في تشرين الثاني 1968 بعد زيارة لرئيس الجمهورية شارل الحلو، الرافعي متوسطاً وفد «المعارضة الطرابلسية»، من اليمين: فاروق المقدم، توفيق سلطان، محمود الواوي، مصطفى الصيداوي، عمر بيسار
«محطات في حياتي» هي وقفة مع أبرز المحطات في حياة شخصيات من طرابلس والشمال، تنشرها «التمدن» تباعاً حيث يتحدث الضيف عن تلك المحطات التي ما زالت تحفظها الذاكرة منذ سن الطفولة وحتى اليوم. في ما يلي وقفة مع رجل من الرجال البارزين في طرابلس وتاريخها وحاضرها.هذا الرجل الذي حمل ألقاباً كثيرة: «حكيم طرابلس». إبن الشعب. رفيق الشعب في معاركه: د. عبدالمجيد الطيب الرافعي. المناضل منذ نعومة أظفاره. الطبيب الذي تشهد طرابلس على عطاءاته. النائب الذي «كسر» حصرية النيابة في عاصمة الشمال.
البعثي العنيد الذي لم يتمكن المرض وتقدمه بالسن من ان يؤخرا مسيرته في خدمة مدينته ووطنه وأمته العربية وفي مقدمها قضية فلسطين. لقد كانت الرحلة مع تاريخ د. عبدالمجيد الرافعي رحلة ممتعة مليئة بالحقائق والمحطات الوطنية والقومية بدأناها في الاسبوع الماضي مع حلقة اولى. وهنا أبرز ما قاله د. الرافعي في الحلقة الثانية:
العودة والعمل في «الإسلامي» ونصيحة د. هاشم الحسيني
تابع د. الرافعي في هذه الحلقة رواية ما بدأه من ذكريات في الحلقة الماضية، وقال: «تخرجت ونلت شهادة (الطب) مؤرخة بتاريخ 15 كانون الأول 1952. وعدت إلى لبنان في 8 كانون الثاني 1953.
وبإنتظار «الكولوكيوم»، صرت أتمرن في «المستشفى الإسلامي» بطرابلس، وبما ان الوضع المادي لوالدي كان لا يزال «غير مرتاح»، و كإان على إخوتي ان يلتحقوا بالجامعات، قررت السفر إلى السعودية - في مدينة «أبها» - وقبل حلول موعد سفري زارني د. هاشم الحسيني مستفسراً عن مسألة السفر للعمل في السعودية، فأوضحت له الأسباب، فقال لي ناصحاً: «أنا ذهبت إلى اليمن، وعندما عدت بعد عدة سنوات، وأنا ابن الحسيني، لم يكن يعرفني أحد، وأنت تُعَرِّف الناس عليَّ وهم مرتاحون لك». وعرض عليّ التوظيف بعد ان كنت متطوعاً.
فالتحقت بـ «المستشفى الإسلامي» بصفة طبيب مقيم في 1/10/1953 وبقيت حتى 31/12/1957 حيث صُرفت من الخدمة لأنني أصبحت أهتم بالسياسة.
طوفان نهر أبي علي
تابع «حكيم طرابلس»: من أبرز الأحداث التي هزتني في تلك الفترة كارثة طوفان نهر أبي علي، حيث علمت بها حوالي الساعة العاشرة ليلاً، فطلبت من الممرض غير المداوم أن يأتيني بأدوية منعشة ومستلزمات الإسعاف السريع.
إنتعلت «جزمة» وذهبت إلى المنطقة وكنت الطبيب الوحيد في الليلة الأولى، من بين 150 طبيباً في الشمال، على الأرض وأسعف الناس في باب الحديد والسويقة والتبانة وتابعت ملاحقاتي الطبية إلى الأماكن التي لجأ إليها المنكوبون (مساجد، مدارس، خان العسكر)، وصرت أذهب يومياً إلى هناك وكان أبرز من ساهم معي بالعمل الأستاذ فاروق كبارة الذي كان كشافاً آنذاك.
