طليعة لبنان الواحد:
إفتتاحية عدد تشرين الثاني 2016
إنقاذ الموصل إنقاذ لوحدة العراق
وإنقاذ للأمن القومي العربي
عندما اجتاحت جحافل تحالف إدارة أوباما ونظام الملالي في طهران، معظم محافظات العراق الستة الثائرة، ومن أهمها الرمادي والفلوجة، كانت تتوق إلى استعادة مدينة الموصل، التي كان نوري المالكي قد سلَّمها لـ(داعش) من أجل إحباط الثورة الشعبية الكبرى التي عمَّت أرجاء تلك المحافظات. وكان من المخطط له من قبل أجهزة المخابرات الأميركية – الإيرانية، من تسليم مدينة الموصل وغيرها لـ(داعش) أن يضعوها في مواجهة تلك الثورة، ولجأوا إلى هذا الأسلوب المضلِّل بعد أن عجزوا عن قمعها بالقوة العسكرية والإرهاب الوحشي.
بمسرحية انكشفت كواليسها فيما بعد، سلَّموا الموصل إلى تنظيم إرهابي هم صانعوه للقضاء على الثورة الشعبية الوطنية والقومية، ويعملون الآن على استعادتها منه وتسليمها لتنظيمات إرهابية أشد خطراً منه. فاستعادة الموصل إلى سلطة حكومة الاحتلالين يتم تحت شعار مزيَّف وهو (محاربة الإرهاب)، وذلك من أجل تبرير ما سيرتكبونه من جرائم يندى لها جبين الإنسانية كما فعلوا في الرمادي والفلوجة، ومعظم مدن المحافظات الثائرة الست. لم تكن تلك الجرائم لتمرَّ بمثل الشناعة والحقارة التي تتم بها، إلاَّ من أجل أن يدبوا الرعب في نفوس سكانها لتهجيرهم وإحلال مكونات عراقية أخرى مكانها، هذا ناهيك عن إغراقها بملايين المستوطنين الإيرانيين لضمان بقاء إيراني مستقر في العراق. وهذا البقاء يعتبر من أقذع أنواع الاحتلال الاستيطاني.
عندما اتُّخذ قرار استعادة الموصل بأوامر من الإدارة الأميركية والنظام الإيراني، فإنما كان الهدف منه استكمال الطوق الإيراني على كل مساحة العراق، من أجل تفريسه، بحيث إن المشروع الإيراني يحظى بموافقة كاملة من قبل الإدارة الأميركية إضافة إلى الدول الرأسمالية الغربية. وأما السبب فلأنه ليس هناك من وسيلة لترسيخ واقع التقسيم في العراق والوطن العربي، سوى بتحويله إلى ساحة صراعات طائفية لا تعرف نهاية واضحة.
ولكل هذا فإن معركة الموصل تُعتبر معركة مفصلية بين مشروعين: مشروع من أجل استكمال تقسيم العراق بين الشلل الطائفية المسعورة، وتثبيت هيمنة الاحتلال الإيراني من جهة، ومشروع تحرير العراق من تلك الشلل واستعادة وجهه الوطني والعربي من جهة أخرى.
ومن أجل إحباط الحلقة الكبرى من المخطط الإيراني – الأميركي، فقد أعلن حزب البعث، وجبهة التحرير والجهاد، ومعظم فصائل المقاومة الوطنية العراقية، دخولها معركة الموصل ضد التنظيمين الإرهابيين، داعش والحشد الشعبي الطائفي، بما يمثل هذان التنظيمان من خطورة على وحدة العراق، ووطنيته وعروبته. وبما يؤديان من خدمات لتمرير مشروع الاحتلال الاستيطاني الإيراني.
ولماذا تكتسب معركة الموصل تلك الأهمية؟
أهمية مدينة الموصل ذات علاقة بسمتيها الاستراتيجيتين، الجغرافية والديموغرافية، وهما:
-موقعها الجغرافي: هو موقع استراتيجي يجمع بين العراق وسورية وتركيا، إذ تمر عقدة المواصلات بين الدول الثلاث عبر محافظة نينوى وعاصمتها الموصل أكبر ثاني مدينة عراقية. خاصة أن الطريق الرئيسي للوصول إلى سورية يمر جنوبي مدينة الموصل. ومحافظة نينوى تشكل فاصلاً بين كردستان العراق ومناطق الأكراد في سورية من جهة، وتشكل عمقاً استراتيجياً أمنياً لجنوب تركيا من جهة أخرى.
