تطلّ علينا في غضون ساعات الذّكرى السّبعون لتأسيس حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ لتعانق الضّمائر الحيّة والعقول المبدعة والهمم المخلصة في الوطن العربيّ العزيز موعد انبثاق رحلة متواصلة مع المجد والعزّ والفخار تسطّرها نضالات هذا الحزب المستمرّة والمتصاعدة بلا فتور ولا كلل أو ملل، ودون انتظار جزاء ولا شكور، عمّدتها تضحيات قيادته ورجالاته ومناضليه وأنصاره ومريديه بشلاّلات من الدّم الزّكيّ القاني إيمانا ووعيا وإدراكا وتحمّلا للمسؤوليّة التّاريخيّة المحوريّة التي ارتضاها البعث والبعثيّون ماجدات وأحرارا واختاروها طواعيّة لتعبيد الطّريق أمام أمّة العرب لاستعادة أمجادها وانتزاع حقوقها رغم تتالي الهجمات الخارجيّة الغادرة عليها واستفحال الوهن الذي خرّب بنيتها لقرون.
شكّل يوم السّابع من نيسان – أفريل من عام 1947 حدثا فارقا واستثنائيّا في تاريخ الأمّة العربيّة بولادة حزبها الدّاعي لطرق أبواب البناء والتّشييد والمسك بنواصي الأمور وقطع دابر الوصاية والحماية والعمل على دحر الاستعمار ومخطّطاته باسترجاع الأرض وتحريرها بالتّزامن مع بناء الإنسان العربيّ بناء علميّا مدروسا قصد الرّقيّ به وتهيئة الظّروف لإسهامه في مسيرة العمل الدّؤوب لإعلاء راية العروبة بما تحمله من رسالات حضاريّة وأخلاقيّة وإنسانيّة شاملة.
لقد جاء حزب البعث منذ يومه الأوّل ليعلن بصراحة متناهية عن مشروعه وأهدافه وليبسط خطّه النّضاليّ العامّ حيث استوفى تشخيص الواقع العربيّ تشخيصا دقيقا وقرنه بوضع الحلول البديلة في المجالات كافة لإحداث النّقلة النّوعيّة في بلاد العرب بدعوته لتثوير الجماهير العربيّة واستنهاض هممها وحضّها على الانقلاب انقلابا مفصليّا على مظاهر الخلل بعيدا عن التّسرّع أو المزاجيّة أو المناسباتيّة مؤكّدا على وعورة الطرّيق ومشاقّها بأن نبّه مسبقا للعقبات الكثيرة والمطبّات المستعصية التي زرعها أعداء الأمّة في الدّاخل وفي الخارج على حدّ سواء، كما شدّد على أنّ مهمّة إنقاذ الأمّة وبعث الرّوح الخلاّقة المؤمنة المبدعة التّوّاقة للارتقاء الشّامل ليست مهمّة البعث لوحده في دعوة صريحة لضرورة تكاتف الجهود الخيّرة وتجمّع القوى التّقدّميّة المخلصة للأمّة إخلاصا لا مخاتلة فيه.
وأفاض البعث منذ بزوغ فجره في تحديد أعداء الأمّة تحديدا دقيقا، فجاء الاستعمار بألوانه وجهاته كافّة والصّهيونيّة والرّجعيّة العربيّة وما يتفرّع عنها من اضطهاد اجتماعيّ واستغلال اقتصاديّ وتفاوت طبقيّ يحرم الجماهير من استغلال ثرواتها والتّنعمّ بها ويمنعها من أداء دورها المناط بعهدتها على رأس القائمة، ودعا بالتّالي لوجوب مقارعة الأعداء وضرب مصالحهم واستباق مخطّطاتها الشّيطانيّة التّدميريّة والمحافظة على روح التّوثّب والجهوزيّة العالية للحيلولة دون نجاح محاولات مزيد تركيع الأمّة ونهب خيراتها وسلب إراداتها.