في «جمعية الخدمات»
في تلك الفترة كان لديّ توق للعمل في القضايا الاجتماعية فانتسبت إلى «جمعية الخدمات الاجتماعية» التي كان يرأسها أستاذنا، بالأدب الفرنسي، ممدوح النملي، وقد سعينا لإنشاء «دار العجزة» الذي لم يكن موجوداً في المنطقة. وكنت طبيب الدار التي إفتتحها الرئيس كميل شمعون في 1955.
على الصعيد الثقافي إنتسبت إلى «الرابطة الثقافية لخريجي دار التربية والتعليم»، وانتُخبت مرتين أميناً للسر.
التوجه الحزبي
ولكن مع حدوث عدة تطورات في العالم العربي، وجدت ان ذلك ليس كافياً، وكان الحد الفاصل عام 1956 يوم «العدوان الثلاثي على مصر»، حيث كنا نجتمع اسبوعياً في دارة أحد المتزوجين من الأصحاب لنتداول في القضايا المحلية والقضايا العربية ومخاطرها، وقد وجدنا لزوم الانتساب إلى إطار منظم، أي حزب، وجرى تكليف كل واحد منا بالإطلاع على مبادىء وأفكار الأحزاب التي كانت قائمة حينها، وقد طُلِب مني الإطلاع على فكر «حزب البعث»، وبعد السؤال وجدت ان شخصاً من آل المولوي ينتمي للحزب (كان يدرس الهندسة)، وقد تركت له خبراً بأن يتصل بي عند حضوره إلى طرابلس، وعندما جاء، كان ذلك في أواخر العام 1965، وبعد أن أجاب عن اسئلتي حول الحزب ومبادئه أرسل لي كتابين:
واحد من تاليف د. منيف الرزاز بعنوان «معالم الحياة العربية الجديدة». والآخر بعنوان «مبادىء حزب البعث».
قرأت المبادىء «فوجدتها تنسجم مع تربيتي الوطنية».
مهرجان ذكرى النكبة
إنشغلت بعملي الطبي، وإذ بمجموعة من المؤمنين بالقضية العربية (طلعت كريِّم، رشيد فهمي كرامي،... وغيرهما) تلتقي على فكرة إحياء ذكرى 15 أيار (نكبة فلسطين)، قمنا بالإتصال بالخطباء: الشيخ نديم الجسر، حميد فرنجية، سعيد عقل. وكنت عريفاً للمهرجان.
وعند خروجي إلتقيت شخصاً لم أكن أعرفه: فسألني: «أنت قرأت معلومات عن حزب البعث؟». وأضاف اليوم هناك إجتماع في بيت حسان مولوي يريد المجتمعون ان يلتقوا بك.
أول ترشح للإنتخابات
وكان اللقاء وحوار ونقاش حول المواضيع القومية والوطنية والطرابلسية وفي هذا المجال قالوا «إننا نتابع نشاطاتك» وتحدثوا عن الإنتخابات النيابية المقبلة وان في طرابلس قائمتي رشيد كرامي ومحمد بك حمزة. وعرضوا عليّ الترشح للانتخابات النيابية، فأوضحت لهم أنني أرغب بالانتساب للحزب بداية، إضافة إلى متابعتي لنشاطاتي المهنية والاجتماعية، لكن ليس وارداً عندي الترشح للإنتخابات. فقالوا إنهم واثقون من عدم نجاحي بالإنتخابات لكن يجب تثبيت مقولاتنا وشعاراتنا، فطلبت منهم إعطائي فرصة للتشاور مع آخرين. كان أولهم أمين الحافظ ومصطفى الإسطة اللذان شجعاني. بينما تردد محمد وهيب مقدم. وأقربهم إلي أيمن بارودي (الذي كان يعمل لدى مؤسسة فاضل الغندور المحسوب على آل كرامي) قال لي: نعم، لكنني لا أستطيع المجاهرة بدعمك ومساندتك.
