هنا نرى مجال التزوير واضحا بحصر تاريخ العالم بما كتبه الغربيون فقط وتجاهل او تقزيم تاريخنا وتاريخ العالم الثالث وتشويهه او تزويره ولعل من اسوء اشكال التزوير الحالية هو الترويج الامريكي لفكرة ان الاثار الكثيرة والتي لا يمكن صنعها حتى بادوات عصرنا الحالي كاهرامات مصر والكتل الصخرية المنحوتة والضخمة جدا في لبنان وفي امريكا اللاتينية هي نتاج حضارات غير ارضية اقامتها مخلوقات غير بشرية ! فلكي يواصلوا التعتيم على ما حصل فعلا في الماضي السحيق بعد اكتشاف اثار ولقيات لا يمكن تفسير وجودها في ذلك الوقت وفقا لما كتب في التاريخ الذي قال بان الحضارات بدأت بسومر ومصر روجوا لنظرية الاصل الكوني لحضارات بائدة مجهولة الهوية وهي نظرية تحقر الانسان وتضلله وتزجه في ازقة خانقة لوعيه .
ما نجده الان من اثار ولقيات اعجازية من صنع البشر ولكن في حضارات مندثرة لا نعرف عنها شيئا وعدم المعرفة متعمدة من قبل من كتب تاريخ العالم وهم الاوربيون والامريكيون لان تلك الحضارات تتمركز في مناطق هويتها غير اوربية ولا امريكية بل عربية ومن ما يسمى العالم الثالث الان والذي صور من قبل الغرب على انه متخلف وان من صنع حضارات منه سابقا كالعرب العراقيين والمصريين والشاميين والمغاربة فقدوا قدراتهم بعد ظهور الاوربي الابيض الذي فاق في ذكاءه كل الاجناس الاخرى ! وهنا في هذا الترويج العنصري الزائف مكمن السر في التعتيم على الحضارات البائدة ومحاولة منع معرفة من بناها فعلا وما هي انجازاتها .
ولكي تستمر عملية منع الضحايا من النهوض مجددا يجب منع استخدامهم لقوتهم مرة ثانية وافضل وسيلة هي انكار وحدة هويتهم القومية وفرض قصص تاريخية تافهة او مزورة عنهم وعن العالم ، ومن بين اهم الوسائل كما رأينا تعمد فرض هوية جغرافية لتحل محل الهوية الحضارية والثقافية والتي تشكل اهم مميزات الانسان ، لان المكان الجغرافي لا يمنح هوية وانما الثقافة والحضارة هي التي تشكل هوية البشر .
التسميات في الخريطة الجينية هي مكمن التزوير للواقع التاريخي فلكي تقزم حقيقة تم الاعتراف بها وهي ان العرب وصلوا اوربا قبل 40 الف عام وتنكر عروبة المغرب العربي ومصر – وهي من اهم شروط تعاظم قوة العرب حاليا - كان ضروريا انكار عروبة المغرب العربي ومصر وتزوير تاريخهما وهويتهما القومية العربية ، وكانت لعبة الاسماء خير وسيلة فاطلقت تسمية بشرية ولكنها اسطورية وهي السامية – نسبة الى سام بن نوح - على الكتل البشرية العروبية ، مثلما اطلقت تسمية مكانية لا تفصح عن هوية سكانية وهي (شمال افريقي) او (افريقي) ، فحينما تقول شمال افريقيا وتنسب مصر – في اصولها السكانية - والمغرب العربي له وتخفي الهوية العربية تختلق تناقضا مصطنعا بين الهوية السكانية الحضارية والثقافية والطبيعة الجغرافية وهو تناقض اهم وظائفه اخفاء واقع الثقافة والحضارة ، لقد وصل العرب الى المغرب العربي قبل الاسلام بالاف السنين كما ثبت بالادلة المادية واللغوية والجينية وليس فقط اثناء نشر الاسلام ورسخوا وجودهم وثقافتهم ولغتهم هناك وامتزجوا بالسكان الاصليين هناك ولم يعد بالامكان تمييزهم عنهم .
واللغة العربية قبل الاف السنين كانت لغات عربية ونحن نطلق عليها الان اللهجات العربية ، وكلها تنتمي لشجرة واحدة هي اللغة العربية الام والتي انتشرت في اغلب قارات العالم القديم بما في ذلك اوربا وامريكا الشمالية وامريكا الجنوبية ، بل هناك ادلة تدعمها المخطوطات التي عثر عليها في اماكن مختلفة من الكرة الارضية والمقارنات اللغوية على انها اصل كل اللغات البشرية الحالية ، وتكمن عظمة الهجرات العربية في ان العرب لم يستقروا في اوربا فقط بل عبروا المحيط الاطلسي منها الى امريكا الجنوبية والشمالية كما تؤكد مصادر كثيرة وقبل وصول كريستوفر كولمبس اليها بقرون وربما بالاف السنين .
