هل العمى القوميّ قد أصابنا ؟
أم نحن نشكو من عمى الألوان ؟؟
تواجه الأمّة العربيّة العربيّة منذ قرون سلسلة متصاعدة من المؤامرات والمخطّطات الهادفة لإخراجها من دائرة الإسهام الحضاريّ والبناء الإنسانيّ الكونيّ بما يتوافق مع ما تزخر به من طاقات وموروث واسع وشامل على جميع الأصعدة سواء كانت فكريّة أو ثقافيّة أو حضاريّة وخصوصا منظومة القيم والتّعاليم الرّوحيّة المتميّزة التي انبنت على حزمة الفضائل والخصائص التي تمكّن الإنسان متى تشبّع بها من تحقيق أعلى درجات الاستقرار الرّوحيّ والتّوازن النّفسيّ وبالتالي تصعيده لأعلى مستويات العطاء والإبداع في كلّ الاتّجاهات.
ورغم السّمة العدوانيّة والنّزعة العنصريّة المترعتين حقدا وعنصريّة وبغضا للعرب، ورغم فداحة الجرائم المرتكبة بحقّهم من قبل جميع مستهدفيهم قديما وحديثا، فإنّ العرب حافظوا أو نجحوا في الحفاظ على وجودهم أو مظاهره ومدلولاته وإن في أدنى تجلّياته.
فلا سرّ نذيعه إذا قلنا إنّ الهدف الحقيقيّ من استهداف العرب وضرب العروبة المتواصلين منذ فجر التّاريخ هو إبادتهم إبادة عرقيّة تصفويّة، وتتكشّف هذه الإبادة المدفوعة بمباعث مختلفة ومتنوّعة تتوزّع بين تجمّع الحقد والأطماع الجشعة في التّلذّذ بما تزخر به أرضهم الواسعة الممتدّة من أقصى المحيط الأطلسيّ لحدود الخليج العربيّ من خلال حجم الدّمار المريع الذي خصّت به أمّة العرب دون كلّ الأمم، بل إنّ هذا الدّمار شمل شتّى أوجه الحياة والمنجزات العربيّة سواء الماديّة أو الثّقافيّة أو غيرها.
وبالقدر نفسه، فإنّه يجب التّأكيد هنا على أنّ بقاء العرب وفشل مشاريع تصفيتهم لم يأتيا من فراغ ولكنّها كانا مبنيّين منطلقين من الإحساس المتوهّج بأصالة انتمائهم القوميّ وإيمانهم المتّقد واعتزازهم الثّابت بعروبتهم وتاريخهم وتعلّقهم وتشبّثهم بأرضهم وقرنها بقيم الشّرف والعرض واعتبارها ضلعا مهمّا ورئيسيّا في مقاربة وجودهم من الأساس.
إلاّ أنّ هذه المعطيات لا يمكنها حجب تراجع الشّعور القوميّ عند العرب هذه الأيّام وتدنّي منسوبه لمستويات غير مسبوقة في مجملها.
وفي حقيقة الأمر فإنّ هذا التّراجع مبرّر أو مفهوم في أسوأ الحالات بالنّظر لارتقاء الجرائم المرتكبة بحقّ العرب في أيّامنا هذه وخصوصا منذ احتلال العراق والعدوان الكونيّ الهمجيّ عليه لحدود تفوق كلّ مجالات التّحمّل وحتّى التّخيّل لأنّها فتحت الباب على مصراعيه لجحافل الشّرّ والعدوان العالميّ المتلوّن لمزيد إثخان الجراح العربيّة المفتوحة والغائرة انطلاقا من الأحواز العربيّة وفلسطين السّليبتين مرورا بالعراق الجريح وصولا لليبيا وسوريّة واليمن وبقيّة الأقطار الأخرى المهدّدة بنفس المصير.
فكيف يمكن إذن امتصاص هذا التّراجع وتحجيم آثاره وتداعياته، وما هي السّبل للارتقاء بالشّعور القوميّ العربيّ؟
لا بدّ من الانطلاق في أيّ مسعى للبحث عن سبل تدعيم الإحساس القوميّ العربيّ عند جماهير الأمّة العربيّة من مسلّمة أنّ جذوة الإيمان بعروبة الأمّة لم تنطفئ مطلقا في الجماهير ولا تزال متّقدة برغم المآسي التي ترسف تحتها وما يلفّ الوطن العربيّ من سواد وما يسيل فيه من شّلالات من الدّماء.