-تنوعها الديموغرافي: يتوزع السكان بين العديد من القوميات والمذاهب الدينية، مما يجعل من هذا التنوع نعمة من جهة، ونقمة من جهة أخرى. فأما أنها نعمة فلأنها في عهد النظام الوطني كانت مثالاً للتعايش بين شتى المكونات، وأنموذجاً إيجابياً في اللحمة الوطنية. وأما أنها نقمة، فلأن التعددية في ظل نظام المحاصصة الطائفية والعرقية، حسب الدستور الذي وضعه الاحتلال الأميركي، تفقد العلاقات الوطنية قيمتها لتتحول إلى بؤر للاستقواء بالخارج.
تضافرت سمتا مدينة الموصل الجغرافي والديموغرافي بشكل خاص، ومحافظة نينوى بشكل عام، لكي تشكِّلا عاملين أساسيين تدفع بالقوى الإقليمية إلى التسابق على احتلال هذه المنطقة، أو حيازة حصة لنفوذها فيها. وهذا السبب هو ما يجعل من مدينة الموصل ساحة معركة تكتسب طابع الصراع بين المكونات العراقية الوطنية، وطابع الصراع الإقليمي بين إيران وتركيا.
فأما الطابع الوطني فله وجهان:
-الوجه العرقي ويمثله عرب وأكراد وتركمان وغيرهم، سيسعى كل عرق منهم للانفصال في إمارة مستقلة، أو حسبما جاء في دستور الاحتلال قيام إقليم لكل مكون عرقي.
-الوجه الآخر طائفي، بحيث سيعمل كل مذهب أو طائفة لبناء إمارته أو إقليمه المستقل أيضاً. لذلك فطابع الصراع بين المكونات الوطنية، العرقية والطائفية، ستضع الجميع في مأزق صراع طويل لن تخمد ناره طالما ظلَّ الحل السياسي الوطني غائباً ومغيَّباً.
وأما طابع الصراع الإقليمي، بين تركيا وإيران، فهو يمثِّل خطورة أيضاً. ولأن دول الإقليم لا تكترث برأب الصدع بين المكونات العرقية والطائفية في محافظة نينوى، بل سيكون دور النظام الإيراني الأكثر خطورة، لأنه لا تعنيه شد أواصر العلاقات الوطنية بين تلك المكونات، بل يريد تعميق الصراعات الطائفية والعرقية من أجل الأهداف التالية:
-أولاً: أن يثبِّت حصته الديموغرافية لحماية ممراته الجغرافية نحو سورية وصولاً إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
-ثانياً: من أجل استكمال الطوق الأمني الذي يحيط بالمملكة العربية السعودية الذي ابتدأ في السيطرة الإيرانية على منطقة النخيب جنوب بغداد، وسيستكمله شمالاً في محافظة نينوى.
وأما الدور التركي، ومع أطماعه في بقاء الموصل حائطاً أمنياً يحميها من مخاطر التوسع الكردي باتجاه شمال سورية، وأيضاً في أن تبقى بعيدة عن التأثير الإيراني وتهديده لأمن تركيا في الجنوب، فإن الحكومة التركية تقف اليوم موقف الدفاع في مواجهة موقف النظام الإيراني الهجومي.
في خضم هذا الصراع المعقَّد من المتوقَّع أن يتحول شمال العراق إلى مسرح للصراعات الداخلية والإقليمية، التي تزيد العراق تفتيتاً على تفتيت من جهة، ولأنها تجعل إعادة توحيد العراق أمراً صعب المنال من جهة أخرى، وخوفاً من أن تتقاسمه دول الإقليم مناطقاً للنفوذ من جهة ثالثة، ولأن الوضع العربي وخاصة دول الخليج في أدنى درجاته من الضعف من جهة رابعة، كان لا بُدَّ من وجود قوة على الأرض حريصة على تفادي كل تلك المخاطر، وليس هناك من لديه استراتيجية وطنية توحيدية أكثر مما لدى حزب البعث وفصائل المقاومة الوطنية العراقية الحليفة، يصبح من الضرورة أن يكون دخول البعث وحلفائه في معركة الموصل حاجة ضرورية وأساسية ليشكل ضمانة ضد كل أنواع المخاطر المحيطة بالعراق من كل حدب وصوب.
