قد يتراءى للبعض أو للكثيرين على حدّ السّواء أنّ البعثيّين وغير البعثيّين من المتحمّسين لحزب البعث من أبناء الأمّة العربيّة يبالغون في التّفاعل مع ما يصدر عن هذه الجهة أو تلك من نقد أو رصد لسياسات حزب البعث أو مواقفه، وأنّ البعث شأنه كشأن غيره من الأحزاب أو المدارس أو حتّى التّجارب المقاومة لا يمكنه أن يظلّ فوق النّقد أو أن يحرّم مناضلوه على الآخرين تقييم مسيرته أو إبداء ملاحظات بشأنه قد تختلف في طبيعتها أو حتّى في أبعادها.
وبغطاء النّقد، وبدعوى التّفاعل، يتسلّل الدّسّاسّون ويعمدون للتّلفيق والتّزييف والتّزوير، ويتقصّدون وضع القراءات المبتورة والمشوّهة بأكثر من أسلوب وبأزيد من طريقة. فتجدهم يستعرضون أحداثا من هنا وهناك ويسقطونها على الواقع العراقيّ وعلى واقع حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ في أكبر عمليّات التّحيّل على السّواد الأعظم من المتابعين ويستغلوّن تواضع قدرتهم على التّحليل وافتقارهم للإمساك بالتّاريخ إمساكا كفيلا بكشفهم لتحيّل المتحيّلين فضلا عن تداخل المشهد العربيّ عموما والعراقيّ خصوصا وتشابكه وتسارعه وسوداويّته ودمويّة الأحداث التي لا ينقطع انهمارها،
ويتوّخى المتحيّلون الماكرون المغرضون ما يرقى للتّنويم أو التّخدير لمزيد تخريب البنية النّفسيّة عند الجماهير العربيّة، ولا يتورّعون في مزيد ضربها أو تهرئتها بالتّركيز العالي على ضخّ ما يعمّق من آثار الحملات الهوجاء التي تشنّها ولا تزال ضدّها المنابر الإعلاميّة العالميّة الصّهيونيّة والغربيّة والإيرانيّة الفارسيّة.
وإنّنا إذ نتصدّى لكلّ إساءة مغرضة لحزب البعث وخاصّة في هذه الظّروف الحسّاسة التي تمرّ بها أمّتنا العربيّة سواء من خلال تنامي الأطماع الخارجيّة التّوسّعيّة بقيادة أبرز أعدائها وذلك بحضورهم العسكريّ وسلسلة جرائمهم الوحشيّة بحقّ العرب أو في سياق تردّي الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة لجماهير أمّتنا في الأقطار الآمنة نسبيّا من حيث استقرارها السّياسيّ الهشّ، فإنّنا لا نروم كما يسوّق أصحاب السّوء ضرب النّقد وتجريمه، بل نسعى من خلال ردودنا لكشف أكاذيب الكذّابين وتلفيقات الملفّقين وتعرية تآمر المتآمرين من جهة، وتوضيح الحقائق كلّ الحقائق جليّة ناصعة أمام الجماهير من جهة أخرى.
فليس صحيحا أبدا أنّنا ندّعي الطّهر والنّقاء والعصمة، وليس صحيحا أنّنا نتعامل مع المتفاعلين مع الحزب وفعله تفاعلا عدائيّا مجانيّا أو بحديّة سليلة حساسيّة مفرطة أو غيرها، ولكنّنا ندرك وبمنتهى الموضوعيّة كثيرا ممّا لا يدركه المتهجّمون المعادون أو المنخرطون وعيا وإدراكا في حملات مدروسة واضحة ممنهجة لتشويه الحزب والتّشويش عليه ومحاولة التّقليص من مدى نجاحاته البيّنة والتي لا ينكرها عاقلان موضوعيّان.
