شهدت السّياسات السّعوديّة منذ فترة انفتاحا ملحوظا على العراق تميّز بتعدّد لقاءات كبار المسؤولين السّعوديّين وعلى رأسهم وليّ العهد محمّد بن سلمان بعدد من الفاعلين السّياسيّين في العراق.
أثارت هذه اللّقاءات موجة من المواقف المتباينة والمتضاربة تراوحت بين المؤيّد والرّافض والمشكّك والمتسائل، وتعمّق الجدل بهذا الشّأن نظرا لاستقبال السّعوديّة أقطابا من اتباع ايران كالعبادي ووزير داخليّته أحد قياديي منظمة بدر . لتحظى زيارة مقتدى الصّدر بهالة من الاهتمام منقطعة النّظير.
وفي الحقيقة لم يشذّ المتناولون لهذه الزّيارات عن المألوف حيث اكتفت غالبيّتهم العظمى بالنّظر إليها سطحيّا ومن خلال التّركيز حصرا على الأبعاد الطّائفيّة وكذلك التّقيّد بالارتباط بأحد المحورين وهما المحور السّعوديّ وخصمه الإيرانيّ ما أفقد تلك التّحاليل مصداقيّتها وجرّدها من كلّ عمق. وحين نتحدّث عن العمق فنحن لا ندّعي أنّه موقوف علينا، أو أنّنا أصحاب حقيقة مطلقة، ولكن لعلمنا الأكيد بأنّ هذه الزّيارات هي أبعد بكثير ممّا قيل في شأنها.
فمن المعلوم أن إيران والسّعوديّة تتصارعان منذ سنوات، وتصاعد هذا الصّراع مؤخّرا خصوصا مع تشكيل التّحالف العربيّ الإسلاميّ وحربه على أنصار الله الحوثيّين ذراع إيران في اليمن وما تلاه من اعتداءات على سفارة المملكة في طهران وقنصليّتها في مشهد إضافة لاستهداف سفير السّعوديّة في العراق من قبل الميليشيّات الطّائفيّة الإرهابيّة المرتبطة بإيران رأسا ناهيك عن اتّهام السّعوديّة لإيران بالضّلوع في مساعي إثارة البلبلة والفتنة الطّائفيّة في الجهة الشّرقيّة من خلال دعم الهالك نمر النّمر وزمرته دون نسيان أحداث الحجّ وغير ذلك، ومن المعلوم أيضا أنّ هذا الصّراع أريد له منحى طائفيّا صرفا بادّعاء أنّ السّعوديّة ترعى السنّة في العالم وهو ما يبرّر لإيران أن تكون قبلة الشّيعة ومركزهم الرّوحيّ وغير ذلك رغم ما يعتري هذا الطّرح من ضعف وغباء شديد نظرا لحرص إيران على إخفاء أجنداتها وبرامحها التّوسّعيّة الاستيطانيّة ذات النّزعة القوميّة الفارسيّة العنصريّة الشّعوبيّة وإلباسها لبوسا طائفيّا لاستمالة العرب من أبناء الطّائفة الشّيعيّة، وما دام الأمر كذلك فلقد استغرب كثير من المحلّلين والمتابعين وبشدّة استقبال الرّجل القويّ في النّظام السّعوديّ وليّ العهد محمّد بن سلمان لعدد من كبار المحسوبين على إيران بل والمنخرطين في أجنداتها والسّاعين لتمريرها على حساب العراق والعرب جميعا وعلى رأسهم مقتدى الصّدر.
أتت إذن أوّل ردود الفعل خصوصا فيما يتعلّق بزيارة مقتدى الصّدر للرّياض من اتباع إيران وأذرعها الموزّعة داخل الجسد العربيّ أوراما سرطانيّة صفراء ليعبّر المجرم المالكي عن رفضه للزّيارة ثمّ يتراجع ليؤكّد على سعادته بها ما يعكس تناقضا واضحا وهو الذي كال ما كال للسّعوديّة من تهم من إيران ليس أقلّها تحميله المسؤوليّة للسّعوديّة عن كلّ الإرهاب في العراق واليمن وحتّى العالم، ثمّ ليتلوه حزب الله الذي ذهب لحدّ اعتبار زيارة الصّدر إعلانا صريحا عن خروجه وابتعاده عن الحضن الإيرانيّ في موقف غابت فيه الدّيبلوماسيّة في حدودها الدّنيا، ثمّ حرص المجرم قيس الخزعلي على التّأكيد على أنّه سيرفض زيارة الرّياض إذا ما دعي لها..