لقد استدعى هذا التوضيح لضرورته من أجل إلقاء ضوء على أبعاد موقف حزب البعث وفصائل المقاومة العراقية، وقرارهم، في دخول معركة الموصل بكل إمكانياتهم المتاحة.
عندما أعلن حزب البعث، وفصائل المقاومة العراقية، قرارهم بدخول معركة الموصل، فإنما كان من أجل إحباط المخطط الأميركي – الإيراني بإحلال إرهاب (الحشد الشعبي الطائفي) مكان إرهاب (تنظيم داعش). ولأن كلاً منهما أداة من أدوات ذلك التحالف لتمرير مؤامرة تقسيم العراق، فقد أكَّد القرار عزم فصائل المقاومة العراقية على محاربة التنظيمين الإرهابيين معاً.
إن الإعلان عن محاربة التنظيمين معاً، في معركة الموصل، يشكِّل الوجه الأول من القرار. وأما الوجه الآخر، فلكي يشكل الدخول عاملاً يمنع تحويل نتائج الصراع الإقليمي إلى تقسيم محافظة نينوى على قاعدة المحاصصة بين الدولتين إذا نُقل الصراع المسلَّح إلى طاولة المساومات السياسية.
إن هذا القرار ربما يكون قد أثار علامات التعجب في تصريحات الأبواق المعادية لحزب البعث، وعلامات التعجب أيضاً من أجل تشكيك آخر في أهداف الحزب من إعلانه محاربة تنظيم داعش. وأما التشكيك الأول، أو لنقل الاتهام الأول، فعائد إلى بداية الاتهامات التي أطلقت ضد الحزب من قبل القوى المأجورة، بأنه حليف لـ(داعش)، أو أن تنظيم داعش هو تنظيم حزب البعث ذاته، كما زعمت الأوساط ذات الأوتار والأغراض. ولم تكن تلك الاتهامات أكثر من اتهامات مقصودة الغاية منها تصفية القوى المقاومة، وفي المقدمة منها حزب البعث العربي الاشتراكي، وتغليف التصفية تحت شعارات مشبوهة زعموا أنها (محاربة الإرهاب). وكانت تلك الاتهامات جزءاً من حملة شرسة خاضتها أجهزة مخابرات التحالف الأميركي – الإيراني تحت هدف (اجتثاث حزب البعث).
إن من أهم أبعاد قرار الحزب هذا، لا شك بأنه ردٌّ على كل من أشاعوا أنباء نهايته، فأثبت لكل هؤلاء، كما كان يفعل في الرد على كل الإشاعات المشبوهة، أنه مهما تعرَّض له من محاولات اجتثاث، فهو يقوم دائماً ليرد على تلك الإشاعات بالبرهان النضالي على الأرض وليس الإعلامي فقط.
إن الحزب، على الرغم من كل ذلك، يتوقَّع بأن حملات التشويه الإعلامي لن تستريح بل ستبقى ناشطة، وخاصة بما يتعلَّق بقراره في مواجهة داعش والحشد الشعبي الطائفي.
إن دخول معركة الموصل هو قرار جريء يتطلب إمكانيات نضالية استثنائية وإمكانيات مادية كبيرة، كما يتطلب بالإضافة إلى ذلك مشاركة فعَّالة بوحدة متماسكة لكل المتضررين من الاجتياح الإيراني للعراق، وخاصة من اجتياحه لمحافظة نينوى بما يترتب عليها من مخاطر جسيمة على العراق ودول الجوار العربي، وكذلك من دول الجوار الإقليمي.
ولأن خطورة نتائج المعركة ستشمل العراق، والدول العربية المحيطة بالعراق، وكذلك تركيا، نعتبر أن المعركة ليست معركة العراقيين فحسب، بل هي معركة ذات طابع قومي عربي وإقليمي، لأن النجاح فيها لمصلحة التحالف الأميركي – الإيراني، يُعتبر اختراقاً للأمن القومي العربي، وللأمن الإقليمي معاً. وهذا الواقع يتطلَّب من الجميع، للدفاع عن أمنهم، أن يدخلوها بكل طاقاتهم وإمكانياتهم.