لا غرو في القول إنّ ما تعرّض له العراق ومن خلاله حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ باعتباره الحزب الحاكم في مطلع القرن الحادي والعشرين وفي العقود الثّلاثة الأخيرة من القرن العشرين من استهداف كونيّ جائر لا سابق له ولا نظير في التّاريخ كلّه، ولا فائدة في التّذكير بفصول المؤامرة عليهما وتعدادها وتعقّب تسلسلها وطرائق تكشّفها، ويكفي الإشارة برقيّا إلى أنّ مخططّات غزو العراق وضرب التّجربة النّهضويّة القوميّة التّحرّريّة التي مثّل حزب البعث وعاءها المتقدّم ومهندسها المتسلّح بكلّ شروط تغيير الواقع العربيّ الرّديئ والارتقاء بالإنسان العربيّ وبنائه بناء كاملا ومتكاملا هي مخطّطات قديمة وضعتها الامبرياليّة الأمريكيّة ومن معها من حلفائها التّقليديّين والمستحدثين، وأنّها – أي تلك المخطّطات – التزمت بنسف اكتمال نحت مسيرة أجمع كبار الاستراتيجيّين والخبراء في العالم على كونها تجربة تثير الإعجاب حقّا وتنبئ بتحوّل نوعيّ في جزء حسّاس من العالم، وهو الأمر الذي يتعارض تعارضا قويّا مع تعليمات وتوصيات المؤتمرات الاستعماريّة الاستراتيجيّة والصّهيونيّة سيّما مؤتمر هنري كامبل بنرمان ومؤتمر بازل وما تلاهما من سايكس بيكو وسان ريمو دون نسيان وعد بلفور المشؤوم.
فلم يحدث في التّاريخ كلّه أن تجمّعت حشود أكبر القوى العسكريّة في العالم ليبلغ عدد أضلاعها المعلنة رسميّا 32 ضلعا بالتّمام والكمال، واستعانت بمخزون فتّاك ومدمّر من آخر مبتكرات أسلحتها، ناهيك عن الجهات الدّاعمة بالمال والخبرات والضخّ الإعلاميّ المهول، لتواجه دولة لوحدها كالعراق لا يزيد عدد سكّانها عن 25 مليونا من البشر على رقعة جغرافيّة محدودة، ولتخصّها بحرب لا أخلاقيّة وغير متكافئة ومختلّة اختلالا مفزعا من حيث موازين القوى والقدرات، كما لم يشهد التّاريخ مثيلا للحصار الجائر الكونيّ على العراق الذي حرم أطفاله حتّى من مستلزمات الحياة الضّروريّة من حليب وأدوية ومستلزمات دراسيّة بسيطة واستمرّ ذلك الحصار لما يقارب 13 عاما تفنّنت فيه القوى المتغطرسة في تجويع الشّعب العراقيّ والثّأر منه وبتسليط شتّى أصناف الامتهان والحقد لحمله على الثّروة على نظام الحكم فيه بقيادة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، ولا ينبغي في هذا الإطار عزل ما تعرّض له العراق عمّا تعرّض له حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ أو الفصل بينهما، فالمستهدف من تلك السّلسة المفتوحة من استهداف العراق هي تلك التّجربة التي اتّضحت معالمها وعبّرت عن نفسها في العراق بفضل سياسات حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ ورجالاته وقياديّيه ومناضليه، والمستهدف حتما هو ذلك المشروع المتشبّث ببعث الرّوح في أمّة العرب من جديد وتهيئة كلّ المستلزمات لتعانق نهضتها مرّة أخرى وتتبوّأ مكانتها الطّبيعيّة بين الأمم الأخرى وتدلي بدلوها أيضا في المجهود الإنسانيّ الكونيّ.
ولم يحدث في التّاريخ كلّه أن تعرّضت دولة أو نظام أو حزب لما تعرّض له العراق ونظامه وحزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، وليس بوسع أحد في العالم أن يفنّد هذه الحقيقة أو أن ينكرها أو يقلّل من آثارها واستتباعاتها فيما بعد.
