أصدرت حركة حماس يوم الاثنين 01 أيار 2017 وثيقتها السّياسيّة التي اعتبرها زعيمها خالد مشعل أرضيّة الحركة السّياسيّة في المرحلة المقبلة وجزء من مبادئها ومنطلقاتها الفكريّة كما وصفها بأنّها تندرج في سياق المراجعة والتّطوّر في عمل الحركة.
وبالعودة لمضمون هذه الوثيقة، فإنّ أبرز ما جاء فيها
وهو ما يعدّ تحوّلا جذريّا في سياسات حركة حماس ومواقفها، تعبيرها لأوّل مرّة في تاريخها عن استعدادها للقبول بحلّ الدّولتين وهو ما نصّت عليه النّقطة الثّالثة من الفقرة الثّامنة بعنوان "الموقف من الاحتلال والتّسوية السّياسيّة" حيث جاء فيها "ومع ذلك – وبما لا يعني إطلاقا الاعتراف بالكيان الصّهيونيّ، ولا التّنازل عن أيّ من الحقوق الفلسطينيّة – فإنّ حماس تعتبر أنّ إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة كاملة السّيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرّابع من حزيران/ يونيو 1967، مع عودة اللاّجئين والنّازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقيّة وطنيّة مشتركة." وهو الأمر الذي يتناقض تناقضا جوهريّا مع كلّ ما دأبت حماس سابقا ومنذ تأسيسها على ترويجه من شعارات وأهداف وبرامج تتعلّق بعملها المقاوم للاحتلال الصّهيونيّ، وهو ما يفقدها أيضا أيّ تمايز عن غيرها من الحركات السّياسيّة والفصائل المقاومة الفلسطينيّة الأخرى التي تنازلت عن سقف مطالبها ونضالها حيث تدحرجت من قمّة المطالبة بزوال الكيان الصّهيونيّ وتحرير الأرض كلّ الأرض إلى مطالب يمكن وصفها بالإصلاحيّة النّاعمة والتي تبحث من خلالها عن تقاسم الأرض مع العدوّ الصّهيونيّ الغاصب ليتنزّل في هذا الإطار كلّ الكلام عن ضرورة عودة اللاّجئين ورفض تهويد القدس في دائرة تحسين شروط التّفاوض مع العدوّ.
هذا، ولم تكتف حماس في وثيقتها الجديدة عن القبول بحلّ الدّولتين ممّا يعني اعترافا صريحا بالوجود الصّهيونيّ على أرض فلسطين، بل إنّها أهملت وتجنّبت التّأشير بوضوح على موقفها من المفاوضات مع المحتلّ وهو ما وضّحه تصريح خالد مشعل في كلامه عن هذه الوثيقة حيث اكتفى بالتّشديد على أنّ حركته متمسّكة بعدم التّفاوض المباشر مع العدوّ الصّهيونيّ بما لا يعني مطلقا رفض التّفاوض غير المباشر معه، وهو ما يتناقض جوهريّا مع التّأكيدات التي حملتها الوثيقة ومفادها رفض حماس لاتّفاقيّات أوسلو سيّئة الصّيت وهي التي كانت نتيجة سلسلة ماراثونيّة من المفاوضات واللّقاءات المباشرة بين الصّهاينة وبين الجانب الفلسطينيّ بقيادة حركة فتح ومنظّمة التّحرير.
إنّه وبالتّدقيق في فحوى هذه الوثيقة، يتبيّن ما احتوته من تناقضات جمّة حيث تحتوي على الطّرح ونقيضه فمن جهة تشدّد الحركة على عدم الاعتراف بالكيان الصّهيونيّ وتتمسّك بفلسطين من النّهر إلى البحر ومن جهة ثانية تعبّر عن قبولها بحلّ الدّولتين على حدود 1967 وهو أمر لم يعد يقبل به الكيان الصّهيونيّ الذي سرّع من وتيرة تهويد فلسطين لا القدس فقط كما جاء في الوثيقة، وضاعف من وتيرة جرائمه بحقّ فلسطين شعبا وأرضا وتاريخا ناهيك عن رفضه التّامّ لتسوية مسألة النّازحين واللاّجئين أو فلسطينيّي الشّتات. كما يظهر جليّا من مضمون الوثيقة الجديدة، أنّ حماس عدّلت مواقفها وقدّمت تنازلات غير منتظرة من جهة، ولا تعكس قناعة حقيقيّة بها، وهو ما يؤشّر على خضوعها لإملاءات وشروط عديدة بعضها عربيّ وبعضها غربيّ وحتّى إسلاميّ.
