كانت بدايات ظهور التّنظيم الإرهابيّ الدّمويّ داعش بالعراق منتصف شهر حزيران / جوان 2014 أوّلا ثمّ في سوريّة، وانطلقت موجات التّخريب وسلسلة الأعمال الإرهابيّة الوحشيّة المكثّفة للتّنظيم متركّزة هناك حيث تمّ استغلال الوضع الأمنيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ المترهّل وعديد الظّروف الأخرى الملائمة والمعروفة لانتشار مثل هذه الجماعات بفعل احتلال العراق وتدميره والتّدخّل الأجنبيّ المتزايد في سوريّة وبقيّة المنطقة سعيا من أقطاب الإرهاب الكونيّة وأضلعه الثّلاث الرّئيسية أمريكا والكيان الصّهيونيّ وإيران. وتوسّع مدى نشاط داعش حتّى كاد يعمّ المعمورة بأسرها، ونسبت إليه وتبنّى هو فيما بعد كلّ الاعتداءات الإرهابيّة التي شهدتها دول عدّة لم تسلم منها سوى إيران والكيان الصّهيونيّ، وفي المقابل تعالت الأصوات الدّوليّة عاقدة العزم على ضرورة التّصدّي لهذا التّنظيم وإعلان الحرب عليه فتعدّدت التّحالفات وتنوّعت المحاور لذلك الغرض.
ووسط ذهول الرّأي العامّ الدّوليّ والضّخّ الإعلاميّ المتدفّق ليلا نهارا، غدا هذا التّنظيم الشّغل الشّاغل الأوحد للسّياسيّين والمحلّلين وعوامّ النّاس، ولم تنجح المجهودات الصّادقة في تعرية حقيقة هذا التّنظيم ذي الطّبيعة الهلاميّة الشّبحيّة ولا في بسط الجهات التي رعته ودرّبته وموّلته لتحقيق غايات مكشوفة إلاّ لذوي النّظرة السّطحيّة والمحصورين في دائرة التّرديد الببّغائيّ للرّوايات الأمنيّة والمخابراتيّة دون تدبّر ولا تبصّر.
وبالعودة للحرب على داعش ولمنطقة تمركزه، نلاحظ أنّ محاربة داعش أباحت وبرّرت ارتكاب شتّى ألوان المجازر الفظيعة والجرائم الهائلة والصّادمة بحقّ الشّعوب والأوطان والمعالم التّاريخيّة والحضاريّة فيها وخاصّة في العراق وسوريّة من طرف الحلف الدّوليّ بقيادة أمريكا ونظرائهم الرّوس ومن معهم، حيث تحوّل الميدانان العراقيّ والسّوريّ لمسرح موت حينيّ ويوميّ لا يهدأ بفعل مئات آلاف أطنان القنابل الملقاة فيه وبفعل استخدام شتّى أنواع الأسلحة الفتّاكة والمحرّمة دوليّا بل وحتّى المبتكرة التي لا يعلم عنها عتاة العسكريّين شيئا يذكر.
ورغم التّشديد على أنّ كلّ تلك المجهودات والتّضحيات إنّما تهدف لتخليص البشريّة من هذا التّنظيم الإرهابيّ الدّمويّ المهدّد للإنسانيّة جمعاء، ورغم التّسويق يوميّا لاستهداف قيادات التّنظيم ومواقعه وقواعده وبنيته وأسلحته من هذه الأحلاف ومن ارتبط بها وانضمّ إليها إن مٌكرها أو عن طواعيّة تملّقا وطمعا في توقّي سخط الكبار ، فإنّ أمرا غريبا ظلّ مسيطرا على المشهد برمّته حيث لم تعرض لليوم أيّة وثيقة تؤكّد ما تكبّده داعش من خسائر سواء في الأرواح أو المعدّات، إذ لا يعقل أنّ طيران ما يزيد عن ستّين دولة وأجهزتها وإمكانيّاتها الاستخباراتيّة والأمنيّة والتّقنيّة لم يفلح لحدّ الآن في القضاء على أهمّ قدرات التّنظيم وشلّها. وعلى العكس تماما، فإنّه ما من شيء يشي بقرب انتهاء أمره، حيث تواصلت ضرباته في عدد من البلدان الأوروبيّة والعربيّة على حدّ سواء، ناهيك عن عشرات التّقارير التي تتحدّث عن كذب الادّعاءات المروّجة بخصوص الحرب على داعش وصدق أصحابها، ولعلّ أشهرها على الإطلاق تلك الشّهادات لمواطنين عراقيّين وتقارير صحفيّة وثّقت كيف كانت الأسلحة والأدوية وغيرها تلقى إلى عناصر التّنظيم من الجوّ وخلاف ذلك من تحليلات ووقائع متناقضة تماما مع الرّوايات الرّسميّة في هذا الصّدد.
إنّ أسئلة حارقة لا يمكن إغفالها في علاقة بداعش من جهة والحرب عليه من جهة ثانية لعلّ أهمّها:
أين سيستقرّ الدّواعش بعد تشديد الخناق عليهم في العراق وسوريّة؟ وهل من الممكن أن تنتهي هذه الجماعة المتوحّشة بعد كلّ ما رافقها من جلبة، بكلّ بساطة؟
إنّ المتابع لما يجري في العالم وخصوصا في المنطقة العربيّة سينتبه وبلا شكّ لأمور كثيرة لا يمكن تفسيرها على أنّها محض صدفة أو أنّ لا علاقة لها بمخطّطات جديدة لا تزال قيد البروز لتأثيث المرحلة القادمة.