2253 صوتاً
حصلت الانتخابات سنة 1957 ونلت 2253 صوتاً وهذا الرقم أزعجني بينما إحتفل به رفاقي. وكان المرحوم معروف سعد قد حضر قبيل الإنتخابات وجال معنا في أسواق طرابلس». وبعدها بعدة أشهر تم «فصلي» من عملي في المستشفى الإسلامي».
المشاركة في أحداث 1958
وتابع: «جاءت سنة 1958 حيث ساهمت بشكل جدي بتوحيد الرفاق والشعب للقتال كما عملت على الصعيد الطبي الإنساني. وهذه السنة كانت مميزة في حياتي، حيث أنشأنا أول مستوصف أو ما يشبه المستشفى الميداني في «فندق السعدون» - سوق السمك -، في قلب المدينة الداخلية، لإسعاف الجرحى.
وبعد الأحداث إستأجرنا مركزاً وحولناه إلى مستوصف شعبي، وسنوياً كنا نزيد عدد المستوصفات إلى ان بلغ ستة في المناطق الطرابلسية الشعبية، كنت أقوم بالتطبيب كل يوم في أحدها مجاناً».
حادثة من عشرات بل مئات الحوادث
ويعود د. عبدالمجيد الرافعي بالذاكرة إلى «أحداث 1958» فيقول: «قرب القلعة كان هناك عدة بيوت متفرقة، وفي أحد الأيام، عند الساعة الثانية صباحاً طلبت مني إحدى السيدات إسعاف زوجها الجريح.
إستقليت السيارة وعند وصولي إلى «مقبرة مار يوحنا» (أمام بناية الصفدي) جرى إطلاق النار بإتجاهي لكنني مررت، وقبل الوصول إلى بيت الجريح كان الرصاص كثيفاً، فركنت السيارة قبل الفراغ بين بنايتين وزحفت إلى ان وصلت وأجريت له الإسعافات الممكنة في البيت ثم نقلته إلى «مركز الخدمات الاجتماعية» بسيارتي وأجرينا له اللازم، وبعدها كان الزوجان وأولادهما يذكرونني بالخير».
.. وكانت إنتخابات 1960 وفي طرابلس شعب أصيل في قوميته ووطنيته
ونعود إلى مرحلة تاريخية ومصيرية هامة.. وسألنا.. وأجاب د. الرافعي: بعدما انتهت أحداث 1958 واصلنا الاهتمام بالقضايا المختلفة منها التوسع في إقامة مستوصفات إلى ان جاءت الانتخابات النيابية عام 1960، وكنت قد شعرت بأن اهتماماتي وعملي في الأحداث وفي مناطق لم أكن أعرفها من قبل، أصبحت تفرض علينا مسؤوليات أكثر وكان القرار بالترشح وأقمنا عدة مهرجانات كان أبرزها وأكبرها مهرجان في «ساحة الدفتردار».
وكان أحد رفاقنا د. سعدون حمادي يقول أن بلداً مثل لبنان ما هي فائدة الانتخابات فيه، فطلب منه الشباب الحضور إلى المهرجان حيث رأى العدد الكبير والحماس فقال: «إن شعب طرابلس أصيل في قوميته ووطنيته وإن «البعث» في طرابلس حق، وعبدالمجيد هو خيار الأستاذ ميشال، كي نبقى على اتصال بالشعب».
فوز ثم خسارة! كمال سلهب: إذا لم ينجح..
وقد حضر هذا المهرجان نقيب المحامين كمال سلهب، المعروف بصداقته مع آل كرامي حيث شاهد الحضور الواسع والحماس حتى ان المنصة إنكسرت بسبب رقص الشباب عليها وحماسهم. فقال: «إذا لم ينجح عبدالمجيد الرافعي الذي عمل كذا وكذا لطرابلس فيجب ان تتكلل كل حيطانها بالسواد».
وكان المحافظ حليم أبو عزالدين هنأني بالفوز مباشرة أمام هيئة الفرز عند الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، وضجت كل أحياء طرابلس إحتفالاً، ولكن في الصباح تغيرت النتيجة، وتوجه الناس إلى مستوصفنا في شارع المصارف وهم في حالة ذهول وغضب شديد.