ثمّ صدرت مواقف أخرى تميل لجهة السّعوديّة لتتحدّث عن كون استقبالها لرموز شيعيّة عراقيّة إنّما هو نجاح ديبلوماسيّ وخرق أمنيّ وسياسيّ سعوديّ للقبضة والسّيطرة الفارسيّة على الطّائفة الشّيعيّة لتلتزم هذه القراءات هي الأخرى هوى طائفيّا يعمي العيون عن حقيقة ما يجري وعن جوهر الأمور.
إنّ هذا الحراك الذي تشهده السّعوديّة وانفتاحها على رموز في العمليّة السّياسيّة المهترئة في عراق ما بعد الغزو وخاصّة من الطّائفة الشّيعيّة لا يمكن تناوله ولا قراءته من خارج توجّه دوليّ جديد تقوده الولايات المتّحدة الأمريكيّة ببطئ ملحوظ ولكنّه جدّي وحقيقيّ يتمثّل في البدئ في تقليم أظافر إيران في العراق والانطلاق في تحجيم دورها والحدّ من تنفّذها وقد بلغ مراحل متقدّمة جدّا بات فيه قاسم سليماني صاحب العقد والحلّ في بلاد ما بين النّهرين، وليس هذا بمتناقض مع رعاية الولاية المتّحدة الأمريكيّة للجرائم المروّعة التي تخطّها ميليشيّات التّرهيب والتّقتيل الطّائفيّ بحقّ العراق أرضا وشعبا وتاريخا وحضارات. ويتّضح جليّا هذا البدء بسحب البساط من إيران في العراق من خلال إجراءات عديدة لعلّ أهمّها الحديث عن ضرورة حلّ الحشد الشّعوبيّ الصّفويّ وتحييده، وتزامن ذلك مع انشقاقات كبيرة وصراعات داخليّة بيّنة داخل الأحزاب الطّائفيّة الصّفويّة في العراق مثل تيّار الحكمة للمجرم الحكيم والأنباء الموثوقة التي تشي بقرب انفصال المجرم حيدر العبادي عن حزب الدّعوة الإرهابيّ وغير ذلك.
وإنّ التّعاطي القوميّ الأصيل مع مثل هذه الإرهاصات لا يمكن إلاّ أن يشجّع السّعوديّة وغيرها من الأنظمة العربيّة على التّوغّل للدّاخل العراقيّ بغية تخليصه من سطوة إيران وشرورها من جهة ولتكفيرها عن ذنوبها السّابقة تجاه العراقيّين تماما كالأمريكان والبريطانيّين اللتين سلّما العراق على طبق من فضّة لملالي الشّر والإرهاب والبغي والعدوان.
لكن وفي المقابل، وبعيدا عن أيّ ارتباطات طائفيّة مقيتة، وأيّ تسرّع عاطفيّ، فإنّ الانفتاح على العراق وأهله وان كان امرا محمودا ومطلوبا بل وضروريّا لجميع العرب، فإنّه لا يجب أن يكون انفتاحا عبثيّا مزاجيّا وبلا اتّعاض بالماضي القريب..
فالعراق وشعبه قد ذاقا الويلات التي لا نظير لها في تاريخ البشر كلّه منذ غزو بغداد سنة 2003، وتفاقمت مآسيهما في ظلّ العمليّة السّياسيّة الطّائفيّة المقيتة التي رعتها أمريكا وغذّتها وأشرفت عليها ونفّذتها إيران بواسطة عملائها سنّة وشيعة، عربا وأكرادا وتركمانا وغيرهم. وهذه العمليّة الجاسوسيّة القذرة أنهكت العراق وأحالته لبحر من الدّماء وأفسدت معالم الحياة فيه لعقود قادمة طويلة بأن قتّلت وشرّدت ونفت وأسرت وعذّبت وهجّرت أبناءه وكوادره وعقوله وعلماءه وخبراته في مجالات الحياة كافّة، وهي – أي هذه العمليّة السّياسيّة المنصّبة من الاحتلالين الأمريكيّ والفارسيّ الصّفويّ – باتت شعبيّتها في الحضيض وغدت منبوذة معزولة في الشّارع العراقيّ بل إنّ بغضها والسّخط الجماهيريّ عليها يتصاعد خصوصا وبشكل لافت في المناطق التي عدّها الجاهلون بطبيعة شعبنا العربيّ في العراق خصوصا في الجنوب والفرات الأوسط احتياطا استراتيجيّا للفرس ومنهج التّشيّع الصّفويّ، ممّا يجعل من هكذا خطوات باتّجاه مقتدى الصّدر وغيره شكلا من أشكال التّنفيس عنهم وهم في أكبر مآزقهم وعزلتهم، وتتضاعف المسألة إذا ما أتت من السّعوديّة تحديدا..
