اجتيازنا لممر الموت المسمى ( اجتثاث البعث ) امر اصبح بديهية معترف بها قطريا وعربيا وعالميا بدليل هذا الدعم الهائل للبعث من كافة ابناء العراق خصوصا في جنوب العراق والذي يشهد سيلا لم ينقطع ويزداد قوة يوما بعد اخر متمثلا في الهتاف باسم الحزب واعلان دعمه وتمني عودته وتمجيد قيادته وانجازاته علنا وبتحد مباشر للقتلة نغول اسرائيل الشرقية ، وهنا نرى احد اهم الاسباب التي تعزز هدف اجتثاث البعث بطرق اخرى مموهة ويمكنها خداع البعض خصوصا ذوي التجارب الحزبية الفقيرة او النزعات الفكرية الخاطئة ، ما هي ابرز هذه الطرق المبتكرة للاجتثاث ؟ كل عمليات الابادة لالاف البعثيين والتحديات غير المسبوقة لم توقف تنامي جماهير البعث واتساع قواعد دعمه ولم تؤدي الى التراجع عن عقيدته وستراتيجيته القومية ، مما جعل الاجتثاث الجسدي الذي جرب على نطاق كارثي وادى لاستشهاد اكثر من 160 الف بعثي حتى عام 2014 سببا اخرا لتعاظم قوته ولهذا كان ضروريا اعتماد سيناريو مبتكر وجديد لتحقيق هدف الاجتثاث وهو ما نراه منذ فترة وهو اخطر بكثير من الاجتثاث الجسدي .
انه الاجتثاث العقائدي للبعث ففشل الاجتثاث الجسدي كوسيلة للقضاء على البعث ثم فشل محاولات خلخلة تنظيم الحزب واضعافه بتشجيع عدم انضباط البعض تنظيميا في مناطق نضالها قليل او سهل نسبيا ، او تنمية نزعات فردية خاطئة تسمح باضعاف الانضباط وهو يعني اضعاف القدرة النضالية لان تنفيذ خطط الحزب واوامره وتوجيهاته احد اهم شروط النصر . ما سبق من فشل دفع غرف التخطيط المخابراتي المعادية للجوء الى اهم اشكال الاجتثاث وهو الاجتثاث العقائدي والذي يتركز وقبل كل شيء على التشكيك بصلاحية بعض مفاهيم البعث والدعوة لمفاهيم اخرى او تغيير مفاهيمنا الحالية تحت غطاء تأسيس مفاهيم جديدة وتحقيق التطوير والتلائم مع التطور . وهذه الخطة بدأت في عام 2009 تقريبا حينما اخذنا نسمع مقترحات من (اصدقاء ) ومن اعداء اضطروا للاعتراف بان كل جرائمهم ضدنا قد فشلت في القضاء علينا لهذا فالافضل ان نغير اسم الحزب او عقيدته (المتطرفة) كي نستطيع العمل كغيرنا ! كل هذا حصل بعد ان نجح الحزب في البقاء وتحقيق شعبية اوسع بقوة مناضليه وتضحياتهم الغالية .
والاجتثاث العقائدي اقترن بخطة تمويه هدفها منع اكتشاف وجود اجهزة مخابرات وراء هذا النوع من الاجتثاث عبر زرع او تنمية او استغلال النزعتان الفردية والليبرالية داخل حزب ثوري يرفضهما رفضا تاما ، فيبدو اجتثاث العقيدة كأنه حوار وتبادل وجهات نظر وليس عملية تأمرية لتوريط المخلص الناقص الخبرة حتى وان كان مثقفا .
نسف ثوابت البعث العقائدية يؤدي حتما الى التخلي عما يشتق منها وهو ستراتيجية الحزب القومية التاريخية فما ان يتم تغيير مفاهيم اساسية حتى تأتي حتمية اعادة النظر بالستراتيجية القومية وهذا يوصلنا الى حالة الطلاق مع حزبنا تدريجيا وبطريقة تبدو كأنها عملية تطوير من خلال الحوار حول الثوابت والبديهيات والمفاهميم التي اسس الحزب على اساسها ! وهذا الفخ المحكم وقع فيه عدد من كوادر الحزب المخلصة في الستينيات ونحن عشنا تلك التجارب المريرة التي كان محورها ابتداع خلافات حول عقيدة الحزب ومحاولات شقه عبر الخروج على مركزيته الممثلة في قيادته الشرعية والتاريخية . .
