوار!
ويقول الراوي “في الوقت الذي كنت شخصيا أواصل اللقاءات مع رئيس الجمهورية ونائبه ومع رئيس البرلمان وكذلك مع الدكتور كمال خرازي وكبار مسؤولي وزارة الخارجية ومع العديد من الوزراء، كان الشيخ هاشمي رفسنجاني، في المقابل، يتجاهل مذكرات سفارتنا المتكررة في تحقيق لقاء معه”، راويا أنه “تزامن في حفل استقبال أقامه الرئيس خاتمي لرؤساء الجامعات الإسلامية، وكنت برفقة الدكتور ناجح خليل الراوي رئيس المجالس العلمية في العراق، ضمن المدعوين، أن رأيت الشيخ هاشمي رفسنجاني وقدمت نفسي إليه بصفتي سفيرا للعراق في إيران، وأبديت رغبتي في لقائه، لكنه نظر إليّ بنصف ابتسامة، وقال كلمتين “يصير خير”، وطبقا لمعلوماتي فإنه كان أحد الممانعين في قضية تطبيع العلاقات بين البلدين”.
وبوصفه سفيرا للعراق في طهران منذ سنة 1998 حتى 9 أبريل سنة 2003، يقرر الراوي “بأمانة شديدة وللتاريخ”، كما يقول، أن العراق كان يمتلك إرادة سياسية ورغبة حقيقية في إيجاد مخارج إيجابية لتطبيع العلاقات مع طهران، بقصد الوصول إلى اتفاقية سلام دائمة، ضاربا مثلا ببعض أهم الوقائع والتداعيات، التي أعقبت انتهاء حرب الخليج الأولى سنة 1988، وهي إطلاق العراق، إبداء لحسن نيته، سراح جميع الأسرى الإيرانيين لديه يوم 12 أغسطس 1990، وإيداعه 144 طائرة حربية من سلاحه الجوي أمانة لدى إيران، التي بدلا من أن تسلم الوديعة إلى العراق فإنها وضعت اليد على طائراته وصادرتها بالكامل.
عبد الستار الراوي: العراق كان يمتلك إرادة سياسية لإيجاد مخارج لتطبيع العلاقات مع طهران
قتل بطيء
في مقابل هذا، يقول الراوي بأسف، إن قيادة إيران ارتكبت أخطاء فاحشة بحق الشعب العراقي، أولها ملف الأسرى العراقيين، فلم تراع أيا من القوانين الدولية أو الأعراف الإنسانية، فحولت ملف الأسرى العراقيين بأضاليلها السياسية إلى لعبة وضيعة، كانت من نتائجها حملة مبرمجة من الاغتيالات والقتل الجماعي والاستمرار في إذلال المودعين في سجونها وإهانتهم، وتعريض الغالبية منهم لاحتفاليات تعذيب مروعة، فقد كان إرهابيو المجلس الأعلى وحلفاؤه يتولون عمليات القتل البطيء التي راح ضحيتها الآلاف من أسرى الحرب، ولعل من بين الأدلة الكبرى أن إيران أطلقت بعض الأعداد عقب الاحتلال الأميركي 2003 وهناك شكوك جدية لدى المنظمة الدولية لحقوق الإنسان في أن إيران مازالت حتى اليوم تحتفظ في سجونها بأعداد من الأسرى العراقيين.
ويواصل “أما الأمر الثاني فهو إقدام إيران في مارس 1991 على التدخل المسلح في الشأن الوطني العراقي، عن طريق تسلل الآلاف من حرس الثورة الإيرانية عبر الحدود إلى داخل المحافظات العراقية في جنوب العراق، وبدأ هؤلاء يضربون وحدات الجيش العراقي المنسحبة من الكويت ويضرمون النار في المنشآت العراقية، خصوصا تلك التي تعنى بالأحوال الشخصية والهويات الثبوتية للمواطنين من دوائر الجنسية أو الأحوال الشخصية أو حتى دوائر المرور، وشرعوا في حرق المستشفيات والمدارس وصوامع الغلال ومراكز الشرطة والمقرات الإدارية وغيرها”، منوها بأن القوات العراقية تمكنت من القبض على 186 ضابطا من حرس الثورة الإيرانية ممن قادوا الإرهابيين الإيرانيين الذين تسللوا إلى داخل العراق.
