كلنا يتذكر الزفة السياسية والإعلامية التي رافقت انطلاق عمليات تدمير الموصل تحت ذريعة تحريرها من داعش وخاصة ذلك المشهد اليومي الذي تمثله مذيعات العربية ـ الحدث وقنوات أخرى ولهجة الحبور والارتياح التي تعلو الوجوه والكلمات المنتقاة بعناية لوصف خرائط تقدم القطعات وتوزيعها وانتشار (الحشد الشعوبي) والأسهم التي تؤشر اتجاهات عبور القرى والحواجز المائية والمطبات التي صنعتها داعش وتغوص في (المصداقية والشفافية) في لقاءات على الهواء مع حيدر العبادي وقائد المعارك وقادة الفرق والألوية ومع أبو عزرائيل الذي لا يجيد نطق ثلاث جمل مترابطة سليمة اللغة والخزعلي والعامري والمأفويين الأخيرين تحرص قناة العربية الحدث وقنوات (عربية) أخرى على تقديمهما وهما يتعانقان جذلاً أو يرجمان الحكومة وقواتها الأمنية التي لا تساوي عفطة عنز أمام سيولهم الفارسية الجارفة واستعداد قطعان (حشدهم) للهلاك تماماً كما كانت تهلك حشود قطعان خميني طمعاً في الحلم الكاذب بالحور العين ونعيم الجنان التي لا نرى سبباً واحداً يجعل أبوابها تفتح للمنتحرين والشواذ والمرتزقة ممن باعوا الشرف والعرض والوطن مقابل مرتبات شهرية.
وبالمقابل .. كان عرس أبناء وبنات آوى الذي تدق دفوفه وطبوله طائرات التحالف بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية وتعزف موزارت وبتهوفن لرقصاته الماجنة المستهترة بحياة قدسها الله سبحانه قوة متغطرسة غاشمة مجرمة .. في الطرف المقابل كانت (داعش) تنهزم .. تهرب دون قتال .. تخلي المواقع المحصنة بلا قطرة دم واحدة .. حتى خُيل للعالم أجمع أن المعركة لن تستمر لأكثر من الزمن الذي تتطلبه سرعة وصول الدبابات إلى ضفتي الموصل فقط لا أكثر.
في هذه الأجواء المظللة كان يختفي مشهد لا أحد يتكلم عنه ذلك هو المشهد الحقيقي الذي يمثل جوهر غايات وأهداف معركة الموصل التي لا تبتعد كثيراً عن تلك التي تحققت في الرمادي مثلاً. فالأهداف ليس تحرير الموصل من داعش، بل هي بقاء داعش لأطول زمن ممكن.
تُرى لماذا نشاكس نحن العالم المزين بالقرمزية من واشنطن إلى لندن ثم باريس وصولاً لطهران ومروراً بالمنطقة الخضراء وكل الطبول القارعة لهذا العالم في طوله وعرضه وبعضها طبول وجماجم لها لهجات عربية؟.. لماذا نقول نقيض ما يقولون ونسفه رقصهم على جماجم شعبنا وسباحتهم في أنهار دماءنا؟
الجواب لأننا شعب العراق الذي يواجه الحقائق كما هي ويعيشها بدمها ولحمها بلا تزويق .. لأننا نعرف لماذا خلقوا داعش وسلحوها وحولوها إلى دولة بلا حدود وقانونها جز الرقاب وفرض البقاء والبيعة بالإرهاب ثم ليأتوا هم يقتلون من قتلهم إرهاب داعش وهم أحياء. فنحن نعرف كيف انتهت معارك ديالى والأنبار وصلاح الدين وليس لدينا أي استعداد لإعطاء معركة الموصل أياً كانت التزويقات التي سبقتها ورافقتها وحاولت أن تقول للعالم بأنها معركة ستحافظ على حياة المواطنين وبيوتهم وعلى المحافظة وعمرانها وبناها التحتية. بل على العكس تماماً فالأهداف المرسومة للموصل أمريكياً تستدعي تحويلها إلى ركام خرائب أعظم من ذاك الركام الذي أُحيلت له مدينة الرمادي في حرب استمرت شهور لأن تهديم البيوت وطمر الحارات يتطلب وقتا تتوزع فيه القنابل والصواريخ على أهداف متحركة تغطي وتظلل الرائي والمشاهد والمستمع وتخلط المواقع وتشابك الأطراف المتقاتلة افتراضياً.