وبالاضافة لدليل القمح المصري في المكسيك فهناك اثار مصرية تعود لالاف السنين مدفونة في مغارات في الجراند كانيون في صحراء امريكا ! وكانت قبائل من السكان الاصليين في امريكا اي الهنود الحمر تتكلم اللغة العربية قبل وصول الاوربيين اليها ، وهناك قصة معروفة وهي ان قرية جبلية في المكسيك منعزلة عن الحضارة وتعيش هناك منذ الاف السنين يتحدث سكانها اللغة العربية باللهجة اليمنية وهي تؤكد انها تعيش في القرية من الاف السنين .
اما مصر فقد انكرت عروبتها من قبل من رتب المعلومات الجينية مؤخرا وطرح فكرة ان اصل مصر ليس عربيا بل من شمال افريقيا ! وهذا تزوير فاضح وهنا نعرف الهدف المزدوج لتسمية شمال افريقيا فبالاضافة لاستبعاد عروبة المغرب العربي فانه يخرج مصر من نطاق العروبة بنسبها الى منطقة جغرافية وليس الى هوية قومية ، فاذا استخدم مصطلح شمال افريقيا لمنح هوية غير تاريخية ، والهوية في جوهرها نتاج انساني تاريخي حضاري وثقافي ، فان المغرب العربي يصبح افريقيا وليس عربيا ، كما ان نسبة هوية مصر الي افريقيا او شمالها ينفي تلقائيا عروبة مصر ويحل محل الانتماء الحضاري والثقافي تسمية جغرافية لا هوية لها ، مع ان اللغة القبطية هي فرع من فروع اللغة العربية وما تسميات ملوك الفراعنة العربية - كالعزيز مثلا - الا احد الادلة على عروبة مصر الفرعونية .
والهدف الستراتيجي الخطير هنا هو ان اعتبار المغرب العربي ومصر والسودان افريقية وليست عربية يؤدي الى اخراج اكثرية العرب من دائرة العروبة وهكذا تتقزم الامة العربية بكل ما تعنيه كلمة تقزيم من معنى وينهار المشروع النهضوي العربي وهو اهم اهداف الصهيونية والاستعمار الغربي ، بهذه الخريطة وتسمياتها يريدون سلبنا ثلثي الامة واخراجهما من نطاق قوتها وفعلها . وبالعكس وفي حالة اعطاء تسمية انسانية حضارية وثقافية وهي العروبة وليس جغرافية فان تسمية المغرب العربي ومصر والسودان تصبح مطابقة لواقع الهوية الفعلية والحضارية ، وبذلك تكتمل مقومات الامة العددية والحضارية وتتشكل وتتكامل عوامل نهضتها وقوتها ووحدتها الشرعية والحتمية ، وهذا ما يصطدم بالخطط الغربية القديمة والمتجددة مثل خطة بنرمان وخطة المؤتمر الصهيوني الاول .
اما الاعتراف بان اصول اسرائيل الشرقية – ايران - عربية فهي لعبة اخرى فلكي تطبّع وتفرض وتنشر قصة ان مصر ليست عربية ويبدو ذلك حكما علميا موضوعيا يجب ذكر ان اغلبية اسرائيل الشرقية اصلها عربي ، وهذا الاعتراف لا قيمة له لان الاصل هذا محي تماما وحلت محله هوية اخرى فارسية بالتطبيع القسري حتى لو كانت الاصول الجينية عربية ، فالانسان في النهاية يتطبع بالبيئة بغض النظر عن اصوله الجينية ، وبهذه العملية المزدوجة ، انكار عروبة مصر والمغرب العربي وذكر عروبة اسرائيل الشرقية الجينية ، يحقق الغرب هدفين جوهريين خطيرين ومدمرين لهويتنا القومية العربية وهما : الهدف الاول ضرب عروبة مصر والسودان والمغرب العربي وهي عملية معاصرة لنا وتتم الان وتبرز خطورتها ونتائجها الان واهمها نسف قواعد اقامة اي وحدة او تضامن عربي بأخراج اكثر من ثلثي الامة من نطاق الانتماء لها ، والهدف الاخر منحنا حقيقة جينية لا قيمة لها الان لانها فقدت اي تأثيرات عملية فما قيمة ان تكون اصول اسرائيل الشرقية عربية وهي تعادينا وتقاتلنا وتحتل اراضينا وبطريقة اخطر واوسع واعمق مما تفعله اسرائيل الغربية ؟!