وعليه، فإنّنا حين ندعو الآخر، أيّا كان هذا الآخر، وأيّا كانت خلفيّته أو صفته أو لغته أو دينه أو جنسيّته، للتّحلّي بأكثر ما يمكن من الموضوعيّة لا الإنصاف، حين يركب تناول مسألة البعث وإطلاق إمّا الأحكام أو التّقييمات سواء لمسيرة حزب البعث منذ تأسيسه أو مسيرته خلال العدوان أو الغزو أو المقاومة، وسواء كان التّناول أيضا تناولا للحزب القوميّ أو لفروعه في الأقطار أو حتّى في التّفاعل مع أحد أعضائه أكان قياديّا أم مناضلا أم متعاطفا بسيطا.
إنّ ما لا يٌدرك كلّه لا يٌترك جلّه، وعليه فإنّ تناول البعث وإطلاق الأحكام بشأنه مسألة ليست أبدا بالهيّنة في هذه الظّروف. لأنّ البعث وكما بيّنّا ليس ذلك الحزب العاديّ الذي قد يستساغ بالتّالي التّعرّض له من كلّ من هبّ ودبّ.
لقد خصّت الدّوائر المعادية للأمّة العربيّة، كلّ الدّوائر بلا استثناء حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ بأشنع حملة تشويه على الإطلاق، والتقى فيها الصّهيونيّ بالأمريكيّ وبالامبرياليّ وبالإيرانيّ الفارسيّ وبالأعراب الرّجعيّين وبغيرهم، وكان التقاء تلك الجهات مرتكزا على بغض شديد للبعث لأنّه يمثّل ببساطة شديدة سنام المشروع القوميّ العربيّ التّحرّريّ ولأنّه يحمل في خطّه النّضاليّ العامّ وفكره وتشخيصه العلميّ والموضوعيّ لواقع الأمّة وما سنّه على ضوء ذلك، مختلف الحلول النّاجعة والحاسمة لتخليص جماهيرها من هذا الواقع المرضيّ المتخلّف القاتم، بل إنّ كلّ تلك الفيالق المعادية إنّما تتشبّث بتشويه البعث وتبشيعه فقط لتنفير أبناء الأمّة منه ومن طرحه العبقريّ والعمليّ القادر على حملهم للضّفّة المقابلة حيث يستردّون كرامتهم المهدورة ويستعيدون أراضيهم المستباحة ويسيطرون على ثرواتهم المنهوبة.
وإنّ الإصرار على التّهجّم على البعث ليلا نهارا وبلا انقطاع، يحمل في طيّاته اعترافا صريحا ومباشرا بريادة هذا الحزب وبخطورة مشروعه من حيث أنّه يظلّ الخيمة الوحيدة التي تقدر على لجم أطماع الأعداء وكفّ المترصّدين بالعرب شرّا عن جرائمهم.
وإلاّ فلماذا البعث تحديدا، ظلّ الجهة الوحيدة التي يناصبها فريق الأعداء والمتآمرين على العرب العداء المفتوح والمتصاعد دوما؟ ففي الوطن العربيّ مثلا تتنوّع التّنظيمات السّياسيّة وتتوزّع بين القوميّ والوطنيّ واليساريّ الأمميّ والإسلاميّ المعتدل أو المتطرّف حسبما تقدّره أهواء المصنّفين، وتتواجد مئات التّنظيمات اللّيبراليّة والعقائديّة، ولكنّها تبقى خارج دائرة الاستهداف أو الملاحقة.
ليس بوسع أحد في العالم أن ينكر حقيقة الأخطار التي أفردت بها قوى الشّرّ والإرهاب وأقطاب الجريمة الدّوليّة المنظّمة حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ والتي رافقتها الملاحقات المتواصلة والمفتوحة والتّتبّعات المقنّنة والمستندة لجملة قوانين أقلّ ما يقال فيها وعنها إنّها قوانين مستحدثة وعنصريّة إقصائيّة إلغائيّة تتنافى مع أبسط ما يتشدّق به أصحابها من حقوقيّة واحترام للحرّيات وغير ذلك من الشّعارات الخدّاعة الفضفاضة.
لماذا إذن في ظلّ كلّ هذه الحقائق، يصرّ المتساقطون السّاقطون من أبناء هذه الأمّة على استهداف حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ ويستميتون في شيطنته وفي الإساءة المغرضة المتعمّدة إليه؟
ولماذا لا نتحرّج من توصيف هكذا أفعال بأنّها إجراميّة وخيانيّة ولا أخلاقيّة؟
إنّ حزب البعث بالنّظر لما يتعرّض له من حرب شنيعة فتحتها عليه إدارات الشّرّ والإرهاب العالميّة بقيادة ثالوث الحقد والعنصريّة والغطرسة وهم الأمريكان والصّهاينة والفرس، وبالنّظر كذلك لمستوى الالتزام الاستثنائيّ والحرفيّة العالية التي أبداها في التّصدّي لهذه الحرب وقدّم في سبيل ردّها ما لم يقدّمه حزب غيره في العالم وفي التّاريخ البشريّ، وهو الحزب الذي لم تكتف الامبرياليّة الأمريكيّة وحليفاها بإسقاط نظام حكمه خارج كلّ المواثيق والأعراف الدّوليّة وضدّ كلّ فصول القانون الدّوليّ، بل سّلطت عليه دوائر الغزو والعدوان سلسلة متعاقبة من القوانين المتخلّفة والجائرة لتمعن في إيذائه وحصاره ومطاردته.
إنّ أوّل القوانين التي سّلطت سيف عذاب على رقاب البعثيّين هو قانون الاجتثاث الذي اتّخذه المجرم بول بريمر الحاكم المدنيّ للعراق بعد غزوه، وهو القانون الذي ينضح عنوانه بكلّ مظاهر العدوانيّة والصّلف والبطش والإجرام، فضلا عن بنوده التي أكّدت على ملاحقة البعثيّين ومطاردتهم وأجازت تصفيتهم دونما مبرّر إذ كان كافيا عبر ذلك القانون أن توجّه التّهمة لأيّ شخص بأنّه بعثيّ فيبيح ذلك قتله بمنتهى البرود ودونما مراعاة لأبسط حقوقه كإنسان في ظلّ عالم يدّعي أنّه يسعى لتبنّي حقوق الإنسان قيمة مطلقة ومميّزة له، وارتكبت بحقّ البعثيّين استنادا على هذا القانون تجاوزات وانتهاكات شاملة تنوّعت بين الطّرد والحرمان من الوظيفة ومصادرة الملاك والأموال زيادة على التهجير والمطاردة والملاحقة الدّائمة.
لقد نتج عن قانون الاجتثاث مئات آلاف الشّهداء من البعثيّين ليبلغ رقم شهداء الحزب 170000 عضو عامل تتقدّمهم قيادة الحزب ممثّلة في الرّئيس العراقيّ صدّام حسين وكوبة من رفاقه، كما أدّى لأسر مئات آلاف البعثيّين دونما جرم مرتكب سوى أنّهم عارضوا مشاريع الامبرياليّة وأحلامها التّوسّعيّة وآلوا على أنفسهم مقارعة الغزو والتّضحية بكلّ ملذّات الدّنيا في سبيل مناعة الأمّة وعزّة جماهيرها.
ورغم ما لحق بالبعثيّين من مآسي ومظالم ستظلّ وصمة عار تلطّخ جبين الإنسانيّة دوما، ورغم سيول الإجحاف والحيف والقهر الذي مورس ضدّهم، فإنّ كلّ ذلك لم يشفع للبعثيّين عند فريق واسع من أبناء الأمّة العربيّة ولم يحل دون أن يوجّهوا لهم رصاص الغدر والحقار فوق رصاص الأعداء. فلقد خذل طيف مهمّ من النّخب العربيّة – أو هكذا تقدّم نفسها – البعثيّين وتنكّروا لأبسط استحقاقات النّضال من جهة، ولكلّ مخزون التّآزر والإيثار وفضائل العرب الأخرى من نصرة المظلومين وغوث المستضعفين والتّداعي للمحتاجين.