كيف يتم ذلك ؟
1-البعث ليس معسكرا كشفيا يعد له لاسابيع ويقام ثم يفكك وهذا هو حال الاحزاب المرحلية التقليدية ، ولا هو ناد ثقافي يحاضر فيه كل زائر او مثقف مهما اختلفت عقائدهم ، بل هو حزب رسالي يتطلب تحقيق رسالته عقودا واجيالا وربما قرونا طويلة ، وهنا تكمن خصوصيته فالاحزاب التي تتبنى اهدافا ستراتيجية عظمى تحتاج لعقود وربما لقرون لتحقيق اهدافها او حماية ما تحقق منها في عالم معاد بتطرف للعقيدة وستراتيجيتها القومية ، لذلك فانها تتميز بانها ليست احزابا مرحلية ولا وقتية وبالتالي فان مفاهيمها ليست معروضة للنقاش واعادة النظر بين فترة واخرى ، اذ كيف نحقق اهدافا بعيدة وجذرية الطبيعة اذا كنا نعيد النظر فيها بين فترة واخرى ونعدها مجرد فكرة انية يقوم العقل بمناقشتها واعادة تقييمها كلما استجد شيء ؟
المتغير يرفض الثبات والمفاهيم هي الثبات لفترات طويلة وقد تكون دائمة ، كما هي حال عقيدة البعث التي وجدت لتبقى كما وجدت كي لا تتعرض لاعادة النظر بين فترة واخرى تبعا لتغير الظروف او لحاجة من يدعو للتغيير لان ذلك يؤدي الى الوقوع في فخين قاتلين :
الفخ الاول هو فقدان البوصلة العقائدية ، وهي في ان واحد تنير الطريق وتشكل معيارا لصواب اختيار الاهداف المرحلية ، في عالم اطفأت فيه الشموس وساد الظلام ونسفت الجسور وخربت الطرق وزرعت الالغام في كل مكان، واهمها واخطرها الغام التجريبية والانتقائية والذاتية والبراغماتية ، لهذا فان من يعمل لاجل تدمير الواقع الفاسد ويبني البديل الصحيح عليه ان يمتلك اولا بوصلة هادية ( العقيدة ) ثابتة لاتمسها يد تفسد مكوناتها الطبيعية تحدد المسار العام واهدافه الكبرى الى نهاياته الكبيرة ، ومن العقيدة نشتق مصابيح ضوء ومجسات الغام(ستراتيجيات مرحلية ) تنير لنا الطرق وتكشف ما فيها من الغام.
اما الفخ الثاني فهو المطالبة باعادة النظر في المفهوم بين فترة واخرىفأذا جعلنا العقيدة نزوة فكرية او موضة قابلة للاجتهاد ووجهة نظر بالنسبة لمثقف برجوازي صغير يبحث عما يملء فراغه النضالي فيعيد النظر بالمفاهيم الاساسية والتأسيسية الاصلية ويبدأ بالمس بالعقيدة بأسم صياغة مفاهيم او تطوير مكونات العقيدة او بعضها فأنه سواء ادرك ذلك ام لا يساهم في تحقيق هدف خطير جدا وهو تحطيم البوصلة عمليا حتى لو واصل التمسك بها شكليا ، فيضيع المسار التاريخي ونعجز عن تحديد ملامح وخطوط ما يطرأ ويستجد لفقدان البوصلة المعيارية الاساسية .
وهذا يجر جرا الى التخلي عما اشتق منها من مصابيح ومجسات (الستراتيجية ) والبحث عن بدائل مع اننا مازلنا نسير في نفس العالم الملغم في كل زواياه ، فلم تعد فلسطين قضيتنا المركزية الوحيدة بعد اضافة العراق وسوريا وليبيا واليمن وغيره الى قائمة الاقطار التي تواجه تحديات وجودية مثل فلسطين مما يجعلنا اكثر تمسكا بالعقيدة واصولها التأسيسية وفرعها الستراتيجي في اهم عناصره وهو قومية النضال العربي ، اما حينما نتخلى عن العقيدة فاننا نضطر للتوقف بين فترة واخرى بحثا عن بوصلة جديدة وما يشتق منها من مصابيح حديثة ومجسات اخرى ! وهذا خيار خطير لانه يعطل اهم ما في عملية التغيير الثوري والبناء في عالم كله الغام ووحوش تتربص بنا ، وهي البوصلة التي تنير لنا الطريق والمعيار الذي يحدد لنا الخطأ والصواب . مقابل ذلك عدونا المشترك لديه بوصلات وليس بوصلة واحدة كي يضبط حركته ضدنا ويواصلها لنصف قرن او اكثر كما نرى الان ، فهو خطط كل شيء وبالتفاصيل الدقيقة لكيفية اجبارنا على فقدان البوصلة لانه يعلم جيدا باننا بدونها سوف نضيع في ارض بلا معالم ولا انوار !
