مقال نشر في جريدة النهار اللبنانية الصادرة الْيَوْمَ
عندما تقف أمام سنديانة عتيقة لا تملك إلاّ أن تسبّح الله، وعندما تقف أمام جبل عالٍ تحتار كيف ارتفع.. وعندما تقف أمام بحر هائج يأخذك المشهد، وعندما تقف أمام قامة شامخة تخذلك الكلمات..
هكذا أقف أمام ذكراه.. تسعون ربيعاً بتمامها وكمالها أقفلت أبوابها أخيراً على رجل لا كالرّجال، إنما كجبابرة الأساطير.. فكيف لي أن أضيف دون أن أكرر أو أقتبس عن أولئك الكبار..؟! ولكن، ومعه....
لي نشوتان، وللنـُّدمان واحدةٌ... شيءٌ خـُصِصْتُ به من دونهم وحدي
فأبدأ من حيث بدأت مسيرتي مع عبد المجيد الرافعي.. فقد جمعتنا وحدة الموقف منذ بداية الستينات، ومن خلال مشواري النضاليّ معه، وجدت نفسي قد انجذبت إلى صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي مأخوذاً بسيرته وسمعته وعطائه..
كنت قريباً منه، كما يعلم جميع الرفاق والأصدقاء، فترة تسمح لي بأن أعرف معدنه حقَّ المعرفة، وأن أطـَّلع على تفاصيل حياته، ونضالاته، والكثير الكثير من أسرار اكتنفت مسيرته النضالية..
الحديث عن عبد المجيد الرافعي يبدأ من شخص قضى سحابة عمره قريباً من الناس خادماً لهم.. فاكتسب بذلك ثقتهم. نعم، لقد حصل على ثقة الفقراء ومتوسطي الدّخل، والكثير من أبناء البرجوازية الطرابلسية وبعض رموز العائلات العريقة.
وهو بهذه العلاقة التي أنتجت هذه الثقة استمرّ في مسيرته التي لم تتغير ولم تتبدّل، بل كانت تتطوّر بتطوّر الظروف المواكبة.. وبفضل هذه الثقة كان ينال الأصوات الانتخابية التي مكـّنته من الفوز في دورة سنة 1960 الانتخابية، حيث هنـّأه سعادة المحافظ ليلاً على فوزه، واستيقظ على صباحاً على خبر "سقوطه".. فما كان منه إلاّ أن قام بتهدئة الجماهير التي انتفضت غاضبة ضدّ التزوير، معاهداً إيّاهم على الاستمرار في النهج السلميّ لحركة النضال التي كان يقودها حتى تحقق الفوز الساحق في دورة عام 1972.
كيف لا وهو طبيب الشعب، وحكيم طرابلس، وهو ابن طرابلس البار، وهو الطيّب ابن الطيّب..؟!
وبسبب موقعه من أهل طرابلس خاصّة ولبنان عامة، وبفضل التزامه الحزبيّ ونضالاته المتواصلة، فقد تدرّج عبد المجيد الرافعي في المواقع الحزبية حتى بلغ أعلى المراتب كنائب للأمين العام للحزب.. إضافة إلى تحمـّله مسؤولية (أمين سرّ الحزب في لبنان)، فكان بذلك صاحب رأي سديد داخل الحزب، لا يهادن ولا يساوم.
ومن أهم محطاته النضالية داخل الحزب.. أنه بعد العدوان المجرم على العراق عام 2003 قام عبد المجيد الرافعي بمجهود كبير يُسجّل له بغية تأمين استمرارية الشرعية الحزبية من خلال الجهود المضنية التي بذلها في جمع القيادة القومية، بعدما تعطـّل دور الأمين العام للحزب بسبب الملاحقة الأميركية. فجمع عبد المجيد الرافعي بصفته الأمين العام المساعد جميع أعضاء القيادة القومية، وأعاد لها دورة عملها وانتظام اجتماعاتها الدورية، ومتابعة الوضع التنظيمي والإشراف عليه في الوطن العربي وخارجه. مع ما يتطلب هذا الأمر من بذل جهود مضنية في ظروف اشتثنائية وشديدة الخطورة. واستمرّ في لعب هذا الدور حتى بعد انتخاب عزّت إبراهيم الدوري أميناً عاماً جديداً للحزب، بعد جريمة اغتيال الرئيس الشهيد القائد صدام حسين المجيد الأمين العام السابق للحزب..
وفي السنوات الأربع الأخيرة كان عبد المجيد الرافعي يعاني من المرض الخبيث، ولم يمنعه ذلك من الاستمرار في القيام بواجبه تجاه حزبه وأمتـّه وشعبه.. وللحقيقة والتاريخ نعلن أن آخر اجتماع عقده مع القيادة كان يوم يوم الجمعة الموافق 7/7/2017 قبل صلاة الجمعة وبعدها.. وكان على موعد لعقد اجتماع القيادة القومية يوم الجمعة في 15/7/2017 ولكن المنية وافته يوم الأربعاء في 12/7/2017.
نعم.. أيها الحكيم: لقد أعطيت أمّتك وشعبك وحزبك حتى النـّفس الأخير.
ستبقى ذكراك ماثلة في الأذهان وفي النفوس والقلوب إلى الأبد، ينقلها جيل إلى جيل كبطل قوميّ أسطوريّ يتجسّد حكاية في التـّراث الوطني، الرسميّ والشعبيّ، وكرواية نموذجية بطولية تتناقلها الألسنُ والأفئدة. أليس هو كما قال الشاعر فيه:
وعبدُ المجيدِ الرّافعيُّ كتابّنا فـّمـَنْ معهُ اسـْتـَغنى عنِ الكلِّ مذهـَبُهْ
ستبقى ذكراك ماثلة في العيون والوجدان تُفيض علينا عطورها كلّما أزهر الياسمين في حديقة بيتك، وفاح عطر الليمون، وتدللت الغاردينيا، واحمرّ "الزعرور"، أو مالت الشمس نحو الغروب تودّع كلّ يوم وهي تقدم سوارها الذهبي عربون وفاء لك، ولطرابلس.
هشام عبيد