سيبقى استقلال لبنان فعلَ ماضٍ ناقصاً
في غياب المرجعية القومية
المحرر الأسبوعي في 22 تشرين الثاني 2016
في العام 1943 نال لبنان استقلاله، عندما انسحبت قوات الانتداب الفرنسي منه. فكان إعلان استقلال لبنان، في زمانه وظروفه المحيطة، فعلاً تقدمياً وإنجازاً يستحق الاحتفال به، على الرغم من أن الانسحاب الفرنسي تمَّ على الأرض، ولكن ظلَّت مسحة (فرنسا الأم الحنون) تطبع النظام الحاكم ببصماتها حينما أبقت على علاقتها المميزة بالطائفة المارونية. وكان هذا يعني أن استقلال لبنان قد حصل بالشكل وليس بالمضمون. وفي مرحلة الخمسينيات انتقل الحنان الفرنسي إلى حنان أميركي.
وبانتقال لبنان من حضن حنون إلى حضن حنون آخر، كانت التجربة القومية في الحكم قد شقَّت طريقها في كل من مصر وسورية، لتبدأ بنقل لبنان من الأحضان الغربية إلى حضن الأم الحقيقية، وهو حضن القومية العربية. وهو الحضن الذي كان من المرسوم له أن ينقل ليس لبنان وحسب، بل وأن ينقل أيضاً كل الأقطار العربية أيضاً إلى إلى أحضان قوميتها العربية.
فمنذ بداية الخمسينيات، وانتهاء بالستينيات من القرن العشرين، ماجت الجماهير العربية نشوة بإنهاء مرحلة فطامها من وصاية الأجنبي، فشهدت تلك المرحلة بدايات في بناء المؤسسات القومية، من القمة العربية إلى سائر المؤسسات العسكرية والأمنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وكان لبنان عضواً فيها. ولكن على الرغم من السلبيات التفصيلية لتجارب تلك المرحلة فقد شكَّلت نقلة نوعية في مسيرة الأمة العربية عندما أخذت تغيِّر مسارات المرحلة القطرية، وتتجه بها نحو بناء قواعد وحدوية.
كانت تلك النقلة مثيرة للرعب في نفوس الدول الغربية التي بذلك كل جهودها للحؤول دون قيام وحدة عربية، وأما السبب فلخطورتها على مصالح تلك الدول. إن قيام تلك الوحدة يعني بالنسبة للمشروع الرأسمالي الغربي أنه سيخسر أسواقاً كبرى تستهلك ما تنتجه مصانعه، وتحرمهم من مصدر أساسي في استخراج المواد الخام، ومن أهمها الثروة النفطية. تلك الثروة التي قال عنها أيزنهاور، رئيس الولايات المتحدة الأميركية في الخمسينيات: (إن من يمتلك النفط يمتلك العالم).
من أجل محاربة التجربة القومية الوليدة، ولمنع امتداد تأثيراتها إلى لبنان، ولأنها تدرك أهميتها في منع الوحدة العربية، ولأن الطائفية في لبنان مرض مزمن، فقد احتضنت الدول الغربية كل فكر أو حزب أو تيار طائفي وشجعته وعقدت تحالفات معه. ومع وجود نزعة (فرنسا الأم الحنون)، وانتشار نزعة (الغرب هو الأم الحنون)، شهدت مرحلة السبعينيات من القرن العشرين، انتعاشاً لافتاً لظاهرة الطائفية السياسية، وراحت كل طائفة من طوائف لبنان تتطلع إلى التفتيش عن عمقها في الخارج لكي تستقوي به. وقد بلغت تلك الظاهرة مستوى بعيداً في مرحلة الثمانينيات، نقطف الآن ثمارها المُرَّة.
لما كانت التجربة الوحدوية العربية، رسمياً وحزبياً، سياسياً وفكرياً، تعمل على تخليص لبنان من عقدة الطائفية المستقوية بالخارج، والبرهان على مدى خطورتها. ولما أخذت تلك التجربة تتراجع إلى الوراء بعد إضعاف عوامل التثوير القومي والوطني، بفعل غياب الأنظمة القومية واحداً تلو الآخر، وتشهد غياب الأحزاب والحركات القومية والوطنية، حركة إثر حركة، وحزباً إثر حزب. كانت مرحلة السبعينيات تشكل نقطة البداية في انحسار الفكر التقدمي وانتشار الفكر الطائفي في عموم الوطن العربي، وخاصة في لبنان.
ومنذ ذلك الحين، استفحلت موجة الاستقواء بـ(الأم الحنون)، وأصبح لكل طائفة (أماً حنونة). ولأن الساحة اللبنانية مفتوحة على كثرة الطوائف، التي بدورها استسهلت فكرة الاستقواء بالخارج، تحوَّلت إلى مأوى للأطفال المعوَّقين من كل الطوائف، واستسهلوا استيراد (أمهات من الخارج). وهكذا تحول معظم اللبنانيين إلى معوَّقين لا يستطيعوا القيام بأي عمل، كبير أوصغير، من دون توجيه من أمهاتهم الحنونات.
لذلك، آخذين بعين الاعتبار هذا الواقع الأليم، ونحن نحتفل بعيد الاستقلال هذا العام، لكي نصرخ بأعلى الأصوات: أيها اللبنانيون، سيبقى استقلال لبنان فعلَ ماضٍ ناقصاً، طالما أن أمراء الطوائف فيه أخذتهم لوثة استيراد (الأمهات الحنونات) من الخارج. وليس هناك من يمد حبل إنقاذ استقلال لبنان إلاَّ باستعادة مرجعية (أمتنا العربية) التي هي أم حنون لكل الطوائف.