انتقل مشروع التّغلغل الإيرانيّ الفارسيّ الصّفويّ في الوطن العربيّ الكبير من طور الحلم إلى طور التّحقّق متّخذا نسقا تصاعديّا تدريجيّا حيث سمح غزو العراق في عام 2003 وتدميره وإسقاط نظامه الوطنيّ وحلّ جيشه الذي شكّل طويلا حاجز الصّدّ الذي ارتطمت عليه وتهاوت أحلام الفرس في توسّعهم الاستيطانيّ الشّعوبيّ غربا ومن خلاله إزاحة أهمّ العقبات على الإطلاق أمام الرّياح الصّفراء، ووفّر فرصة ذهبيّة للفرس للانقضاض على العرب.
تواترت نجاحات الفرس في قضم مزيد من الأراضي العربيّة وتدجين قطاعات واسعة من الجماهير العربيّة، حتّى جاهر كبار الحكّام الفارسيّين متبجّحين بسيطرتهم على أربع عواصم عربيّة كبرى هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء مؤخّرا، ناهيك عن اغتصابهم للعاصمة الخامسة المسكوت عنها ألا وهي المحمّرة عاصمة الأحواز العربيّة التي اقتطعوها بعد صفقة الغدر البريطانيّة منذ عام 1925.
لقد استند الفرس في مخطّطهم التّوسّعيّ الشّعوبيّ على عدد من العوامل والسّياسات، واستفادوا خصوصا من اللّغط واللّبس المستبدّ بالأذهان من حيث تداخل مفهوم الأمّة عند السّواد الأعظم من الجماهير العربيّة الذي لا يفرّق بين القوميّة الفارسيّة وبين انتماء إيران الإسلاميّ من خلال حضورها الرّسميّ في المؤتمر الإسلاميّ حتّى سقط كثير من المحسوبين على العائلة القوميّة العربيّة في هذا الفخّ وغدوا منظّرين متحمّسين لإشاعة مفاهيم ومصطلحات مبتدعة ومبتذلة تذهب لحدّ اعتبار إيران الفارسيّة جزء من الأمّة العربيّة.
واعتصم دهاقنة الفرس بالسّجال المفتوح منذ قرون عدّة حول الخلاف السّياسيّ بين عليّ ومعاوية بن أبي سفيان، وأذكوا نيران الفرقة الطّائفيّة بين أبناء نفس الأرض واللّغة والدّين الواحد، وتخفّوا في ثنايا حركة شعوبيّة دسّاسة تقطر عنصريّة كلّ هذه القرون وأفلحوا في تثبيت شرخ يشقّ صفوف الأمّة شقّا عنيفا.
من البداهة بمكان القول إنّ الفرس لم يحقّقوا درجات عالية من النّجاح في اختراق الصّفّ العربيّ لولا أنّ شرذمة عاقّة من هذه الأمّة عرضت نفسها في مزاد الارتزاق وباعت ذممها ورهنت ضمائرها لما يضخّه الوليّ الفقيه من ودائع في أرصدتها، وباتت هذه العٌصبة بمثابة الخنجر المسموم الذي يدمي الخاصرة العربيّة ويعوّق نضالات الجماهير ضدّ الصّلف والعنصريّة الصّفويّة البغيضة.
إلاّ أنّ الإعلام يبقى السّلاح الأخطر الذي اعتمد عليه الفرس في مخطّط توسّعهم وتمدّدهم في قلب الجسد العربيّ، إذ تفطّن الفرس لأهميّته وقدرته على خلق الأمزجة الشّعبيّة وتطويعها وتوجيهها حسب أهداف الماسكين بخيوط إدارة المعركة الإعلاميّة، إذ باتت أعتى الجيوش العسكريّة عاجزة عن قطف ثمار أعمالها الحربيّة بدون إسناد إعلاميّ في عصرنا هذا وهو عصر الثّورة الرّقميّة والإعلاميّة العملاقة بلا منازع.
وانطلاقا من هذه القناعة، سارعت إدارة إيران لرصد أموال طائلة لبعث قنوات تلفزيّة وصحف ومواقع الكترونيّة عملاقة ناطقة بلغة الضّاد وموجّة للعرب. واتّخذت تلك المنابر الإعلاميّة منصّات لإطلاق صواريخ كلاميّة في ظاهرها وهي أشدّ فتكا من أحدث الصّورايخ، وعمد الفرس لإغراق هذه القنوات بمئات الفنّيّين والخبراء في شتّى المجالات سيّما المجال النّفسيّ والحضاريّ.
ومن خلال معرفة الفرس بطبيعة التّركيبة النّفسيّة العربيّة، انتقت بدقّة متناهية أفضل سبل تهيئة المواطن العربيّ البسيط للقبول بالحليف الإيرانيّ الوافد الجديد مصوّرة إيّاه في ثوب الصّديق الودود المسالم والمحارب المستعدّ للتّضحية بحياته في سبيل نصرة جاره العربيّ وأخيه في الإسلام، ولم تغفل في المقابل على دسّ السّمّ في العسل، فعمدت إلى تثبيت العربيّ في صورة العاجز والتّائه في البيادي ضعيف الرّأي قليل الحيلة. ويتنزّل كلّ ذلك في إطار السّياسة الكيديّة المتمثّلة في ضرب جهاز المناعة النّفسيّ الجمعيّ وجبر العرب وحملهم على الانخراط طوعا وكرها في مخطّطاتهم المرحليّة والبعيدة.
فتح الفرس منابرهم الإعلاميّة تلك خصوصا لتلك الزّمرة المتساقطة من أبناء الأمّة، واستضافوهم بموجب وبدونه وبشكل عشوائيّ، وكان الشّرط الأساسيّ لعشّاق الظّهور المناسباتيّ والشّهرة الإعلاميّة الزّائفة فقط مزيد الإساءة للعرب بادّعاء السّخط والتّجهّم من واقعهم المتردّي، واقتران ذلك بتمجيد الفرس وحضارتهم وترديد مظلوميّاتهم التّاريخيّة الطّويلة.
وهكذا، أفلح الفرس في النّفاذ لأغلب بيوت العرب، وتمكّنوا من مخاطبة العقول وسحر الألباب حتّى تضاعف مناصرو إيران الفارسيّة الصّفويّة الشّعوبيّة في الوطن العربيّ الكبير، وصاروا بالتّالي مشاريع طابور خامس لا يعلم أصلا كيف تمّ الزّجّ به لما سيكلّف به من أدوار مستقبلا سيكون أقلّها ألاّ يعارض الفعل والنّوايا الحقيقيّة لساسة طهران.
إنّ هذا الخرق الكبير الذي حقّقه الفرس، يستوجب ردّا عربيّا مماثلا، يتوجّب فيه تخصيص قنوات مدروسة لصدّ الحملة النّفسيّة الفارسيّة الهوجاء ضدّ العرب، أو على أقلّ تقدير فتح منابر حواريّة متكرّرة ومتواصلة تتكفّل بدحض أكاذيب الفرس وكشف نواياهم الحقيقيّة وتعرية عنصريّتهم وتآمرهم طيلة تاريخهم ضدّ العرب والعروبة.
أنيس الهمّامي
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 12-11-2016