نعم، قد يكون مقبولا في حسابات السّياسة ومتطلّبات البراغماتيّة الذّهاب لاعتبار تحييد حلفاء أقوياء وتاريخيّين للفرس الصفويّين وجذبهم وترغيبهم للملعب السّعوديّ مكسب سياسيّ بامتياز، وقد يكون متاحا بالمقاييس نفسها تلك اعتبار مدّ الصّلات وتوطيدها معهم نصر سعوديّ وتجريد لغريمتها إيران من عوامل تنفّذ مهمّة في العراق..
ولكن..
أليس الصّدر هذا وغيره من الذين يؤثّثون المشهد السّياسيّ المتعفّن في العراق هم من أكبر الذين أجرموا بحقّ العراق والسّعوديّة والعروبة ذاتها..؟ ألم يصرّح هؤلاء مرارا وتكرارا بما يهدّد السّعوديّة تهديدات جدّية وغير مسبوقة تحديدا؟ ألم يكيلوا للسّعوديّة كلّ الاتّهامات بالإرهاب بل وكفّروها نظاما وشعبا ودولة؟ ألم يهدّدوا بجعل العراق منصّة انطلاق فيالق التّحرير الفارسيّة لمكّة والمدينة؟
ثمّ وهذا الأهمّ، أفإن كان الغرض من مثل هذا الحراك تدشين عهد جديد في العراق يقصي إيران وميليشيّاتها وأعوانها، فهل يستوي ذلك مع مصافحة أقطاب العمليّة السّياسيّة التي نشأت وترعرعت في حضن المحتلّين وبثّت الطّائفيّة وأعملت القتل في كلّ شعب العراق ونهبت ثرواته وفوّتت فيها لإيران ومكّنتها من التّوغّل والسّيطرة على ألباب ملايين العرب؟ أليس هؤلاء من الذين يتبجّحون بخدمة ولاية الفقيه ليلا نهارا، ويعتبرون الدّفاع عن إيران واجبا شرعيّا وأخلاقيّا وسياسيّا في حال نشوب أيّ نزاع بينها وبين السّعوديّة؟
إنّ طرد إيران من العراق وتحجيم دورها وتقليصه إذا صدقت التّوجّهات الدّوليّة لا يستوي ولن يكتب له النّجاح في ظلّ هذه التّوجّهات الخاطئة والمتسرّعة أبدا.. فالعراق أوسع واكبر من ان يقتصر تمثيله في هؤلاء الرّعاع وشذّاذ الآفاق والمرتزقة الذين امتطوا ظهور دبّابات الغزاة، والرّهان على أمثال هؤلاء الذين لا يفقهون في عوالم السّياسة شيئا إنّما هو رهان فاشل بامتياز بل والعمل من اجله لا يزيد عن إهدار للوقت والمجهود..
نعم، التّوجّه للعراق كما تحدّث بذلك وليّ العهد السّعوديّ محمّد بن سلمان والاستثمار فيه وإعادة إعماره بعد أن خرّبه الغزو والعمليّة السّياسيّة المتهالكة، والتّمسّك بعروبته ووحدته التّرابيّة والدّفاع عنها كلّها أمور لا نقاش حولها بل لا ينكرها ولا يجادل بشأنها سوى عميل أو خائن او تابع لإيران وميليشيّاتها او منغمس في المشاريع الصّهيونيّة والاستعماريّة والامبرياليّة..
ولكن..