تفيض وثيقة حماس السّياسيّة بدلائل على ما تتعرّض له من ضغوطات لعلّ أبرزها إطنابها في تناول معاداة السّاميّة بطريقة مفاجئة ذلك أنّ هذا الشّعار إنّما هو في حقيقة الأمر وسيلة ضغط وسلاح اعتمدته الحركة الصّهيونيّة ولوبيّات ضغطها على القوى العالميّة الكبرى والمؤثّرة، وهو ما يطرح السّؤال بجدّية عن مصلحة حماس من ترديد هذه العلكة الصّهيونيّة والخدعة الماكرة؟
هذا ويبقى أكثر الأدلّة وضوحا على أنّ الوثيقة فرضت على حماس أو هي اضطرّت إليها اضطرارا كريها تزامنها مع إعلان الحركة عن فكّ الارتباط بالتّنظيم الدّوليّ للإخوان المسلمين. وهذه النّقطة تحديدا لم تشذّ عن دائرة ما فيها من تناقضات، إذ تتمسّك الحركة بكونها جزء من مدرسة الإخوان فكريّا ولكنّها تؤكّد على أنّها تنظيم فلسطينيّ مستقلّ قائم بذاته حسب تصريحات زعيمها خالد مشعل. وتمثّل هذه الخطوة محاولة حماس امتصاص غضب المجتمع الدّوليّ والأنظمة العربيّة خصوصا في مصر ودول الخليج العربيّ فتتفصّى من تبعات تصنيف التّنظيم الدّوليّ للإخوان المسلمين تنظيما إرهابيّا.
إنّ هذه التّناقضات وهذا الارتباك اللّذين طغيا على نصّ الوثيقة السّياسيّة لحركة حماس من جهة، وتفسيرات زعيمها خالد مشعل وتفاعله بشأنها، قد خلّفا خشية من أنّ حركة حماس قد حادت عن ثوابتها وأسقطت خيار المقاومة المسلّحة الشّاملة واستبدلته بخيار التّوافق مع الفصائل الفلسطينيّة الأخرى وبالتّالي تدشين عهد جديد من عملها وفعلها يقطع مع ما نصّت عليه بنود وثيقة تأسيسها وأرضيّتها التي تتعهّد بمقاومة المحتلّ مقاومة مسلّحة حتّى التّحرير.
لقد حاول خالد مشعل تبرير هذا التّحوّل المفاجئ في برنامج حماس بالقول إنّه مراجعة وتطوير وتنويع وتجديد لأداء الحركة بما يتوافق مع التّطوّرات، ولكن لا يمكن لعاقل أن يقتنع انّ خالد مشعل نفسه مقتنع بهذا التّفسير.
فالتّطوير والتّجديد والمراجعات وإن كانت كلّها أمور مندوبة ومطلوبة ومستحبّة لإضفاء مرونة على الأداء السّياسيّ للجماعات والمنظّمات والأحزاب، فإنّها لا تنطبق على العموم وإن انطبقت فإنّها لا تكون بمثل هذا النّسق المتهافت وغير المدروس. فحماس حركة مقاومة مسلّحة تنبع من رحم الشّعب العربيّ في فلسطين الذي يعاني ويلات الاغتصاب الصّهيونيّ القائم على الإرهاب والإجرام والعنصريّة وهو المجرّد من أدنى شرعيّة أو مشروعيّة سواء القانونيّة أو التّاريخيّة أو الأخلاقيّة ويشكّل هذا الأمر تحديدا إخفاقا لمشروع الصّهيونيّة العالميّة التي فشلت في انتزاع أيّ اعتراف شعبيّ بهذا الكيان الغاصب لا في الأمّة العربيّة فقط وإنّما في كلّ المجتمعات الإنسانيّة الحرّة، وهي – أي حماس – شأنها شأن كلّ قوى التّحرّر الوطنيّ والقوميّ والإنسانيّ لا يتاح لها ما يتاح لبقيّة الأحزاب.
