الديمقراطية والوحدة عنوان المرحلة الجديدة ... هاتين الكلمتين كانتا عنوان الخطاب الاخير في حياة الرفيق القائد المؤسس ميشيل عفلق رحمه الله والذي القاه في ٧ نيسان عام ١٩٨٩ قبل وفاته بأشهر معدودة ، عندما لخّص بهما تجربة وطنية وقومية طويلة حافلة بالنضال والتضحيات والمعاناة والانتصارات وبالخصوص الانتصار التاريخي الذي تحقق على العدوان والعنجهية الايرانية الخمينية في قادسية العرب الثانية ، قادسية صدام المجيدة ، مفتتحاً بذلك عهداً جديداً من التفكير والدعوة لتطبيق خطوات ديمقراطية عميقة وحقيقية ، تحقق أكبر قدر من مشاركة الشعب في صناعة وبناء مستقبله ، وتؤكد دوره في تحقيق الوحدة الوطنية والقومية على أسس تحترم فيها ارادة الشعب ومصالحه العليا كونه يشكل الضمانة لحماية هذه المنجزات والانتصارات والدفاع عنها .
ولقد جسّد مفكر البعث الاول بهذا الخطاب التاريخي منهجاً حضارياً يستلهم فيه قيم وروح التراث ، ويستوعب متطلبات العصر ، ويلبي مستلزمات التطور الحديث ، وينسجم مع حاجات المستقبل ومع التقدم في الحياة السياسية على مستوى العالم خاصة عندما أشار بوضوح الى أن عنوان المرحلة التاريخية التي تبدأ الآن هو : الديمقراطية والوحدة وإعتبر الديمقراطية بمثابة عملية إنقاذ للأمة كما هي الوحدة .
وقد أوضح الرفيق المؤسس رحمه الله ثلاثة حقائق أساسية حول اهمية الديمقراطية معتبراً إن عودتها بمثابة عودة الروح التي غابت عن الامة ، وإن حزباً واحداً أو تياراً واحداً لايمكن أن يفي بحاجات القضية القومية لوحده والتي تحتاج لجهود الجميع . اضافة الى أن الديمقراطية اذا ماتحققت فستكون مصدر الشرعية الجديدة لقيادة النضال العربي نحو المستقبل ... ولعل الحقائق التي أوضحها القائد المؤسس تعبر عن نفسها مثلما جاءت في الخطاب وهي :
- الحقيقة الأولى التي تطرح نفسها اليوم طرحا حيا تتلازم فيه الأبعاد الفكرية والنضالية والسياسية والاجتماعية ، هي حاجة إنقاذ الامة ، أمام ما أصابها في العقود الأخيرة من تداع وترد وهبوط وانقسام وضياع ، أوصلها إلى نوع من الشلل وضع الجماهير في حالة المتفرج على النكسات والهزائم ، وشجع الأعداء على التطاول والعدوان ، إن فترة قاسية من حياة الأمة مرت كاشفة ما خلّفه غياب الديمقراطية من آثار مدمرة في بنيان العمل القومي . إن الطروحات الفكرية حول الديمقراطية على أهميتها ومهما كانت قيمتها ، تبقى مجردة إذا لم تلامس حقيقة ما تمثله الديمقراطية في المرحلة المقبلة من عودة للروح التي غابت عن الأمة ، عندما غيبت الجماهير .
- الحقيقة الثانية مرتبطة بالأولى ومستنبطة منها وهي : إن القضية القومية أصعب وأكثر تعقيدا من أن يستطيع تيار واحد أو حزب واحد ، أن يفي بحاجاتها وان يقوم بحلها أو يستوعبها ، فإذن هي بحاجة إلى جهود الجميع ، والى آراء ووجهات نظر مختلفة تتكامل ويصحح بعضها بعضا .
- الحقيقة الثالثة تتلخص في أن الديمقراطية عندما تصبح حقيقة واقعة في الحياة العربية ، تكون المصدر لشرعية جديدة تأتي من حصيلة الحوار والنضال والاختبار العملي النضالي ، ومدى التجاوب مع أماني الشعب وإرادة الجماهير ، ومدى تمثل هذه الحركات لتطلع الجماهير إلى النهضة والتقدم والدخول الحاسم في حياة العصر . لان الشرعية التي تقدمها الديمقراطية لا تكتمل إلا بالتوجه نحو العدالة الاجتماعية ونحو تحرير الطاقات الجماهيرية من ضغط الحاجات اليومية ، فكما أن الديمقراطية والوحدة تشكلان حالة إنقاذ ، فان الاشتراكية تشكل بدورها الضمانة الأساسية لحيوية هذين الهدفين ولربطهما بمصلحة العدد الأكبر .
إذن تلك هي الحقائق الأولية التي تطرح نفسها والتي تشكل بمجموعها تعبيراً عن إن الديمقراطية ليست مطلوبة كعلاج لحالة سلبية مزمنة أصابت الجسد العربي والحركة الشعبية العربية فحسب ، بل إنها مطلوبة أيضا لتعميق حالة الاستنفار وتكثيف الوعي بالأخطار الخارجية المحيطة وبالأمراض الداخلية المستوطنة ، فالمطلوب إذن من المرحلة الجديدة كما حدده مفكر البعث ، يتلخص في أمرين أساسيين :
١- عودة تاريخية للحركة الشعبية العربية بوزن كبير يكون في مستوى الأخطار ووسائل الأعداء ..... أي بمعنى أن يكون للشعب وقوى الامة الحية رأيها في صناعة الاحداث والرؤية والمنهج .
٢ - تغيير العقلية والنظرة إلى الجماهير والى المواطنين ، والى حقوق الإنسان ، تغييرا أساسيا مستندا إلى المنطق الحضاري الإنساني للنهضة العربية ..... أي بمعنى الإنصات والتواضع أمام ارادة الشعب وتطلعاته والاستماع لنبضه الذي لاينقطع مهما كانت الصعوبات .
ويضيف القائد المؤسس ... إن العودة إلى الديمقراطية بعد غياب طويل يشكل عملية صعبة وتحتاج إلى جهود جميع المفكرين والقيادات الوطنية ، والى حصيلة تجاربهم الناضجة من أجل رعاية هذه العودة ، ومن أجل أن تجتاز خطواتها الصعبة ومراحلها الضرورية .
وينهي محور حديثه في هذا الجانب بأهمية الحوار الديمقراطي المنطلق من الإيمان بوحدة الأمة ، المتحرر من الحساسيات والذي ينبغي أن يتسع وان يتعمق بين البعثيين والناصريين والإسلاميين والماركسيين وسائر القوى الوطنية والقومية ، وهو الذي سيكون المدخل الطبيعي لبلوغ هذا المستوى الجديد ، الكفيل وحده ، بفتح آفاق العمل المستقبلي على انتصارات جديدة للأمة .