وهو ما سيشكّل لبنة رئيسيّة لأيّ بحث في أن يتوافق مع الواقع ومن ثمّة ضمان سلامة أيّ تشخيص أو استشراف.
إنّ الارتقاء بالحسّ القوميّ العربيّ عند الجماهير وتطويره والسّير به للمراتب الكفيلة بوأد المطامع الاستعماريّة العنصريّة التّوسّعيّة على حساب العرب أرضا وجماهير ومقدّرات وتاريخا وحضارات، يمرّ حتما عبر استثمار المظاهر الحسّيّة التي تبشّر بمدى تعلّق العرب بقوميّتهم، وهو ما يحتّم على المعنيّين بذلك وهم حتما الطّليعة القوميّة الثوريّة تنظيمات وقيادات وشخوصا إيجاد السّبل العلميّة والموضوعيّة لصقل هذا الإحساس القوميّ العفويّ لدى الجماهير وتطويره والرّقيّ به لمستوى الوعي والإدراك واتّخاذه منهج حياة شامل لا حياد عنه.
ويقتضي ذلك الانتقال بالإحساس القوميّ من مرتبة الشّعور العفويّ إلى مرتبة الإدراك والاستملاك المتناهي لمقتضيات الوعي القوميّ العربيّ، ضرورة كشف المؤامرات التي تحاك ضدّ العرب ورصد المخطّطات المهدّدة بنسف الأمّة نسفا لا يبقي ولا يذر ولا يستثني أحدا. ولا يتحقّق ذلك دون إلزاميّة تحديد أعداء الامّة العربيّة تحديدا علميّا لا يخضع للمجاملات ولا المفاضلة، كما ينبغي في هذا السّياق عرض معالم الدّسائس التي حيكت في سياق تجدّد استهداف العرب عرضا مفصّلا ومبسّطا لا يغفل عن التّذكير بالمولّدات والأهداف الحقيقيّة من تلك الاستهدافات.
هذا، ولا مناص للطّليعة الثّوريّة القوميّة في مبحثها ذلك من استغلال بوادر الصّمود الأسطوريّ الذي خطّته جماهير الأمّة العربيّة في سوح المواجهات المختلفة سواء ضدّ المستعمر من خلال تمنطق بنادق المقاومة المسلّحة وخصوصا في الأحواز وفلسطين والعراق أو من خلال مواجهة الخيارات اللاّشعبيّة واللاّقوميّة لأغلبيّة النّظام العربيّ الرّسميّ، فمن خلال ذلك يمكنها فقط جذب السّواد الأعظم من تلك الجماهير للخيار الاستراتيجيّ الأغلى والأهمّ وهو خيار المقاومة بما هو مشروع تحرّريّ قوميّ إنسانيّ من جهة وبما هو ضمانة أساسيّة وعليا لقبر أحلام أعداء الأمّة امبرياليّين وصهاينة وفرسا صفويّين وأتراك وروسا وغيرهم. ولا يقتصر العمل على توسعة جماهيريّة الفعل المقاوم ودعمه على الجماهير، إذ لا بدّ من فتح القنوات كافّة وخوض النّقاشات جميعها مع النّظام الرّسميّ العربيّ وحمله على تحمّل مسؤوليّاته القوميّة والقانونيّة والأخلاقيّة تجاه الأمّة بما يقطع مع السّياسات الأنانيّة والحسابات القٌطريّة الضّيقة التي ثبت بطلانها وفشلها فشلا ذريعا.