وتيقنوا أن من يموتون من داعش والحشد لا يهمون أميركا ولا يعنيها إن كان عددهم مليون أو مليونين فكلهم مرتزقة والمرتزق يُدفع له ليواجه قدره بحكم ضوابط الارتزاق وكل ما يهم أميركا أن تثأر هي وشركاءها لتبرير الهزائم التي تعرضت لها في هذه المحافظات ونينوى من أكثرها وطأة عليهم. والثأر هنا هو بتدمير المدن وتغيير تركيبها السكاني.
فنحن كنا نراقب تصريحات الأمريكان التي تأتي صريحة بأن معركة الموصل ستحتاج إلى شهور دون أن تقيم وزناً ولا اعتباراً لهرج ومرج الإعلام العربي وخفة العبادي وضباط الأركان والقيادة الخارجين إلى الحياة العسكرية من طيات كتب مدين وثمود حيث أغلبهم من الذين لفظهم جيش العراق الأبي لسقوطهم أخلاقياً أو فشلهم أو لجرائم اختلاس أو تخاذل وجبن وغيرها.
هدف الأمريكان هو أن تطول المواجهة بين طرفي عملاءها إلى أن تتمكن من الإحاطة بكافة مستلزمات إنهاء الموصل كمدينة بهدمها بالكامل وتشريد سكانها وعرض أرضها بعد ذلك في سوق مزايدات الإقليم حيث هناك من ينتظرون كرسي سلطة يجلسون عليه حتى لو كانت مسانده ترتكز على جثث أهلهم وأطلال بيوت الشعب.
وقد يذهب البعض إلى الاعتقاد بوجود تناقض بين أهداف العبادي وقواته التي تباد من قبل صنيعتهم داعش وحشدهم الصفوي الفارسي الشعوبي وبين أهداف التحالف الأمريكي باعتماد فرق طرق الإعلام عن المعركة ومجرياتها. ونحن نؤكد هنا أن أهداف تدمير الموصل مشتركة ومتفق عليها والفرق فقط هو في كون العبادي واللاهثين وراء إعلامه هم نزقين مراهقين ومصابين بسرعة التقيؤ وسوء تقدير سرعة الحركة والإنجاز فهم ظنوا أن (عمليات التدمير المطلوبة سيتم تحقيقها بسرعة تفوق سرعة ماء الشلالات في حين أن الأمريكان كانوا أكثر واقعية في توزيع زمن التدمير على مناطق نينوى بالتدريج ولا يضرهم الأمر بشيء فكل التكاليف مدفوعة من ثروات العراق).
معركة الموصل كشفت وعرّت خلفيات كل مَن تورط بها. فالأمريكان ظهروا كقتلة ومجرمين ساديين نازيين سفاحين وحلفاءهم ظهروا أغبياء لا يدركون حجم الكارثة التي تجرجرهم أميركا في خضمها بصيغ موت لحشدهم وقواتهم واستهلاك لثروات البلاد. وحلفاء الأمريكان الذين نقصدهم هم داعش والعبادي وقطعاته على حد سواء فكلاهما أدوات بيد ماكينة الموت الأمريكي للعراق وشعبه.
غير أن للشعب ولمقاومتنا الباسلة كلمة سيكون لها مسار آخر حتى لو بدى المشهد غير موحياًُ بأنها ستقال.
أ. د. كاظم عبد الحسين عباس
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثقافة والإعلام