يحلو لكثير من سياسيي السنة في الزمن العراقي الرديء، مقارنة أي تنازل يقدمون عليه ويعرفون أنه سيجلب لهم لوما وتقريعا من جانب المواطن العراقي، بأنهم إنما يقتفون خطوة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم عندما أقر "صلح الحديبية" مع مشركي قريش، ويعتبرون أن سلوكهم يؤكد أمرين أولهما أنهم سائرون
على منهج النبوة، وثانيهما أنهم حريصون على مصالح المكوّن السني وعدم زجه في معارك خاسرة ومواجهات غير متكافئة مع أدوات السلطة من مليشيات وقوات حكومية وسلطة أحزاب دينية مدعومة من إيران ومال سياسي، سخّر كل ثروات العراق ووضعها في خدمة عملية سياسية أقيمت على قوائم معوّقة سياسيا وأخلاقيا وتاريخيا، ومع أن هذا المنطق إذا أخذ بشكل مجرد وبحسن نية، فإنه سيبدو في غاية التضحية بالنفس والسمعة والرصيد السابق "إن كان هناك رصيد حقيقي وليس رصيدا مفترضا" دفاعا عن سلامة المكوّن السني وحرصا على ما تبقى من عراق متشظي ومنقسم على نفسه ويعيش صراعات مزدوجة لا يبدو أنه على طريق الخروج منه.
هنا لا بد من دعوة مثل هؤلاء السياسيين للإجابة عن سؤال في محدد وفي غاية الاختصار، هل هناك قائد بينكم يحمل واحدا بالمليون من صفات القيادة الدينية والسياسية التي خص الله بها رسوله الكريم كي يزعم بعضكم زورا وعدوانا أنه يقتفي خطواته، فلو كان هناك واحد بمثل الموصفات نعرفها عن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام، فعندها فلكم أن تزعموا أن من حقكم أن تقدموا المرونة التي أظهرها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، أو في مواطن مختلفة من السيرة النبوية المشرّفة، فلا تنسبوا لأنفسكم شرفا لن تبلغوا شسع نعله أبدا، ولهذا نقول لهؤلاء متى جئتمونا بقائد يحمل واحد بالمليون من الصفات التي توفرت للنبي وخاصة عبقرية القيادة والقدرة على جمع الناس خلفه فسوف نسير وراءه، ولكن معظمكم يجرون عميان وراء مغريات السلطة وما تحمله من مال سياسي وعقود وصفقات ولا يمكن أن يحصل لكم ذلك من دون موافقة الولي الفقيه ومندوبه السامي في بغداد المحتلة، وتجربة السنوات التي أعقبت الاحتلال أكدت مصداقية الحكم عليكم بأنكم مجموعة من الباحثين عن الرفاهية المغمسة بدماء العراقيين وذلهم والذين ما جاهدوا لكي تتنصبوا على هاماتهم قادة أو ممثلين لهم فقد نبذوكم سرا وعلانية وخاصة أولئك الذين جاءوا مع الاحتلال أو تساقطوا بعد أن أيقنوا أن طريق ذات الشوكة يدمي العيون قبل الأرجل.
ولعل من أسوأ من أفرزته تجربة العراق المرّة تحت الاحتلالين، أن كثيرا من رجال الدين السنّة كانوا يدعمون التجمعات السياسية المشبوهة أو المؤكدة في سقوطها في أحضان أعداء العراق، لأن همهم الجري وراء شهواتهم ولا يقيمون وزنا لواجبهم الأساس وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتصدي للباطل، ويتسابقون لإرضاء التحالف الشيعي ورموزه الكريهة حتى داخل الوسط الشيعي وكأنهم قطط شرهة ضالة تبحث عن شحمة فاسدة، ويضفون عليهم أوصافا هم أنفسهم لا يصدقون أنها فيهم، ومعروفة تلك الأقوال التي أطلقت أمام من كان جنديا في الحرس الثوري لقتال الجيش العراقي في حرب الثماني سنوات.
بالمقابل هناك رجال الدين الشيعة، وهم في غالبيتهم العظمى إيرانيون أو موالون لإيران بقناعة ويقين لأنهم مؤمنون بأن إيران هي مركز التشيّع الوحيد في العالم، وأن أي نظام هناك يجسد طموحاتهم ويسعى بكل قوته إلى تنفيذها على الأرض، ولا يقيمون وزنا أو قدسية للقومية أو الوطن الذي ينتمون إليه، فالولاء للمذهب مقدّم على كل الاعتبارات الأخرى، أما المراقد أو المناسبات الدينية المذهبية فليست أكثر من أدوات للشحن العاطفي والطائفي النفسيين لربط الشيعة برموز يمثلون سببا في الانقسام والفتنة التي تمنحهم طابعا بعيدا عن سائر المسلمين.
