تتعرّض الأمّة العربيّة لهجمات وسلسلة متلاحقة ومتجدّدة من المخطّطات الاستعماريّة الشّيطانيّة بنيّة معاودة تقسيمها وتفتيتها وتحويلها لمجرّد جماعات وطوائف متناحرة ومتناثرة تقاذفها النّزاعات الموهومة والصّراعات المغشوشة بدفع وتحريض استعماريّ كيديّ، وتتوزّع هذه الجماعات على حدود جديدة مصطنعة ومبعثرة، ليسهل بالتّالي على الاستعمار بعناوينه المختلفة وأدواته المتنوّعة تحقيق مآربه وأطماعه المتمثّلة رأسا في نهب ثروات العرب وما تزخر به أرضه من مقدّرات طاقيّة متنوّعة ومنجميّة مهمّة من جهة، ولضمان أمن الكيان المسخ الصّهيونيّ المغروس في قلب الوطن العربيّ ضمانا نهائيّا.
لقد أدركت الدّوائر الامبرياليّة الاستعماريّة أنّ محاولات حضورها العسكريّ المباشر وخصوصا على الأرض العربيّة لا يمكنها تحقيق ضالّتها المنشودة بالنّظر لما لمسته من ثبات العرب وطلائعهم القوميّة والوطنيّة والإسلاميّة على خيار المقاومة رغم اختلال موازين القوى حيث يحتفظ الغزاة الغربيّون عادة بتفوّق تسليحيّ نوعيّ من حيث التّقنية والقدرة التّدميريّة العالية، واصطدمت الجهات الاستعماريّة برفض شعبيّ جماهيريّ واسع لتواجدها البشريّ على الأراضي العربيّة وتكبّدت نتيجة لذلك خسائر هائلة سواء في الأرواح أو المعدّات ما أدّى لانهيار كبريات الاقتصاديّات في دوائر الاستعمار وبلغت عصارة ذلك الانهيار ما هزّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة من اختناق وتكمّش وركود اقتصاديّ غير مسبوق بفعل التّكلفة الباهضة والعالية نتيجة خسائرها في العراق بعد غزوه. وأمام هذه القناعات التي ترسّخت في العقل الامبرياليّ الاستعماريّ، لجأ دهاقنة الاستعمار ومخطّطوه لخطط قديمة متجدّدة أوصوا الإدارات السّياسيّة للتّقيّد بها بمنتهى الصّرامة، وتقضي هذه الخطّة بوجوب الإبقاء على سيطرتها على ثروات العرب وتنفيذ المشاريع الاستعماريّة ولكن باستبدال الحضور العسكريّ المباشر بانتداب وكلاء يتعهّدون بتحقيق المطامع الاستراتيجيّة الاستعماريّة من جهة، ويتولّون مهمّة تعويض الجيوش الغربيّة ويتكفّلون بالتّالي ببقيّة المهامّ القتالية الحربيّة مع الانضباط التّام للإشراف الغربيّ الامبرياليّ الاستعماريّ من جهة أخرى، واكتفت تلك الدّوائر باستخدام سلاح الجوّ والحضور الميدانيّ لمئات المستشارين العسكريّين لمراقبة التّطوّرات وبقيّة مستوجبات التّخطيط والإشراف الأخرى.
تتنزّل في هذا الإطار وضمن هذه المقاربات الاستعماريّة وخططها الخبيثة، التّحالفات الجديدة التي طفت على المشهد في السّنوات الأخيرة، والتي تمثّلت رأسا في خروج التّعاون الوثيق والتّنسيق المتناهي بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإيران، حيث اكتشف المتابعون زيف الشّعارات التّمويهيّة والخطب العدائيّة الرّنّانة التي دأب على إطلاقها مسؤولو الفرس ساسة وعسكر و(رجال دين) وتهاوت دعوة " الشّيطان الأكبر " واندثرت أكذوبة وحيلة " الموت لأمريكا .. الموت " لإسرائيل " "، وتكشّفت طبيعة العلاقة بين إدارتي الشّرّ الأمريكيّة والإيرانيّة الفارسيّة الصّفويّة وتوّجت بتسوية الملفّ النّوويّ الإيرانيّ بكلّ دلالاته.
وفي الواقع، فإنّ هذا التّغيّر وإن بدا مفاجئا لكثيرين، ورغم تشديد العارفين بخبايا العلاقات الدّوليّة عليه منذ استيلاء الخميني على ثورة الشّعوب الإيرانيّة عام 1979، فإنّه لم يكن اعتباطيّا ولا عبثيّا، بل إنّه يقوم خاصّة فيما يقوم عليه على استعاضة أمريكا بمنظومة الشّرّ والإرهاب الفارسيّة عن جنودها وحضورها البشريّ العسكريّ عالي التّكلفة في الوطن العربيّ وخاصّة في العراق وذلك بنيّة تلافي الفشل الذّريع للغزو الأمريكيّ للعراق في بلوغ مهامّه أو على الأقّل عدم تحقيقها كاملة لحدّ الآن رغم رهانات وحسابات كبار الاستراتيجيّن العسكريّين والسّياسيّين الأمريكيّين على خلاف ذلك وهي الهادفة لمعاودة تقسيم الوطن العربيّ بدء بالعراق في مرحلة أولى ثمّ تعميم التّجربة على بقيّة أقطار الوطن العربيّ الكبير أي تقسيم المقسّم.