أليس العراق أكبر من كلّ تلك الوجوه الصّفراء الصّفيقة التي أثخنت جراحات ما بين النّهرين؟
أليس من المفترض أن يكون الاتّجاه الحقّ صوب القوى الوطنيّة والقوميّة والإسلاميّة التي قدّمت تضحيات خرافيّة وصمدت صمودا أسطوريّا بوجه المحتلّين وميليشيّاتهم ونزفت دماء غزيرة في سبيل عروبة العراق واستقلاله وتحريره وتخليصه من براثن الطّائفيّة المقيتة وحالت دون طمس هويّته وتغيير ديموغرافيّته؟
ألم يكن جديرا بالسّعوديّة أن تنخرط في برنامج المقاومة الوطنيّة والقوميّة والإسلاميّة بقيادة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ بإمرة شيخ المجاهدين عزّة إبراهيم؟
ألم يعترف ويسلّم العالم وخاصّة الأمريكان وحلفاؤهم بأنّه لا سبيل لحلحلة الوضع في العراق في ظلّ إقصاء خيرة أبنائه ومع استمرار الاجتثاث والحظر والملاحقات؟ أي المقصود بخيرة أبناء العراق الوطنيّين هم رجالات البعث وحلفاءهم في المقاومة العراقيّة الباسلة؟ أليس الحديث عن ضرورة إعادة بناء الجيش العراقيّ وفق عقيدة وطنيّة وكذلك إرساء نظام وطنيّ علمانيّ تعدّدي ديمقراطيّ لا يفسّر من خارج الانفتاح على طليعة العراق الحقيقيّة وهم رجال البعث والجيش العراقيّ الباسل زمن النّظام الوطنيّ؟
لماذا إذن يفوّت على العراق وشعبه وعلى السّعوديّة وعلى كلّ العرب الوقت في مصافحات وتحرّكات لا طائل منها؟
ألم يسمع حكّام السّعوديّة لنصائح شيخ المجاهدين في آخر خطاباته بمناسبة الذّكرى السّبعين لتأسيس حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ وكيف شرح سبل تخليص العراق من الجحيم الذي فرضته مجاميع الشّر الشّيطانيّة عليه؟ ألم يتدبّروا في كلامه عن المنعطف الخطير والمأساويّ الذي انحدرت له الأمّة، أولم يفهموا تشريحه للمخطّطات المعادية وخصوصا الفارسيّة الصّفويّة وسبل مقاومتها؟
ثمّ ألم يقرؤوا ما جاء في حواره التّاريخيّ وإطلالته على جماهير الأمّة العربيّة من تونس يوم 15-05-2017 مع الصّحفيّة التّونسيّة صوفيّة الهمّامي المنشور بجريدة الشّارع المغاربيّ حيث تحدّث عن النّظام العربيّ وواجباته تجاه العراق وخصّص جزء من حديثه لتبيان مخاطر اعترافهم وتنسيقهم بحكومة المنطقة الخضراء في بغداد المحتلّة حيث قال:
" أقول لإخوتي الحكام العرب إنّ السّكوت على جرائم إيران في العراق وسوريا واليمن سيكون ثمنه باهضا على السّاكتين ولو أنّ العرب قاتلوا إيران في العراق ما زحفت إلى سوريا، ولو أنّهم قاتلوها في العراق وسوريا ما أشعلت النّار في اليمن وهكذا ستزحف نار الفرس في وطننا الكبير فلا ينجو منها أحد إلاّ من استعدّ وشمّر لقتالها قبل أن تصله نارها."
وأضاف:
" أُحيّي مقاومتنا من منبركم هذا، وأُحيّي شعب العراق الذي يمدّها بالمال والرّجال وعتبي الشّديد على نظام الأمّة الرّسميّ الذي أعطى ظهره للبعث وللمقاومة وللعراق وشعبه ولم يمدّ لهم يد الأخوّة ولو بملّيم واحد أو بطلقة واحدة بل يشترك في حصار الحزب والمقاومة ويتآمر على الحزب والمقاومة مع الغزاة ومع أعداء الأمّة."
أفلم يحن الوقت إذن ليكفّر العرب الرّسميّون عن ذنوبهم تجاه العراق ومن ثمّ تجاه الأمّة؟ أليس طريقهم الوحيد في ذلك التّعويل على شعب العراق الصّامد وقواه الطّلائعيّة المناضلة المقاومة المجاهدة المرابطة بسوح الوغى؟؟
إنّ استقبال المجرم مقتدى الصّدر وغيره من رموز العمالة والتّبعيّة لإيران لن يحقّق للسّعوديّة ولا للعرب شيئا يذكر، بل على العكس تماما، ستكون نتائجه وخيمة على مساعيهم لمقاومة الخطر الفارسيّ الزّاحف، وما عليهم في المقابل لتخليص العراق ولحماية أنفسهم والأمّة من المخطّط الفارسيّ الصّفويّ الشّيطانيّ إلاّ بالإقبال والانخراط في مشروع المقاومة العراقيّة الباسلة بقيادة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ وخصوصا في تفعيل مشروعه السّياسيّ الذي قدّمه قبل أشهر لحلّ القضيّة العراقيّة حلاّ شاملا وجذريّا.
نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس