هل يحتاج إسقاط الديكتاتورية إلى دفع هذا الثمن الباهظ؟
في 10/ 11/2016 حسن خليل غريب
تُنسينا حروب الدائرة الجهنمية، الملتهبة على مساحات وطننا العربي، الأهداف من وراء اشتعالها. ونتلهى بما نراه ونشاهده من مظاهر وأحداث خبرية لا علاقة لها بما هو مخفي من تلك الأهداف. وما هو مخفي لا يهمه من سينتصر فيها أو من سينهزم، في الوقت الذي نتسابق فيه نحن على التلهي بنتائج هذا الحدث الجزئي أو ذاك. والأكثر صدماً لأفهامنا أن نبني آمالاً وأحلاماً على نتائج الانتصار في هذه المدينة العربية أو تلك. وأما بناء تلك الأحلام فقد نعتبره انتصاراً لمن نسميهم (ثواراً)، وانكساراً لما نعتبرها (أنظمة ديكتاتورية)، والعكس صحيح أيضاً.
ليست الأهداف الخفية، للقوى التي تسهم في تأجيج نيران تلك الحروب، هي في انتصار النظام الديكتاتوري أو انتصار من أغدقنا عليهم صفة (الثوار). بل إن الهدف الأساسي، من بين كل تلك المقاصد، هو أن ينتصر مشعلوها على حساب (النظام الديكتاتوري) وعلى حساب (الثوار) معاً. ومشعلو الحروب هم الذين يؤججون النيران حتى يحرقوا أخضر الديكتاتورية ويباس (الثوار) في آنٍ واحد. وإن أمرَّ من هذه الحقيقة هو أننا ننتصر لهذا الطرف أو ذاك، أو ننتظر انتصار من تنحاز عواطفنا إلى جانبه لنبني على انتصاره الآمال والأماني. ولكن للأسف سوف تجري سفن الحروب صوب موانئ القبطان الذي يقودها، وليس صوب من يشكلون الوقود لتشغيل محركاتها.
هذا الواقع المؤلم، ليس في الذي يغذي نيران الحروب، بل المؤلم في أننا ننساق وراء الحدث وننسى من يقف وراءه، أو نجهل من يغذي نيرانها. وإن معرفة من يقف وراء الحدث هو الأهم، وأما الحدث ففيه الكثير من التضليل والخداع، فإعلام أعداء الأمة يعدنا بالخير الوفير، في الوقت الذي يهيئ لنا الخوازيق. فرحمة بنا، ورحمة بأعصابنا، ورحمة بعقولنا، دعونا نفكر بهدوء وروية. بل دعونا نترفع فوق العواطف والأهواء، ونسمو إلى لغة العقل والتحليل الموضوعي.
وأما التحليل الموضوعي لأسباب تلك الحروب، ومآل نتائجها، فيقتضي أن نتخلى عن عواطفنا أولاً، وننظر بعين مجرَّدة، وأن نتساءل: هل فعلاً قام أعداء الأمة العربية، وما زالوا يقيمون الدنيا ولا يقعدونها من أجل إسقاط الديكتاتورية، وإحلال الديموقراطية؟ وهل فعلاً من نسميهم ثواراً هم ثوار بالفعل يعتمدون مكاييل الثورة، ويسترشدون ببرامجها، وخططها، واستراتيجيتها، وتكتيكاتها؟
إن العامل العاطفي الوحيد، الذي يثير الغضب، يجب أن ينصبَّ فقط على ما نراه من آلام ومآسي ونكبات تُلمُّ بالأمة العربية وأبنائها. ولنعيد السؤال بعد ذلك، هل أسباب تلك الحروب المدمِّرة التي تجري منذ سنوات عديدة هو صراع بين (الأنظمة الديكتاتورية) و(الثوار)؟
أيها الناس هل من المعقول والمسموح لثائر يعي معنى الثورة أن يعمل أو يساهم أو حتى يسكت عن تدمير دولة بكاملها، وأن يقتلع شعباً كاملاً من أرضه؟ هل من المسموح له أن يُدفِّع وطنه كل هذا الثمن من أجل إسقاط ديكتاتورية فرد واحد؟ أو مجموعة من الديكتاتوريات المحيطة بالديكتاتور (الملك)؟