لقد أدّت الحاجة الماسّة لتخريب الوطن العربيّ لتنازل الأمريكان والقبول مكرهين على انتداب الوكيل الفارسيّ الصّفويّ ودغدغة أحقاده وثاراته من العراق والعرب عموما، وتحمّل كلّ تبعات تكشّف ذلك سواء أخلاقيّا أو سياسيّا أو حتّى قانونيّا.
تلاقت إذن أطماع أمريكا وربيبها الكيان الصّهيونيّ مع أحقاد ملالي طهران على العراق والأمّة، وتمّ توزيع الأدوار، في سياق مخطّط شيطانيّ جهنّميّ يعمل على تمزيق الأمّة العربيةّ وضرب آمال نهوضها مجدّدا. واتّفق ثلاثيّ الإرهاب الدّوليّ، بناء على ما نصّت تعليمات كبار المخطّطين، على اللّجوء للسّياسة الاستعماريّة القديمة " فرّق تسٌدْ ". ولتوفير أعلى حظوظ نجاح هذه الخطّة أقرّ هذا الثّالوث اعتماد الورقة الطّائفيّة حلاّ عزيزا يمكن من خلاله اختصار المجهودات والمدّة المتوجّبين لبلوغ غايات المخطّط الثّابت وهو معاودة تقسيم الوطن العربيّ أو إحداث سايكس بيكو 2 جديدة.
لماذا انتدبت إيران حصرا لهذه المهمّة؟ ولماذا التّعكّز على الورقة الطّائفيّة؟
إنّ الطّائفيّة مرض عضال ثبت تاريخيّا نجاح استخدامها في تقسيم أبناء الأمّة الواحدة أو الشّعب الواحد وضرب استقراره وإغراقه في دوّامة من الفوضى والصراعات الدّامية المفتوحة، ليسمح ذلك بإنجاح مخطّطات العداء والمتربّصين به. وفي الحقيقة، ينبغي ههنا التّشديد على نفي ودحض التّرويج الكاذب لطبيعة الطّائفيّة أو مجالات استخدامها حيث يتمّ الاقتصار عمدا على إلصاقها بالعرب وبالإسلام عموما، بينما تغصّ وقائع التّاريخ بالصّراعات الطّائفيّة الدّامية في الدّيانتين اليهوديّة والمسيحيّة.
يتمثّل خطر الطّائفيّة الأكبر في تغليب مصلحة الطّائفة على مصلحة الوطن أو الأمّة، لأن الطّائفيّ يدين بالولاء لغير شعبه ووطنه وأمّته، وينضبط بالتّالي لمصلحة من يلتقي معه في الانتماء الطّائفيّ حتّى ولو كان معاديا أو مهدّدا جدّيا لمصير شعبه ودولته، وإذ أنّ الامتداد الطّائفيّ انتماء غير مضبوط ولا محدّد من حيث المقياس الجغرافيّ الحدوديّ، فإنّ ذلك يؤدّي لتشابك الولاءات وتصارعها وبالتّالي تقاطع الاستحقاقات والمهمّات الحقيقيّة للفرد، وهو ما ينتج عليه في غالب الأحيان انغماس الطّائفيّين في أجندات كيانات وجهات ودول طائفيّة ضاربين عرض الحائط بكلّ مقاييس الانتماء الوطنيّ أو القوميّ ومهامّ التّعبير عنه وواجباتها. وتتعمّق فداحة الطّائفيّة وأخطارها حين تبلغ درجة الطّائفيّة السّياسيّة، فتوكل حينها مصائر ملايين البشر بيد من لا همّ لهم إلاّ ضمان منافع ومصالح طائفتهم السّياسيّة وإن تعارضت أو تصادمت كلّيّا أو جزئيّا بمصالح الرّعيّة والوطن.
وحين نتحدّث عن الطّائفيّة في الوطن العربيّ تحديدا، لا يمكن بحال من الأحوال استبعاد إيران الفارسيّة الصّفويّة الخمينيّة ذات النّزعة التّوسّعيّة الاستيطانيّة الشّعوبيّة المترعة أحقادا وضغائن وثارات وعنصريّة وشوفينيّة وغطرسة واستعلاء وعنصريّة، فالفرس منذ فجر التّاريخ الأوّل، يكيدون للعرب بل لا ينفكّون عن ربط مصالحهم القوميّة ومناعتها إلاّ بمدى ما يلحقونه من أضرار وخسائر بالعرب.
بل إنّ الفرس، تماما كما الصّهاينة، كانوا الضّالع الرّئيس في زرع بوادر الفتن الطّائفيّة الشّعوبيّة في الثّقافة العربية الإسلاميّة، وقسّموا المجتمع العربيّ الإسلاميّ على أسس مذهبيّة وطائفيّة ملغومة ومستحدثة باستغلال أحداث تاريخيّة معيّنة تعمّدوا تهويلها وأطنبوا في إلصاق الأكاذيب والشّعوذة والدّجل بها حتّى غدت في مثابة الحقائق المسلّم بها أو من البديهيّات الثّابتة التي لا يجوز مجرّد الاقتراب منها وتعرية طلاسمها.