ويذكر الراوي، أيضا، قيام إيران منذ العام 2002 بالتنسيق مع ممثل الولايات المتحدة الأميركية في باريس، عبر السيد صادق خرازي مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في وزارة الخارجية، وجرى الاتفاق على مشاركة المعارضة العراقية في إيران للقوات الأميركية في العدوان على العراق واحتلاله، وقد تبدى حجم التدخل الإيراني في مشاركة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، الذي كان يتزعمه السيد محمد باقر الحكيم، في لقاء واشنطن وفي المؤتمرات الثلاثة الممهدة للغزو الأميركي والتي عقدت في لندن وصلاح الدين وطهران.
ويكشف الراوي عن أن قضيتين كانتا تؤرقان السفارة العراقية في طهران، هما عودة الأسرى وحل قضية اللاجئين، الذين تعرض الكثير منهم للمهانة والإذلال على يد القوات الأمنية ودائرة الإقامة، ويقول “كتب بعض اللاجئين رسائل احتجاج على سوء المعاملة ونشرتها في حينها صحيفة الوفاق الإيرانية، وقد ورد فيها ندم العراقيين لأنهم تخلوا عن نصرة بلادهم أثناء الحرب ووقفوا يقاتلون إلى جانب القوات الإيرانية، وكانت مكافأتهم إما الانضمام إلى قوات بدر، وإما السجن وإما الطرد من البلاد، وحين توضحت هذه الحقيقة أصدر العراق عفوا غير مشروط، بعودة اللاجئين العراقيين كافة إلى وطنهم، وإصدار جوازات سفر جديدة بدلا من المزورة”.
قيادة إيران ارتكبت أخطاء فاحشة بحق الشعب العراقي، أولها ملف الأسرى العراقيين
يذكر الراوي أن قرار العفو استفز المجلس الأعلى وقوات بدر ومنظمة العمل وحزب الدعوة، وبعض التنظيمات الصغيرة، فشنوا، عبر جرائدهم والإذاعة الموجهة، حملة تشكيك إعلامية صاخبة ضد السفارة، وأصدروا بيانا إثر بيان، يحذرون العراقيين من التوجه إلى السفارة، لأنهم سيلاقون حتفهم وسيحملون بصناديق إلى بغداد.
قاع العالم السفلي
تطرق الراوي إلى الأساليب المتدنية التي اتبعها حرس الثورة الإسلامية، والتي عبر عنها الانتقام الوحشي من كل عراقي شارك في الدفاع عن بلاده في حرب الثماني سنوات، فجرى اغتيال أعداد غفيرة من منتسبي القوات المسلحة، والقيادات المدنية، وانحدرت فرق الموت الإيرانية إلى قاع العالم السفلي في تواطئها مع “الشيطان الأميركي” المحتل، عندما أخذت على يديه لتسهيل مهماته الهمجية، في ملاحقة المقاومة العراقية وتصفية أنصارها، بل وجرى تزويد الـ”CIA” بكل ما تحتاج إليه من معلومات تم وضع اليد عليها عبر أحزابها الموالية، لتغذية النزعات الانقسامية وإيقاد نار الحرب الأهلية، وتنفيذ سلسلة طويلة من عمليات التصفية الجسدية من اغتيال وقتل وإعدام، على وفق قاعدة معلومات تفصيلية أعدتها إطلاعات الإيرانية بمعاونة وجهود حلفائها وأحزابها التي تتربع على عرش الحكم، طبقا لتقارير المنظمات الحقوقية الدولية وفي مقدمتها المؤسسة العربية لحقوق الإنسان وسواها.
وذكّر الراوي بتأكيدات المنظمات الدولية وجمعيات حقوق الإنسان ومراكز الرصد الوطني أن عمليات تصفية الكفاءات العلمية تدل أرقامها وكيفياتها على تواطؤ قوات الولايات المتحدة مع جهاز الموساد الإسرائيلي والأحزاب الدينية، بتوفيرها الأجواء المناسبة أمام قوات حرس ولاية الفقيه، في إعداد فرق الموت وتدريبها وتسليحها لاغتيال العلماء والأكاديميين وذوي الكفاءات المعرفية، لإفراغ البلاد من عناصر القوة القادرة على إعادة البناء والتنمية.