أبدأ كلامي، ولكي لا يقوم بتشويهه حاقد أو مأفون أو مزايد، لأوضح بأن مواجهة الاحتلال هي مهمة الثوار، وهم وحدهم الذين يستأهلون أن نسميهم ثواراً. وليس الثوار هم من يسهمون بتهديم دولة ووطن، وهم يعرفون أو يجهلون أنهم سيجعلونه لقمة سائغة أمام كل محتل أو معتد أثيم. فعلى من يقرأ أن يضع نصب عينيه أن التمييز مسألة ضرورية بين من يعمل على تحرير وطنه من الاحتلال، وبين من يدمر دولته ووطنه ليجعلوه ضعيفاً أمام شهوات المحتلين. ولذا أعيد طرح السؤال الذي يوحيه عليَّ الضمير الثوري العربي، وعلى المخلصين من أبناء هذه الأمة لأتساءل:
هل يحتاج إسقاط الديكتاتورية إلى دفع هذا الثمن الباهظ؟
على الرغم من شرعيته بمقاييس مبادئ الأحزاب والحركات الجماهيرية الثورية، ارتبط شعار (إسقاط الديكتاتورية) بمرحلة احتلال العراق، وهو شعار مشبوه. حينذاك اعتبره اليمين الأميركي الرأسمالي المتصهين، أحد الأهداف التي أطلقها كأحد الذرائع الأساسية في إسقاط النظام الوطني في العراق. ووعد اليمين الأميركي العراقيين بإحلال الديموقراطية. وماذا كانت النتيجة؟ وعلى القارئ أن يعيد قراءة ما حصل في العراق منذ احتلاله. فماذا يرى؟
بعد الاحتلال الأميركي، وكَّلت الإدارة الأميركية لحكم العراق زمرة من الخونة الذين مارسوا أساليب أكثر الأنظمة ديكتاتورية في العالم، ووكَّل النظام الإيراني الأكثر ديكتاتورية بين أنظمة العالم الرسمية بحراسة عملائه الذين سلَّمهم حكم العراق. وتحولَّت الديموقراطية المزعومة، في ظل حكم الخونة المحميين من النظام الإيراني، إلى أبشع صور الديكتاتورية وأكثرها وحشية، وهذا ما يعزِّز حقيقة أساسية أن أهداف احتلال العراق لم تكن في إسقاط الديكتاتورية وإحلال الديموقراطية. وإذا افترضنا أن أكاذيب اليمين الأميركي كانت صادقة، فنتساءل: ماذا جنى العراقيون من عمالة (ثوار المخابرات الأميركية ومخابرات النظام الإيراني) الذين زعموا أنهم أسقطوا (الديكتاتورية) في العراق ليأتوا للعراقيين بالديموقراطية؟ هل جنى العراقيون غير الويلات والآلام على شتى أشكالها وألوانها، وهي أكثر من أن تُحصى؟
ولأن الشعار نفسه رفعه (الثوار) في تونس ومصر كذلك، وأسقطوا النظامين الديكتاتوريين فيهما، فهل حلَّت نعم الديموقراطية فيهما؟
إننا مع الإشارة إلى أن (الثوار) فيهما لم يُلحقا الأذى الكبير في بنى الدولتين، إلاَّ أن النتيجة لم تتجاوز إحلال ديكتاتور بـ(ديكتاتور آخر)، عندما آل نظام الحكم فيهما إلى تنظيمات الإخوان المسلمين ليطبقا ديكتاتورية الإسلام السياسي. ولما سقط حكم الإخوان المسلمين بسبب من البدء بتطبيق أنموذجهما بـ(الديكتاورية الدينية)، آل الحكم إلى من راح يطبِّق أنموذجه (الديكتاتوري المدني) بما لا يبتعد كثيراً عن أنموذج ديكتاتورية بن علي، ومبارك.