وها هم اليوم، يعرضون خدماتهم على الأمريكان والصّهيونيّة العالميّة ويتعهّدون لهما بالمضيّ قدما على درب استكمال حرب الإبادة العرقيّة ضدّ العرب، مستغلّين التقاء ما يفيض عليهما من غيلة وبغض للعرب والإسلام العربيّ. وتماهت إذن المطامع القوميّة الفارسيّة بالأحلام الصّهيونيّة والمطامع الأمريكيّة والنّهم الامبرياليّ وتجمّعت على أرض العرب.
وإنّ ما تشنّه إيران من حملة وحشيّة عنصريّة جائرة وظالمة على بلاد العرب، وما تقترفه الميليشيّات التي درّبتها وانتدبتها وأنشأتها وغذّتها على الأحقاد الطّائفيّة من جرائم يندى لها جبين الإنسانيّة الحرّة في العراق خصوصا وفي الأحواز العربيّة ومن بعدهما في سوريّة واليمن فضلا عن التّحرّشات الجّديّة والخطيرة بالسّعوديّة والبحرين في انتظار دور بقيّة الأقطار العربيّة، إنّما يأتي في هذا السّياق التّآمريّ والحلف الشّيطانيّ بين أقطاب الإرهاب والجريمة الدّوليّة المنظّمة والمشكّل من الثّلاثيّ الأمريكيّ الصّهيونيّ الفارسيّ الصّفويّ.
فخير من يمتلك الوسائل وآليّات استخدام الورقة الطّائفيّة في الوطن العربيّ هم الفرس وذلك لأنّهم يحظون – وإن كان مردّ تلك الحظوة لبس ودسائس أفلح الشّعوبيّون الفرس في غرسه في الواقع العربيّ – بقبول نفسيّ عند العرب مقارنة بالصّهاينة والغرب الاستعماريّ ويستفيد الفرس من انتماء إيران لمنظّمة المؤتمر الإسلاميّ وتعريفها بالتّالي جزءا من العالم الإسلاميّ.
إلاّ أّنّه يتوجّب على جماهير الأمّة العربيّة اليوم خصوصا التّنبّه والاستفاقة استفاقة جدّية وطرد مثل هذه الأوهام، وعليهم أن يتبيّنوا خصوصا بعد سقوط القناع الفارسيّ الأصفر الرّديء وتأكّد ضلوع الفرس في كلّ ما يعصف بالوطن العربيّ من محن وويلات ودمار هائل وخراب واسع وتكشّف أطماعهم التّوسّعيّة الاستيطانيّة على حساب العرب، وأن يدركوا أنّ إيران تزجّ بهم في أتّون حرب طائفيّة طاحنة لتحقيق غايتين أساسيّتين:
1-إنجاح المخطّط الأمريكيّ الصّهيونيّ الامبرياليّ في الوطن العربيّ وتحقيق مشروع الشّرق الأوسط الجديد الذي عبّرت عنه الإدارة الأمريكيّة مطلع 2003 وبالتّالي معاودة تفتيت الوطن العربيّ لدويلات متناثرة واهنة ضعيفة وممزّقة على أسس طائفيّة ومذهبيّة، ما يسمح للأمريكان بالتّمتّع بثروات العرب بأقلّ تكلفة ممكنة فضلا عن إدامة أمن الكيان الصّهيونيّ.
2-الاستفادة قدر الإمكان من الالتقاء مع الأمريكان سواء كان مرحليّا أو بعيد المدى، والتّسريع في تحقيق مشروعها القوميّ العنصريّ والذي عبّرت عنه منظومة ولاية الفقيه المتخلّفة بإحياء الامبراطوريّة الفارسيّة وعاصمتها بغداد.
وعليه، فإنّ التّركيز الخبيث على تصوير الصّراع الدّائر رحاه في بلاد العرب بما يكتنفه من سوداويّة ودمويّة على انّه صراع طائفيّ، إنّما الهدف الأساسيّ منه إخفاء طابعه الحقيقيّ ذلك أنّ الحرب التي تشنّها إيران بالوكالة عن حلفائها الأمريكان والصّهاينة إنّما هي حرب قوميّة بامتياز.
فإيران تتخفّى خلف اختلاق وزرع الأوهام الطّائفيّة لتستفرد بالعرب كلّ على حدة وذلك بعض تخديرهم وضرب وعيهم القوميّ، لأنّ الفرس أوّل من يدرك أنّه متى استعاد العرب الوعي القوميّ وأيقنوا ما يوفّره لهم مشروعهم وملكاتهم القوميّة الخالصة من سبل للنّجاح، فإنّ قصم ظهر الفرس وغير الفرس مهمّة يسيرة وممكنة وقابلة للتّحقّق سريعا.
أنيس الهمّامي
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 03-11-2016