ويبقى أهمّ ما ميّز البعث عمّا سواه من الحركات السّياسيّة والأحزاب في الوطن العربيّ أنّه انبثق من رحم معاناة الأمّة وآثر الالتصاق بمصلحة الوطن العربيّ الكبير حصرا، فلم يستمدّ هديه من اجترار القوالب الطّوباويّة المستوردة أو المسقطة، كما لم يركن للموروث الحضاريّ والقيميّ ركونا كاملا ليهوي به لمناصبة العداء للسّمة التّقدّميّة أو الانفتاح على العصر، فوازن موازنة فريدة بين هويّة الأمّة وتاريخها وبين حاجيّاتها في زمنها الرّاهن لترقى تلك المزواجة بين التّشبّث بالشّخصيّة العربيّة القويمة بأبعادها المتعدّدة وبين ضرورة تخلّصها من الشّوائب وموانع معانقة المناعة والعزّة بروح متصالحة مع الواقع بعيدا عن مظاهر التّقوقع والانغلاق والتّحجّر الوصفة السّحريّة الضّامنة لخلود هذه الأمّة ورسالاتها والقادرة على استرجاع الدّور الرّياديّ والحضاريّ العملاق في الإضافة النّوعيّة للإنسانيّة وتوقيتها من الانهيار والانحلال والتّفسّخ. ولقد ساهمت قراءة البعث للواقع العربيّ في الإطار الكونيّ العامّ وطابعه الإنسانيّ الرّاقي، في إقبال الجماهير العربيّة المتعطّشة للحرّية والإبداع والتّواقة للانطلاق، إقبالا عليه غير مسبوق ليحتلّ مكانة رياديّة في ضمير الأمّة وأحرارها.
إنّ تاريخ السّابع من نيسان- أفريل، لا يستمدّ أهميّته القصوى لتعلّقه بتأسيس الحزب وإنّما تنبع تلك الأهمّية من صدقيّة أداء البعث وترجمة شعاراته لوقائع عايشتها الجماهير طيلة هذه العقود السّبعة. فلقد كان البعث منذ ولادته لليوم الفاعل الرّئيس في تثوير الجماهير العربيّة ورائد ملاحم الدّفاع عن طموحاتها ووجودها والمعبّر الأصدق عن شواغلها ناهيك عن استماتته في الذّود عنها والدّفاع عن حياض الوطن الكبير. كما مثّل صمود البعث بوجه المؤامرات الكونيّة التي لاحقته وترصّدته حصرا ودون غيره طوال هذه العقود الطّويلة، وقدرته العجيبة على التّخلّص منها ودرء شرورها عاملا مضافا لتثبيته مثابة يعود إليها العرب كلّما ادلهمّت حولهم الخطوب وكلّما تكالبت عليهم الأمم.
إنّ الذّكرى السّبعين لتأسيس حزب البعث هي فرصة أخرى ليتدبّر العرب أمورهم جيدا خصوصا في هذه الحقبة العصيبة التي لم تعرف الأمّة مثيلا لها من حيث تهافت الأعداء عليها من خلال حرب الاجتثاث المبتكرة والتي ضربت بداية حزب البعث لتتهاوى على ظهور رجالاته وقيادته المجاهدة وبفضل عبقريّتها التي حافظت على نفسها وتوارثتها أجيال البعث كما توارثت معاني المقاومة والفداء وتطبيقاتهما منذ عهد الرّفيق القائد المؤسّس أحمد ميشيل عفلق إلى عملاق المقاومة العراقيّة والحزب الرّفيق القائد الأمين شيخ المجاهدين عزّة إبراهيم مرورا بسيّد شهداء العصر الرّفيق القائد صدّام حسين، وهي الحرب التي يراد تعميمها على العرب جميعا دون استثناء.
وتأتي هذه الذّكرى السّبعين لتوضّح للعرب أنّ لا خلاص لهم ولا سبيل لنجاتهم أمام أدوات الحرب التّدميريّة سواء العسكريّة أو العقائدّية أو الفكريّة المفتوحة ضدّهم، سوى الانخراط في مشروع البعث وفي نهجه المقاوم.
أنيس الهمّامي
نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 05-04-2017