وإنّ أخطر ما في خذلانهم ذاك أنّه خذلان مركّب ومتعدّد الأبعاد، حيث يعكس هذا الخذلان حقيقة تواضع إمكانيّات هؤلاء الثّقافيّة وقصور قراءاتهم بل ويعرّي شاشة منطلقات تلك النّخب سواء المنطلقات الفكريّة أو الفلسفيّة ناهيك عن جهلهم وعجزهم عن التّفاعل مع المتغيّرات وافتقارهم خصوصا لملكات المبادرة والفطنة والتّيقّظ ما يسقط عنهم السّمة الثّوريّة، وينطوي في أوجهه الأخرى على حقيقة أخرى هي أشدّ بشاعة وقتامة من حقيقة ترنّحهم وتشدّقهم بما لا يملكون، إذ كان سيهون فعلهم الخسيس ذاك لو انبنى حصرا على تشخيص مهزوز هنا أو سوء تقدير من هناك رغم أنّ مسألة مظلمة العراق لا تحتمل مثل هذه التّبريرات، لتفيق الجماهير العربية على تكشّف معالم تبعيّة هؤلاء لمختلف الأعداء والفاعلين الرّئيسيّين في تذبيح العروبة تذبيحا منهجيّا وتدريجيّا.
قد يتحجّج علينا ناصريّو الصّدف ومن ركب ركابهم، بأنّ التّخوين ليس سوى ردّة فعل متسرّعة أو بحكم ما نكابده من آلام وما يشاقّنا من عناء بفعل الحصار. ولكن ليس من أمر أسهل من تفنيد هذا الزّعم المخاوز.
إذ ما الذي يبرّر أو يفسّر تواتر إساءات هؤلاء المتساقطين لحزب البعث العربيّ الاشتراكيّ وتشهيرهم المتواصل بمقاومته وخياراته وتكتيكاتها بل وإنكارها من الأساس.
إنّ الجرم الذي أتاه المدعوّ محسن النّابتي الصّغير، وهو جرم غير منفصل عن غيره ولا مقطوع في بيئة ناصريّي الصّدف، يرقى لمرتبة الخيانة العظمى، وينسحب على كلّ من صدر عنه مثل فعله الجبان الغادر اللّئيم.
وإنّ الجرم الأكبر هو أن يردّد هؤلاء المتهافتون واللاّهثون وراء سراب مجد هو للهوان أقرب، كلّ روايات الفرس والأمريكان والصّهاينة، وأن يجترّوا فصول السّياسة الإعلاميّة والحرب النّفسيّة الهائلة على حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ، وينخرطوا في تشويهه وشيطنته وتبشيعه. ويتعدّى هذا الجرم كلّ حدود المسموح ليبلغ مرتبة سكوتهم وإنكارهم لقانون الاجتثاث الأسود.
ليس إنكار الاجتثاث بمعانيه ودلالاته وما يلفّه من غايات استراتيجيّة لمشرّعيه، إلاّ إباحة له ومباركة وتماهيا معه، وإلاّ كيف يستوي الصّمت الطّويل من هؤلاء على جريمة قانون الاجتثاث وما تفرّع عنه من مآسي؟؟
وهل بلغ الجهل بأصحابه مثل هذه المبالغ المروّعة؟
إنّ الأرقام وحدها كفيلة بتبيان حجم الدّمار الذي لحق بالعراق وبحزب البعث العربيّ الاشتراكيّ من جرّاء قانون الاجتثاث، ففي العراق اليوم تتحدّث التّقارير الدّوليّة بكافّة عناوينها عن سبعة ملايين شهيد عراقيّ وعشر ملايين ما بين مهجّر ومنفيّ ونازح، كما تعرض تلك التّقارير مساحات هائلة من الأراضي العراقيّة تمّ تجريفها وتغيير معالمها تغييرا كلّيّا ومصادرتها في تهيئة سافرة لمشروع التّغيير الدّيمغرافيّ الواسع الذي تشرف عليه إيران وميليشّياتها وأذرعها الطّائفيّة المنتشرة في العراق بالطّول وبالعرض. إلاّ أنّ هذه الأرقام المفزعة لم تحل دون تواصل صمت هؤلاء الأعراب بل ودون ركوب التّنطّع سلوكا محدّدا في كلّ القراءة للمشهد العراقيّ.