على الطّلائع الثّوريّة القوميّة العربيّة أن تدرك أنّ دورها الأساسيّ لا يقتصر فقط على خوض المعارك الفكريّة أو الثّقافيّة أو حتّى العسكريّة، بل إنّه عليها مزيد الالتحام بالجماهير والإنصات لهمومها من جهة وبثّ الوعي فيها من جهة أخرى. وعليها كذلك إيجاد الحلول الكفيلة بإقناع بقيّة النّخب العربيّة خصوصا العاملة في الحقلين الثّقافيّ والإعلاميّ بضرورة التّداعي لاستحقاقات الصّراع القوميّ العربيّ والتي لا تنفصل أبدا عن تغذية الوجدان والرّوح القوميّين العربيّين بما يلزمانهما من مدعّمات الاستقرار ومكتسبات المناعة الذّاتيّة والحصانة النّفسيّة وذلك بصدّ هجوم مضادّ على الحرب الإعلاميّة والنّفسيّة الهوجاء التي لم تكفّ الجهات المعادية عن شنّها بغية تخريب الوعي القوميّ العربيّ وتشتيته.
إنّ كلّ هذه الخطوات ومهما كانت في الحدود الدّنيا ضمانة مهمّة للارتقاء بالوعي القوميّ العربيّ واستعادته لزخمه وتوهّجه، سيظلّ مبتورا ما لم تتوجّه الطّلائع الثّوريّة القوميّة لضرب كلّ مظاهر التّقسيم وسياساته سواء كانت تلك التي تلوذ بالفعل المسلّح المباشر كما يحدث في سوريّة والعراق وليبيا واليمن أو تلك التي تحتمي وراء استثمار التّعدّد والتّنوّع القوميّ أو ما يسمّيه الأعداء بالأقليّات القوميّة، ويحضر هنا التّشديد على توجّب استعداد تلك الطّلائع الثّوريّة القوميّة تنظيمات وأشخاصا، على محاورة المكوّنات غير العربيّة في الوطن العربيّ الكبير وتفنيد كلّ أكاذيب الأعداء من حيث التّركيز على أنّها مضطهدة ومقموعة ومحرومة، وطمأنتها وتذكيرها بأنّ العروبة ثقافة وانتماء وليست عرقا من جهة، والمشتركات الثّقافيّة والتّاريخيّة والدّينيّة والمصيريّة المستقبليّة من جهة أخرى كلّها قد شكّلت طيلة التّاريخ أرضيّة صلبة للعيش المشترك بلا إهانة ولا مسّ ولا انتقاص وتذكيرها وجوبا باعتزاز العرب كلّ العرب لهم ولإسهاماتهم في رفع لواء العروبة سواء على الصّعيد الفكريّ أو العلميّ أو الاجتماعيّ أو الحربيّ.
ويظلّ في هذا السّياق من الشّروط الأكيدة لتحقيق أعلى مراتب الارتقاء بالوعي القوميّ العربيّ لدى جماهير الأمّة العربيّة وضمان أوسع حزام له على أرضيّة صلبة وواثقة، تعرية الأحاييل الشّيطانيّة للاستعمار والصّهيونيّة والفارسيّة الخمينيّة الصّفويّة والمتثّلة خصوصا في إثارات النّعرات الطّائفيّة وإذكاء النّزعات العرقيّة والإثنيّة على قاعدة فرّق تسد.
إنّ الجماهير العربيّة بكلّ مكوّناتها وأديانها وطوائفها، ظلّت متمسّكة بالثّابت القوميّ العربيّ فيها رغم محاولات خلخلته وهزّه هزّات تشكيكيّة صادمة عنيفة، ولم تنقطع عن الأمل في معاودة نحت فصول زهوّه وعزّه وعنفوانه وشموخه، ولقد عبّرت دوما في كلّ الفزعات والهبّات عن ذلك الاستعداد الفطريّ والحنين المحتدم لملامسته وتحسّسه، ويكفي ههنا التّذكير مثلا بانّ اعلام فلسطين والعراق والأحواز العربيّة لم تتغيّب عن سواعد جماهير الأمّة في تجمّعاتها الهادرة دوما، كما يدلّل ثبات حلم العودة للاّجئين والمهجّرين العرب قسريّا وهم بالملايين في إطار سياسات التّغيير الدّيمغرافيّ البشعة التي تشنّها جحافل الأعداء خصوصا الصّهيونيّة والفارسيّة على أصالة هذا الشّعور القوميّ العربيّ الشّامخ فيها.
أنيس الهمّامي
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 06-11-2016