جوهر اللعبة اذا هو : يعطونا ما لا يمكن الحصول عليه ( اسرائيل الشرقية ) ويأخذون منا ما هو بين ايدينا والثقل الاكبر من وجودنا وهويتنا ( مصر والسودان والمغرب العربي ) .هذه هي عبقرية العدو عندما يخطط لتدميرنا والتي نجحت في امرار تلفيقات تحت غطاء علموي مبهر! اما هدف انكار عروبة المغرب العربي وتقديم ادلة علموية – وليس علمية - على صحة الاطروحات الغربية الصهيونية خصوصا الفرنسية القائلة بان المغرب العربي كان امازيغيا ولم يكن عربيا فهو تزوير مزدوج في تسمية المغرب العربي بشمال افريقيا وبنسب الامازيغ لغير اصلهم العربي وافتعال تناقض في الهوية بين العروبة والامازيغية مع انهما هوية واحدة عند البحث والتدقيق حضاريا خصوصا لغويا وهو ما اثبتته البحوث الجينية ودراسات الاكاديميين العرب من اصول امازيغية مثل عثمان سعدي .
ولكي نطلق نكمل دحض كل تشويه لاطروحاتنا القومية العربية لابد من عرض البديهيات التالية :
1- مثلما يعد التلاقح الجيني احد اهم اسباب قوة الانسان وصحته بعكس زواج الاقارب الذي يضعف الانسان ، فأن تلاقح الحضارات والاصول والجينات من اهم مصادر حيوية وتقدم الامم . وبفضل ذلك تعلم العربي مبكرا في اسرته التي تضررت من زواج الاقارب او الزواج الداخلي Endogamy ، فلجأ الى الزواج الخارجي Exogamyلتقوية النسل وتجنب الامراض الوراثية . وهنا نجد اصل تجاوز ورفض المفهوم العنصري والدموي للقومية العربية ولتعريف العربي وثبتنا في صلب هويتنا القومية العربية المفهوم المحمدي القائل ليست العربية بأحدكم من أب وام وإنما هي باللسان، فمن تكلم بالعربية واحب العرب فهو عربي ، وبغض النظر عن اصله الجيني ولهذا تجد العربي اسمرا واسودا وابيضا من موريتانيا الى عمان مرورا بالسودان ولبنان . واستنادا لهذه الحقيقة لا يهمنا الاصل الجيني للانسان بل يهمنا موقفه والتزامه الفعلي والخريطة الجينية الاخيرة لا تغير ولن تغير من هويتنا وتلاحمنا شيئا وبغض النظر عن كل ما احيطت به من حيل والعاب لغوية .
ويترتب على الموقف العقائدي المذكور ان العرب ومثل كل الشعوب ليسوا انقياء الاصل الجيني بل هم خليط متجانس تكفل الزمن الطويل والتعايش والتلاقح ورباط الهوية الدينية واللغوية والقبلية جعله هوية مشتركة ولحمة اجتماعية ، وفي اطار هذا المفهوم تسقط النظريات الغربية عن الاصول العنصرية والدموية للامازيغ والعراقيين والمصريين وكافة التنوعات البشرية التي تشرفنا بوجودها في جيناتنا وتكويننا الانساني ، فنحن في النهاية بشر من اصل واحد هو ادم والقانون الانساني الاول المعترف به قديما وحديثا هو قانون التعايش والاندماج بين الاجناس والحضارات والثقافات والاصول وليس التمزق والتشرذم ، ففي كل الحضارات عبر التاريخ التقت مجاميع بشرية مختلفة الاصل لكنها تمازجت واندمجت ونتج عنها مكون جديد طبيعي واصيل لحمته هوية حضارية ازاحت كل الاصول العرقية السابقة للاندماج البشري .
الغرب والصهيونية اللذان يريدان اعادة تشكيل الامم في العالم الثالث عموما وفي الوطن العربي خصوصا بتنفيذ مخططات لتفكيكه على اسس عنصرية وطائفية ، قد لا يدركان بأن ذلك سوف يجر جرا الى اعادة تشكيل الدول الغربية قبل غيرها ، خصوصا امريكا واسرائيل الغربية ، لانها مقارنة بقوة لحمة امم الشرق العريقة كالامة الصينية والامة العربية ، كيانات تتعرض للشيخوخة والتفكك التلقائيين كما يلاحظ علماء الاجتماع في تلك البلدان ، ويمكن تعريضها للمزيد من التفكك في حالة اعادة تعريف البشر على اسس جينية وليس حضارية وثقافية. يتبع.
Almukhtar44@gmail.com
12-5-2017