أعود إلى رجال الدين السنّة "كي لا أقول علماء الدين لأن عصرنا افتقد إلى عالم دين يؤدي واجباته الشرعية" في الوطن العربي وهم نوعان، الأول وهم الغالبية العظمى إلا من رحم ربي، اشترت السلطة ولاءهم وضمائرهم وتحولوا إلى وعّاظ للسلطان خوفا أو طمعا، ويستوي في ذلك السلطان أيا كانت ديانته أو مذهبه، ولنا في هذا الظرف الصعب الذي تجتازه الأمة، الأمر شواهد لا تحصى، فنحن نعرف أن الخطباء والمفتين هم موظفون لدى الدولة، ويخشون على امتيازاتهم المادية والمعنوية ومرتباتهم من الإيقاف في حال خروجهم على أوامر السلطة، ولعل الأزهر أبرز مثال على ذلك، فقدْ فقدَ بريقه وتأثيره الحقيقي وتحول منذ زمن بعيد إلى لسان طيّع بيد سلطة الرئيس مهما كانت توجهاته، وكذلك دوائر الإفتاء في المملكة العربية السعودية والمغرب وفي كل الدول التي كانت تعرف بأنها تدار من قبل حكومات سنية، ولكن من أسوأ ما شهدناه منذ منتصف ستينيات القرن الماضي وصعود الطائفة العلوية لحكم سوريا، أن ما يسمى بمفتي سوريا أو خطيب الجامع الأموي في دمشق أنهما تحولا إلى بوق شرير لتبرير القمع الطائفي الذي مارسه العلويون ضد السكان الحقيقيين لسوريا أي السنة، وهنا يبرز اسم الشيخ محمد أمين كفتارو الذي لم يكتف بأن يعمّد رئيس النظام السوري السابق حافظ الأسد كمسلم سني في أول صلاة عيد بعد استيلائه على السلطة سنة 1971، بل ذهب إلى ما أبعد من ذلك عندما برر كل جرائم حافظ وشقيقه رفعت في حماة، والذي ذهب ضحيتها أكثر من 40 ألف قتيل باعترافات لاحقة لرفعت أسد، واعتبر المطالبين بحقوقهم السياسية والدينية والاجتماعية زمرة من الخارجين على القانون وأنهم يستحقون ما حل بهم من عقاب عادل، ومشى على هذا الطريق مفتي سوريا البديل أحمد حسون الذي وقف مع بشار في جرائم إزالة المدن السورية وتشريد أربعة ملايين سوري في أصقاع الأرض وقتل نحوا من مليون سوري، فهل هناك خضوع وذل أكثر من هذا؟ وهل تحول وعّاظ السلطان إلى القاديانية التي تبرر الخضوع للسلطان مهما كانت ديانته أو ظلمه وجوره.
والثاني هم الفئة المعارضة للسلطة لمجرد المعارضة ولا أحد يعرف ماذا يريد هؤلاء وما هو دورهم الحقيقي؟ وكأن هذا الخيار ترف أو وسام شرف يعلق على صدور رجال الدين الذين يختارونه، ويتخذ هذا الطراز من رجال الدين هذا الطريق كنوع من المخالفة أو لمجرد الاحتجاج على عدم تقريبهم للسلطان أو يستحثونه على مقايضة مواقفهم بمناصب أو امتيازات مادية، أو لمجرد الشهرة كما فعل كثير منهم في الماضي القريب، وربما رغبة عن تحمل المسؤولية الشرعية والأخلاقية في التصدي للباطل، مع قلة نادرة تذهب إلى طريق المعارضة السياسية والدعوة إلى مواجهة نظم الحكم بالقوة وهذا ما قد يعرضهم للتصنيف كإرهابيين من قبل حكوماتهم وبعض الجهات الدولية.
إن هؤلاء السياسيين الطارئين على المسرح السياسي من الطفيليين، متطفلون على تراث غيرهم وهم أشبه بالزنابير الحمراء لا هم لها إلا السطو على خلايا النحل إمعانا في الأذى، أما إذا عجزت عن التسلل إلى داخل الخلية فإنها لن تترصد أية نحلة بعد أن تكون قد قطعت مئات الأمتار لجلب الرحيق من أجل تحويله إلى عسل فيه شفاء للناس، وقطع الطريق عليها وافتراسها، كشأن قراصنة البحر أو قطاع الطرق في العصور الغابرة، ولهذا نرى هذا الصنف من السياسيين أو رجال الدين يتدحرجون سريعا نحو هاوية سحيقة من الذل والمهانة.