وأما عن ليبيا، فحدِّث ولا حرج، فقد أسقط حلف الناتو ديكتاتورية القذافي بـ(ديكتاتورية القصف الجوي)، ومن بعد إسقاطه أغرقوا ليبيا بـ(ديكتاتورية الفوضى) وديكتاتورية (حكم الميليشيات). ولنتساءل الآن، بعد مرور ما يقارب السنوات الست: ماذا بقي من وعود بإحلال الديموقراطية في ظل الوضع الراهن السائب في ليبيا؟ والسؤال الأكثر مرارة هو: هل كان ثمن إسقاط ديكتاتورية القذافي يوازي جزءاً يسيراً مما دفعته ليبيا، دولة وشعباً، بعد ست سنوات من المآسي؟ هذا ناهيك عن أن حبل الآلام مستمر على جرار الاقتتال الداخلي لسنوات أخرى طويلة؟
والكلام عن علي عبد الله صالح، ديكتاتور اليمن، فقد سقط الديكتاتور بأقل الأثمان، ولكن حلَّ مكان ديكتاتوريته صراع لن ينتهي، جلب معه حتى الآن أكبر الويلات على دولة اليمن وشعبها من جهة، وربط القضية اليمنية بمحور إقليمي إيراني أشد ديكتاتورية دينية في تاريخ اليمن من جهة أخرى. فماذا استفادت اليمن من شعار (إسقاط الديكتاتورية)؟
وأما عن سورية، فالكلام أكثر حراجة من الكلام عن الأقطار العربية الأخرى. ويعود السبب إلى تعقيدات الساحة السورية. فعليها تلاقت أطماع قوى دولية متناقضة المصالح، ودول إقليمية متناقضة الأيديولوجيات والمصالح معاً. وعلى أرضها تلاقت أكثر التحالفات شذوذاً في التاريخ، ولعلَّ أكثرها ظهوراً هو تناقض المصالح الأميركية – الإيرانية هنا في سورية، وتطابق المصالح الأميركية – الإيرانية هناك في العراق. هذا بالإضافة إلى تطابق المصالح الروسية – الإيرانية هنا في سورية، وتناقضها مع الأميركيين حلفاء النظام الإيراني في العراق. والأكثر لفتاً للمحللين هو أنه إذا كان هناك تناقض في المصالح بين أميركا وروسيا، فكيف يستطيع النظام الإيراني بأن يكون حليفاً للدولتين معاً؟؟!!
ما نستطيع رؤيته من خلال التناقضات المعقدة أعلاه، يلخص الحقيقة القائلة بأنه ليس للمصالح دين ولا أخلاق من جهة، وإن آخر ما تهتم له تلك القوى أن تبقى سورية موحَّدة، كما أن تبقى مدمَّرة من جهة أخرى. أن تكون سورية محكومة بديكتاتورية، أو بأي نظام أكثر ديكتاتورية. أن ينعم الشعب السوري بالديموقراطية أم كان محروماً منها. فجميع القوى الخارجية يدافع عن حصته مهما بلغ التدمير في سورية، دولة وشعباً وبنى تحتية أو فوقية.
ويبقى السؤال الأخير الذي نرفعه في وجه من ظلَّ يعتقد أن الحروب الدائرة في وطننا العربي هي صراع بين الأنظمة الديكتاتورية والشعب: ألا تكفي نتائج سنوات عديدة من المآسي لتشكل برهاناً ساطعاً على أن أسباب تلك الحروب ليست بين ثوار وأنظمة فاسدة؟
إن المهم في الأمر، وإلى تنتهي دورة الحرب الجهنمية في الوطن العربي، هو أن نقلع عن استخدام أكبر شعار مضلِّل في تاريخ الحروب العبثية (إسقاط الديكتاتورية وإحلال الديموقراطية)، وهو الشعار الذي استخدمه اليمين الأميركي المتطرف، كذريعة لتفتيت الوطن العربي الذي وضعه قيد التنفيذ منذ احتلال العراق.
وأخيراً،
على ماذا أبكي يا أمتي أكثر من بكائي ليس على ما تفعله القوى الغادرة بك، بل سيتحول بكائي إلى سهولة تضليلنا وخداعنا، حيث تُتحفنا فيها الرأسمالية العالمية بشعارات ظاهرها حق وباطنها باطل.
وعلى ماذا أبكي يا أمتي أكثر من بكائي على أن من نسميهم (ثواراً) يدفعون تدمير أوطانهم ثمناً من أجل (إسقاط ديكتاتورية)، لإحلال (ديموقراطية) ليست أكثر من سراب ووهم كبير.