علينا أن نعترف ابتداء من دون أوهام بأن إيران تتحرك براحة لافتة وثقة عالية بالنفس للمضي بمشروعها الإمبراطوري لأنها على ثقة بأنها قادرة على تحقيق أهدافها بأقل التكاليف، وذلك من خلال نقل معركتها إلى أقاليم المجال الحيوي التي أشّرتها كساحةٍ مرحلية أو متداخلة مع ساحات أخرى لكسب مزيد من الأراضي والأقاليم باعتماد الانتماء
والولاء الطائفي ثم تحويل هذه الكتلة إلى منظمات سياسية في مرحلة أولى ثم سرعان ما تحولها إلى تشكيلات عسكرية تنازع الدولة في قراراتها السيادية وتصادر جانبا مهما من قدرتها على اتخاذ القرارات السياسية بما فيها الاستراتيجية المتعلقة بأمنها القومي أو خططها للتطوير الاقتصادي والتنموي في البلاد وتعطل مسار الدولة المعتاد فيها.
وهنا يبرز سؤال حيوي لم يستطع أحد التقرب من حصونه وبالتالي لم يتمكن من فك ألغازه والإحاطة بأبعاده وخفاياه، وهو هل تمتلك إيران هذه الرؤية الاستباقية للوصول إلى أهدافها من خلال قيادة تخطط بكفاءة واقتدار لمواجهة كل التحديات التي تعترضها في الطريق؟ ولماذا يتسنى لإيران فعل ذلك في حين لا تستطيع دول أخرى أكثر من إيران تأثيرا من النواحي السياسية الإقليمية والدولية؟ وأقوى اقتصادا وأكبر منها في عدد السكان وأكثر انسجاما في تركيبتها السكانية من إيران؟ الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان يعتمد على خلايا الحزب الشيوعي لم يتمكن من تسخيرها بآلية عمياء في برامجه ومشاريعه كما تعمله إيران حاليا في توظيفها لأنصارها في كل مكان واستطاعت تحويلهم إلى أدوات وعملاء رخيصي الثمن يأتمرون بأوامرها ونواهيها ويمكن الجزم بأن قلة منهم هم الذين خانوا قسم الولاء للولي الفقيه أو تنكروا لعقيدتهم المكتسبة من دون وعي أو إرادة، والاتحاد السوفيتي على قوته السياسية والعسكرية كقوة توازن استراتيجي في العالم في السابق لم يتمكن من تحويل نفوذه إلى حالة من الولاء الثابت والمطلق لموسكو لعدة أسباب منها أن الشيوعيين بصفة عامة يتميزون بوعي سياسي وفكري "ما عدا استثناءات محدودة كما حصل في العراق أثناء سيطرة الشيوعيين على الشارع العراقي بعد أحداث 14 تموز 1958" إذ انضمت إلى الحزب الشيوعي العراقي مجاميع من الغوغاء والهمج الرعاع والجهلة والذين لم يتمكنوا من التمييز بين الشيعة والشيوعية فاعتبروهما شيئا واحدا، هذا ما حصل في العراق فقط، في حين أن الشيوعيين في العالم بصفة عامة يتميزون بوعي كاف قبل اختيارهم للفكر الشيوعي قبل الانضمام إلى الحزب ويذهبون إليه بعد قناعة بالفكر الشيوعي، أما التشيّع فيعتمد على انهيار منظومة الوعي والمعرفة لتقبل كثير من أساطيره ومزاعم مراجعه التي لا يمكن قبولها من قبل إنسان يتحلى بالحد الأدنى من المعرفة والوعي.
من الحقائق التي علينا التعامل معها بواقعية أن العقيدة الدينية عقيدة غلّابة لا تجاريها عقيدة دنيوية أخرى مهما طرحت من أفكار أو أضمرت من عقائد ورفعت من شعارات جذابة وتتعاظم هذه العقيدة في نفوس أتباعها كلما نزلت من الأصول إلى الفروع، يضاف إلى ذلك أن الأحزاب الشيوعية في العالم ومنها الحزب الشيوعي السوفيتي عانت من ارتدادات على بعضها كما حصل في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي عندما ندد نكيتا خروتشوف بسلفه الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين وحذف تاريخه كله وحمّله مسؤولية المجازر التي عانت منها البلاد خلال حكمه، واستمرت الارتدادات على المستوى الفكري في توجهات الحزب الشيوعي السوفيتي وتقلبه بين خيارات سياسية وفكرية متصادمة حتى انهيار التجربة السوفيتية بكاملها، كما هو حال تنظيمات الأحزاب الشيوعية في العالم.
أما الانشقاق الكبير في الحركة الشيوعية بين الصين والاتحاد السوفيتي أو خروج كلٍ من يوغسلافيا السابقة وكوريا الشمالية عن توجهاتهما، فقد أثار تساؤلات جدية ومريرة داخل الفكر الماركسي اللينيني عن قدرته على تقديم قراءة منهجية واحدة ومقنعة ومقبولة للجدلية التاريخية أو المادية تصلح كوصفة لكل المجتمعات والأوقات وترك تأثيراته المؤكدة على انسيابية الانسجام داخل المنظومة الشيوعية.