وبعيدا عن أيّ تجنّي قد يلوذ به أمثال النّابتي هذا وأسياده المجرمين ومريدوه الصّغار، فإنّ هؤلاء الأدعياء صمتوا كصمتهم عن الاجتثاث وما نتج عنه، عن كلّ القوانين التي تلته. فإن كان الاجتثاث قانونا اختصّ به الغزاة الأمريكان، فإنّ وكلاءهم الإيرانيّين استنسخوا قوانين عديدة عنه، وكان قانون حظر البعث وقانون المساءلة وغيرهما من أبشع القوانين التي استهدفت البعثيّين. وعليه فإنّ صمتهم عن الاجتثاث في أصله الأمريكيّ هو في الواقع مقدّمة لصمتهم عن نسخه الإيرانيّة الفارسيّة، وهو بالتّالي صمت ممنهج ومقنّن عن استهداف البعث ومناضليه وكوادره وانصاره وقيادته ومقاومته الباسلة وتقويض لمشروعها الثّوريّ القوميّ التّحرّريّ الإنسانيّ.
وبعيدا عن الأرقام، رغم أهميّتها البالغة في تعداد جرائم الغزاة الأمريكان والإيرانيّين الفرس وتعكّزهم على منظومة قانونيّة بائسة ومتخلّفة تنوّعت بين الاجتثاث والحظر وما بينهما، فإنّ الاجتثاث هو أبعد خطرا من كلّ مظاهره وأشدّ مأساويّة في مراميه الحقيقيّة.
فالاجتثاث لم يخصّ البعثيّين عبثا، ولم يستهدفهم لأنّهم مجرّد خصوم في إطار صراع على النّفوذ والبرامج وغيرها. فالاجتثاث عقيدة متأصّلة في الفكر الغربيّ والامبرياليّ الاستعماريّ، وهي عقليّة نتجت عن التّصادم العنيف بين القوى الاستعماريّة الغاشمة وبين جماهير الأمّة العربيّة إبّان الحملات العسكريّة الاستعماريّة التي استهدفت العرب.
ولمّا جابه العرب المستعمرين بضراوة واستبسال شديدين، ولمّا اختلف منسوب المقاومة العربيّة عن غيره من المقاومات في بقيّة المستعمرات، انتبه دهاقنة الاستعمار للمحرّكات والمولّدات الحقيقيّة لهذا الزّخم العربيّ المقاوم، حيث لم يختلف أداء المقاومة في فلسطين عنه في تونس ولا مستوى الصّد الملحميّ في الجزائر عنه في سوريّة، ولم يتقاعس اللّيبيّون مثلا في مواجهة الطّليان ومثلهم فعل اليمنيّون والمصريّون والعراقيّون ولا حتّى الأحوازيّون. وأجمع الاستراتيجيّون في العالم الاستعماريّ على أنّ هذا الزّخم العربيّ المقاوم المختلف عن غيره من حيث الشّكل والمضامين ومن حيث الأداء خصوصا، لا يمكن أن يكون اعتباطيّا أو محصورا في دائرة ردّة الفعل الآنيّة والمتشنّجة. ورأى هؤلاء الاستراتيجيّون أنّ مشروع المقاومة العربيّة هو مشروع متأصّل وثابت ثبوتا متينا وصلبا في العقل العربيّ وفي الضّمير العربيّ الجمعيّ، وأرجعوا ذلك لعاملين اثنين تمّ توصيفهما على أنّهما بالغا الخطورة والأهميّة، وقدّموا ذانيك العاملين وحصروهما في المخزون الفكريّ والحضاريّ والرّصيد القيميّ والأخلاقيّ الذي يزخر به الموروث العربيّمن جهة، وفي الدّين الإسلاميّ خصوصا باعتباره دينا ثوريّا هاديا لمكارم الأخلاق مشدّدا على ضمان حقوق النّاس والأمم والشّعوب محرّضا على الدّفاع على حرمة الأوطان والذّود عن الحياض والتّضحية في سبيل عزّتها وسيادتها بالنّفس والنّفيس فضلا عن بقيّة تعاليمه السّمحاء الأخرى.