2- وبناء على ماتقدم فان من وضع دستور البعث عند تأسيسه كان يعرف كل ما سبق بل كان قناعته التي بلورتها تجارب طويلة ومتعاقبة فوضع فقرة اخيرة تقول بكل وضوح وبلا اي غموض بانالفقرات الاساسية من الدستور لايمكن تغييرها ولا يملك احد او اي جهة في الحزب بما في ذلك اعلى هيئة تشريعية فيه وهي المؤتمر القومي تغييرها حتى لو اجمع المؤتمر على التغيير . فهل كان القادة المؤسسون سذجا او ناقصوا خبرة حينما ثبتوا تلك الفقرة في دستور الحزب وهي وضعت لحماية عقيدة الحزب ام انهم كانوا ينظرون للمستقبل بكل مفاجأته واحتمالاته وادركوا بانه سيأتي يوم ما يتخذ فيه التأمر على الحزب شكل الدعوة لاعادة النظر في عقيدته وتأسيس مفاهيم جديدة له ؟
من عاش تجارب الحزب في الستينيات ، وانا منهم ، يدرك فورا ان موضات اليمين واليسار التي الحقت ضررا هائلا بالحزب كانت نتاج قلة الخبرة وضعف استيعاب عقيدة البعث ، وربما هناك اسباب اخرى ، لهذا رأينا ان من اراد تهديم عقيدة البعث تحت غطاء التطوير او تأسيس مفاهيم لم يعد بعثيا وبعضهم تحول الى عدو للبعث لسبب بسيط هو انه ليس حزبا كلاسيكيا يمكن استبداله بغيره او تغيير اسمه وهويته العقائدية دون ان يتعرض للتفكك والزوال . كانت موضات التطوير واليسار واليمين من اهم اساليب اعتراض مسيرة تحقيق اهداف البعث واحباط عمله لتحقيق النقلة النوعية في الدولة والمجتمع بعد استلامه للحكم في العراق وسوريا في عام 1963.
وحينما نقول ان السبب المرجح هو قلة الخبرة فلان مناقشة القضايا النظرية والدعوة لتأسيس مفاهيم يدل على واحد من امرين او كلاهما :فهو اما نتاج فراغ نضالي وضعف او انعدام التهديدات الخطيرة لان المناضل حينما يواجه تحديات خطيرة يحول كل طاقاته لحماية وجوده كمناضل ووجود حزبه وهويته وليس الانغماس في جدل بيزنطي حول مفاهيم ونظريات ،او انه فاقد للقدرة على تمييز ماهو رئيس وما هو ثانوي فيخلط بينهما وتكون النتيجة هي الاضطراب الفكري .والسؤال المنطقي الواجب طرحه هو : هل المرحلة الحالية مرحلة ترف فكري ونقاش بيزنطي وعمل لتغيير المفاهيم ام هي مرحلة حماية الوجود ومنع مسخ الهوية القومية وتجنب اي قضية خلافية ؟
ان النضال من اجل حماية نقاوة عقيدة البعث والتمسك بأصالتها وكما وضعها القائد المؤسس احمد ميشيل عفلق هو الواجب الاساس في مرحلة فشل الاجتثاث الجسدي والنفسي وتبني خطة الاجتثاث العقائدي التي تسلب من البعثيين البوصلة الهادية والمعيارية ، لهذا علينا جميعا تبصير من لم يخوض غمار تلك التجارب ومن ثم لا يعرف مخاطر الدعوة لتأسيس مفاهيم جديدة بنصحه بدراسة تجارب الحزب السابقة في هذا المجال وعدم تجاهل دروسها الغنية واهمها ان بقاء البعث ونجاحه في ازالة العقبات التي تصطنع لعرقلة مسيرته رهن بالتمسك الصارم والثابت بعقيدته والرفض التام لاي مس بها او الدعوة لمناقشة اسسها لانها ليست موضة فكرية ولا سباقا لنيل جائزة جنيس للارقام القياسية بل هي جوهر كياننا الانساني وحصانته الاساسية ضد التغريب والتفرد والبراغماتية .
almukhtar44@gmail.com
26-11-2016