فما كان مني إلاّ أن سألت المحافظ عما حصل، فقال «أمور جديدة محصلت». وقد علمنا انه تمت إضافة أصوات الأرمن زوراً.
كان الناس قد أغلقوا الطريق وكان الجيش حاضراً، كان الجميع يصرخون: «مزورين... مزورين».
فخاطبتهم قائلاً: «إن وجودكم بهذا العدد (قُدِّر بعشرة آلاف) يعني نجاحي، دخول البرلمان ليس المهم، بل العمل العام. لقد قلت لكم ان العديد من المشاريع مطروحة في طرابلس، وأنا لم أعدكم بإنجاز أي مشروع، بل قلت لكم ان علينا النضال من أجل تحقيق هذه المشاريع. ان ظِفْرَ الواحد منكم عزيز عليّ، لذلك أدعوكم للتفرق بهدوء، وبعدها سيكون نضالنا لانتزاع حقوقنا».
أكثر من 13 ألف صوت في إنتخابات 1968
في إنتخابات 1964 لم أترشح بسبب الأجواء التي سادت في 1963، وفي انتخابات 1968 شكلنا قائمة مصغرة، ضمتني إلى جانب د. عمر بيسار ومصطفى الصيداوي. وقد نالت نسبة معقولة من الأصوات (ما يقرب من 14 ألف صوت).
«معارك» مطلبية محلية
إستمر النضال بعدها وكانت القضية الفلسطينية هي أولى اهتماماتنا وإلى جانبها «المعارك» المحلية. في 1969 خضنا «معركة الكهرباء» من أجل تحسين قوة التيار والانقطاع المستمر والسرقات والرسوم حتى نجحنا بتخفيض الأسعار والرسوم للمشتركين في الكهرباء (ساعة فولت) (أي إشتراك المواطن الشعبي) وإعادة الفولتاج إلى مستواه قبل السرقة.
اللحاق بالمقاومة
وفي هذه الأثناء كنا ندّرب الشباب ونرسلهم للإلتحاق بالمقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان، حيث سقط منا عدد من الشهداء، وفي أيلول الأسود عام 1970 تطوعت مع 100 شاب إلى الأردن.
عندما تعرَّفتُ إلى ليلى
قال الدكتور عبدالمجيد الرافعي: «تعرفت على زوجتي ليلى خلال احداث 1958، إذ كان إبن خالي رياض ميقاتي من المقاتلين، وقد أصيب برصاصة إخترقت صدره، داويناه في «مركز الخدمات الإجتماعية» ووفرنا له أوكيسجين من «معمل الحديد»، ثم نقلته إلى منزل خالتي حيث كنت أقيم، لأن منزلنا كان مواجهاً للنار. وكنت أعرف أن آل البقسماطي، ومنهم ابنتا زهدي البقسماطي مع آل كرامي سياسياً.
وفي أحد الأيام طُرق الباب، ففتحت، فإذا بصبية. قلت لها: نعم؟ فقالت: أنا ليلى البقسماطي، أريد رؤية رياض ابن خالك ودَخَلَت.
ثم طَلَبَت الاتصال هاتفياً بحسّان مولوي، الذي قال لي إن ليلى رفيقة لنا وجاءت من بيروت لمساعدتنا.
جرى التعارف، وكنا نتبادل الزيارات كرفاق، وقد كانت لامعة في الإذاعة، ثم صارت ترافقني إلى المستوصف مما عمق المعرفة بيننا.
سنة 1961 إنتُخبت ليلى عضو قيادة قطرية في حزب البعث، وتطورت المعرفة الجدية بيننا إلى الخطوبة سنة 1965، وإلى زواج في 23 كانون الثاني 1966. بعدها بأربعين يوماً تم سجني بسبب إصدارنا بياناً ضد ما سُمِّي «الإنقلاب على الحزب في 23 شباط 1966». البيان نُشر في الصحف صباح 3 آذار، وبعد ظهر 3 آذار تم اعتقالي عندما كنت مغادراً العيادة حيث مكثت في السجن ثلاثة أسابيع