بل إنّ المراجعة ولتكون مراجعة علميّة ومتينة وتحظى بالقبول لا يمكنها بأيّ حال من الأحوال أن تعوّم مسائل مصيريّة وجوهريّة كما نضحت بذلك وثيقة حماس، فلقد تمسّكت حماس للأسف بنظرتها الفضفاضة لطبيعة الصّراع مع الكيان الصّهيونيّ وتجاهلت حقيقته القوميّة العربيّة بالأساس، فأفاضت في تشديدها على أنّه صراع الأمّة العربيّة والإسلاميّة، ما يدفعنا للتّساؤل عن المقصود فعليّا بالأمّة الإسلاميّة؟ فإن كانت الأمّة العربيّة أمّة واضحة المعالم ولها كلّ شروط تشكّل الأمم من اشتراك في اللّغة والتّاريخ الفكريّ والحضاريّ والمصير والحدود المعلومة وغير ذلك، فإنّ الأمّة الإسلاميّة لا مقوّمات لها ولا معالم إلاّ إذا اعتبرنا الدّين محدّدا وحيدا أوحد في ذلك.
فالقفز على حقيقة الصّراع العربيّ الصّهيونيّ وإنكار طبيعته القوميّة العربيّة هو أحد أكبر الهدايا وأثمنها على الإطلاق للصّهيونيّة العالميّة وكيانها المسخ، وهو ما من شأنه ولا ريب في فتح الباب على مصراعيه لحصره في المجال الدّينيّ وهو اللّعبة المفضّلة للغاصبين الصّهاينة الذين يطرقون كلّ الأبواب لتحقيق الهدف الصّهيونيّ الأغلى والأعلى ألا وهو إنشاء الدّولة اليهوديّة بحدودها الدّينيّة المزعومة من النّيل إلى الفرات.
إنّ وثيقة حماس وعلى خلاف ما تسوّق له الحركة، لا يمكن تصنيفها إلاّ في باب انتكاسة جديدة تثخن جراحات فلسطين وشعبها وكلّ الأمّة العربيّة ذلك أنّ حركة حماس فوّتت على نفسها وعلى شعب الجبّارين والعرب فرصة تطوير برامجها ورؤاها دون أن تسقط في باب التّخلّي عن الثّوابت وأهمّها التّمسّك بخيار المقاومة خيارا استراتيجيّا مصيريّا لا مواربة فيه ولا تلكّؤ، ولا أن تتهاوى لباب الحسابات السّياسيّة الضّيقة والمناورات المكشوفة، وكان ذلك متاحا لو أنّها نصّت على فكّ ارتباطها بالإخوان المسلمين صراحة ولو أنّها التزمت أو أدركت طبيعة الصّراع القائم بين العرب والفلسطينيّين من جهة والكيان الصّهيونيّ من جهة أخرى ولو انّها شدّدت على رفضها وإدانتها لكلّ المحتليّن والأعداء الآخرين للأقطار العربيّة لأنّ الاحتلال الفارسيّ والأمريكيّ وغيرهما للعراق وبقيّة الأقطار إنّما يندرج في باب الإجهاز على القضيّة الفلسطينيّة وحقوق شعب الجبّارين في التّحرير تحريرا ناجزا وطرد المغتصبين الوافدين بقوّة السّلاح لا بالصّفقات الدّوليّة الخسيسة الكبرى.
أنيس الهمّامي
نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 03-05-2017