ولقد أوصى الاستراتيجيّون الغربيّون الاستعماريّون بضرورة ضرب هذين العاملين وخلختهما وتنفير العرب منهما لأنّ تلك المهمّة كفيلة بإنجاح المخطّط الاستعماريّ القائم على وجوب إدامة تشظية العرب وانقسامهم لشفط خيراتهم وهي العمود الفقريّ في مستلزمات الحياة في الغرب.
وعليه، فإنّ الاجتثاث لم يكن أكثر من تنفيذ لوصايا أولئك الخبراء، وهو يهدف رأسا لاجتثاث العرب وإعدام العروبة ومن ثمّ اجتثاث الإسلام الذي قال عنه تيودور هرزل وبقيّة أركان العصابة الصّهيونيّة العالميّة إنّه يتوّجّب حتما الحيلولة دون إظهار الإسلام الحقيقيّ بمعانيه وتعاليمه وهديه الإنسانيّ الرّساليّ.
ولمّا كان البعثيّون أعلى الطّلائع العربيّة إدراكا بهذه الحقائق، وأشدّها فهما لها، وأكثرها تشبّثا بالعقيدة القوميّة العربيّة الثّوريّة الأصيلة، وأبعدها التصاقا بحقيقة الإسلام الثّوريّ، ولمّا كان البعثيّون أكثر النخب العربيّة قرنا ومزجا بين الفهم والنّظريّة والسّلوك والممارسة، فلقد كانوا قبلة الاجتثاث الأمريكيّ الامبراليّ الصّهيونيّ، ومن بعد قبلة الحظر والملاحقة والمساءلة الإيرانيّة الفارسيّة الصّفويّة.
فكيف يسقط المعادون للبعث على أسس واهية وأحقاد كريهة غير مبرّرة مثل هذه الحقائق؟ وكيف إذا عالجناهم بها واصلوا الهروب للأمام وأنكروا علينا تنبيههم ولفت نظرهم؟
وكيف بعدئذ يواصلون تشويههم للبعث واعتداءاتهم البائسة عليه وعلى قيادته المجاهدة المقاومة وعلى مناضليه ورجالاته وفكره وملاحمه وعطائه الطّويل.؟
صفوة القول إنّ الظّروف العصيبة والدّقيقة التي تعصف بالأمّة العربيّة وتنامي الأطماع الخارجيّة وخاصّة تصاعد النّزعة التّوسّعيّة الاستيطانيّة الشّعوبيّة العنصريّة الإيرانيّة الفارسيّة الصّفويّة، وحملات التّدمير والتّخريب الممنهجة والمترعة حقدا وبغضا وكراهيّة للعرب والعروبة والإسلام، وإنّ جرائم الفرس التي بلغت ذروتها بتكشّف مطامحهم في ابتلاع الوطن العربيّ كاملا وعبر انتهاجهم لسياسة التّغير الدّيموغرافيّ وطمس عروبة العراق وغيره من الأقطار العربيّة الأخرى، وإنّ الجرائم المروّعة التي ارتكبت ولا تزال ترتكب بحقّ حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ مرّة بالاجتثاث ومرّة بالمساءلة ومرّة بالحظر، كلّها أسباب تجعل من الذين يصرّون على النّيل من البعث والافتراء عليه وتدليس الحقائق وتزوير الوقائع مجرّد خدم للمشروع الفارسيّ الإيرانيّ وتحصرهم في دائرة العملاء والأقزام والذين يحرّم التّعامل معهم إلاّ من باب ضربهم وقطع دابرهم ودابر ما يدسّونه من فتن يتفنّون خائبين فاشلين في إخفائها بأكثر من أسلوب، وهو ما يحتّم علينا كشف كذبهم وعمالتهم وفضح حقائقهم المخزية من جهة، والاستمرار بمشروع المقاومة وفعلها لأنّه الضّمانة الرّئيسيّة والوحيدة لإجهاض مخطّطات الأعداء.
العزّ والفخار للمقاومين الأصلاء الشّعان الثّابتين..
الخزي والعار للمتأمركين المتصهينين المتفرّسين المأجورين.
عاش حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ.
ولرسالة أمّتنا الخلود.
- انتهى -
أنيس الهمّامي
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 24-10-2016