ما ينطبق على الاتحاد السوفيتي في خاصة تحريك المكونات الداخلية، ينطبق بدرجة أكبر على تركيا التي أقامت دولة مترامية الأطراف ودخلت مواجهات وحروبا لقرون طويلة مع بلاد فارس، وينطبق على بلدان عربية مثل مصر والمملكة العربية السعودية إذ عجزت جميعا عن تحويل المشتركات مع العراق وسوريا ولبنان واليمن كاللغة والدين والمذهب والقرب الجغرافي والثروة والمشاعر القومية، إلى عامل تأثير حاسم على البيئة المشتركة، فهل مكتوب على منطقتنا استيراد أفكار خرافية وعدوانية من الخارج ومثيرة لأسباب التمزق والنزاع، وهو ما نجحت إيران في تحقيقه في تلك البلدان؟
من أجل تأشير الأسباب الحقيقية لكل هذا، لا بد من القول أولا إنني سأتخطى العامل الدولي المساند أو الساكت عن قصد على التمدد الإيراني في المنطقة وفي مناطق كنا نعتقد أن العالم لا يمكن أن يغض النظر عن أية مزاحمة له أو تقرب من مناطق نفوذه ومصالحه فيها وهي منطقة الخزان النفطي الاستراتيجي.
ولكنني سأركز على جانب تأثير المعتقدات الدينية الفرعية على سلوك الأفراد والجماعات التي عانت من ويلات التخلف فتم حشو رؤوس أبناء شعوبها باسم الدين بعقائد وممارسات فاسدة ومثيرة للسخرية ومستلة من بطون الكتب الصفراء لدى الشيعة، فلا بد والحال هذه من العودة إلى أصل العقائد والمعتقدات عند الشيعة والسنة، ولكن ومن أجل تأكيد حقائق أساسية في التعامل مع هذا الملف، لا بد لي من القول بأنني لست متخصصا بشؤون العقائد الإسلامية ولم أجد في نفسي سابقا حافزا لهذا التوجه، وذلك لأنني ومنذ الصغر وجدت نفسي في بيئة سياسية ذات توجهات قومية تتعامل مع الدين في حدود العبادات والالتزام الكامل بها، فالغوص في بحار العقائد الدينية قد يستدرج أمواجا عاتية مع ردود فعل لا تخلو من انحياز مغمض العينين "كي لا أقول أعمى" أثناء الخوض في شأن أتركه للمتخصصين وهم والحمد كثر وخاصة في هذا الوقت، ومع ذلك ومن خلال مطالعاتي الخارجية لا سيما على المذهب الجعفري الاثني عشري أثناء وجودي في الأسر في إيران، فقد كوّنت لنفسي حصيلة مناسبة من فهم الاختلافات الجوهرية بين المذاهب الإسلامية الأربعة والمذهب الجعفري، واكتشفت أن المذهب الخامس كاد في القرن العشرين أن يصبح "إسلام القرن العشرين" ولكنه مع إطلالة القرن الواحد والعشرين أصبح دينا جديدا ربما لا تزيد صلته بالإسلام بأكثر من المشتركات التي تربطه بالديانات الأخرى مع بعضها في بعض أصولها وتختلف في كثير منها وكذلك في بعض فروعها.
التشيَع بُنيَ على أساس تنشئة الشيعي منذ الصغر على مبدأ الولاء من جهة والبراءة ممن سلبوا علي بن أبي طالب رضي عنه الخلافة وسب الصحابة رضي الله عنهم وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويتلقى الطفل الشيعي ضخا تربويا هائلا يسلبه قدرته على التفكير السوي حتى إذا بلغ مرحلة الشباب من عمره صار كتلة صلبة غير قابلة لقبول أي فكر معارض أو أي شيء يسمعه أذا كان مخالفا لمتلقياته السابقة، وحتى في حال وصل إلى أعلى المستويات العلمية والأكاديمية إلا من رحم ربي وممن أخلصوا انتماءهم الفكري لحركات سياسية عقائدية انتموا إليها عن وعي، فإننا نرى الشيعي الذي نال شهادة الدكتوراه في كل الاختصاصات سرعان ما ينزع كل حصيلته الفكرية والعلمية المكتسبة ويجهش ببكاء مرّ إذا ما سمع صوت عبد الزهرة الكعبي أو بقية خطباء المنابر الحسينية الذين لا يستطيعون إقناع عوائلهم بما يقولون، أو بمجرد أن يسمع اسم زينب وما قالته في خطبتها أو سكينة وما عانته من ويلات في عاشوراء، لمجرد أن هذه الأحداث والأسماء تعيده إلى طفولته وصباه ومتلقايته الأولى، وإذا ما ورد حديث عن المهدي المنتظر فإنه ينتفض متحمسا لها في تبنى أطروحته الغيبية المزعومة تبنيا غبيا وغيبيا جاهلا، وإذا سئل عن هذا الايمان رد بأن هذا الأمر جزء من الغيبيات التي تحدث عنها الإسلام وهكذا يقرن الايمان الغيبي بوجود المهدي المنتظر وظهوره بالإيمان الغيبي الذي ورد غير مرة في القرآن الكريم عن الذات الإلهية والجنة والنار والحساب بصفة عامة والملائكة حصرا، بل يتأول الشيعي في نصوص قرآنية ويقول إن المقصود بها هو المهدي المنتظر، ومن الظواهر التي ستبقى مائلة أمام الدارسين والمهتمين بتاريخ الأحزاب الشيوعية ذلك أن سكرتير عام الحزب الشيوعي في العراق أصبح بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 عضوا في مجلس الحكم الذي شكلّه بول بريمر ممثلا عن الشيعة وليس عن الشيوعيين وتنكّر لتاريخ طويل قضاه في صفوف الحزب الشيوعي أي قادته خلفيته الشيعية أكثر مما حركته شيوعيته في اختيار موقفه السياسي.