وإنّ طبيعة تحرّكات التّنظيم واعماله وجرائمه الإرهابيّة منذ النّصف الثّاني من العام 2016 تحدّث عن انتقال تركّز نشاطاته وتموقع أعضائه في دول شمال إفريقيا أو الشّطر الإفريقيّ من الوطن العربيّ من مصر لموريتانيا، ويمكن رصد ذلك من خلال 3 مؤشّرات مهمّة:
1 - تنامي وتصاعد وتيرة الأعمال الإرهابيّة الغادرة التي تضرب مصر وتركّز في المدّة الأخيرة على استهداف الكنائس ودور العبادة المخصّصة للأقباط في ظلّ المؤامرة الكونيّة التي تتربّص بمصر والتي سبق لحزب البعث العربيّ الاشتراكيّ وقائده وأمينه العامّ الذي نبّه إلى ذلك منذ سنة تحديدا وعرّى تفاصيل ما يعدّ لمصر وغاياته ووسائله، ومن أهمّ الدّواعي للتّركيز على مصر هو العمل على إنهاك جيشها من جهة واستغلالا للتّعدّد الدّينيّ الموجود بها وهو ما لا يكاد يوجد في غيرها من الأقطار العربيّة في الشّمال الإفريقيّ.
2- التّمركز السّابق لجزء وعناصر قياديّة من الحلقة الثّانية في تنظيم داعش في ليبيا بعد العدوان الامبرياليّ الأطلسيّ الأعرابيّ التّركيّ عليها منذ ستّ سنوات، وحتّى الادّعاءات التي روّجها قسم من الحكّام في ليبيا حول طرد داعش من سرت لم تكن أزيد من مساعي اختلاق إنجازات معيّنة من شانها ضمان دعم بعض الجهات الغربيّة والدّوليّة وحتّى العربيّة، حيث لا أحد يعلم إلى أين تمّ طرد هؤلاء وأين استقرّوا وما مدى صحّة الأنباء عن إضعاف قدراتهم من عدمها.
3- التّجاذبات والجدل السّياسيّ والقانونيّ الواسع الذي عرفته تونس بشأن ما سمّي بعودة المتورّطين في بؤر التّوتّر من التّونسيّين المنضمّين للجماعات الإرهابيّة وعلى رأسهم مقاتلو داعش في العراق وسوريّة، وخاصّة الحضور الألمانيّ اللاّفت للانتباه في هذا الصّدد وإفرادها للتّونسيّين المتوافدين عليها بضرورة العودة لديارهم وتشجيع السّلطات التّونسيّة على ذلك.
وفي تونس أيضا، تسير السّلطة في اتّجاه بناء مراكز لإيواء الإرهابيّين وتهيئتهم بمقاييس قيل إنّها عالميّة كفيلة بمعاودة إدماج هؤلاء في الدّورة المجتمعيّة والنّاي بهم عن عالم الجريمة والإرهاب.
لكن رشحت معالم سياسات تشي بأنّ أمرا ما يدبّر لتونس ولشعبها في هذا الصّدد تحديدا، وحافظت السّلطة على التّكتّم عليها تكتّما شديدا ومنها وعلاوة على شروعها ببناء مراكز الإيواء العملاقة تلك على مساحات واسعة، خصوصا تقديم بعض المشاريع ذات العلاقة بهذا التّحوّل الخطير على أنّها مشاريع تنمويّة بينما يغلب عليها الطّابع المنيّ والحسابات السّياسيّة وتتمثّل في مدّ شبكات الطّرق السّيّارة باتّجاه الحدود الجزائريّة غربا والحدود اللّيبيّة شرقا ناهيك عن بناء مطارات ومستشفيات عسكريّة في تلك المناطق كالقصرين وقابس وتوزر وقفصة ممّا سيجعل تونس معبرا لأمريكا صوب إفريقيا، إذ ستسهل عليها مراقبة الجزائر من على الحدود الغربيّة التّونسيّة وكذلك ليبيا على الحدود الشّرقيّة الجنوبيّة ناهيك عن فتح طريق صوب الصّحراء من الجنوب الغربيّ. ويرى المتابعون هذه المشاريع – على قلّتهم – انصياعا تونسيّا لأمر أمريكيّ صارم تنصّ عليها تلك الاتّفاقيّة المجهولة التي وقّعها محسن مرزوق كبير مستشاري الرّئيس التّونسيّ الباجي قايد السّبسي خلال زيارتهما لواشنطن منذ سنتين، ناهيك عن ثبوت إقامة قواعد عسكريّة أمريكيّة في تونس وتنفيذ طلعات لطائرات أمريكيّة بدون طيّار ذات المهامّ التّجسّسيّة والمسيّرة عن بعد رغم إنكار السّلطات التّونسيّة.
إنّ كلّ هذه المؤشّرات وهذه المعطيات لا يمكن أن تدرج خارج سياق اتّخاذ الشّمال الإفريقيّ مستقرّا جديدا لداعش برعاية الجهات التي صنعته وأوجدته لحدّ الانتهاء من تحقيق الغايات الفعليّة لخلقه وهي رأسا التّسريع في إنهاك الدّول العربيّة وتخريبها وتقويض أمنها للإسراع في تأثيث الشّرق الأوسط الجديد القائم على أساس تفتيت الوطن العربيّ تفتيا جديدا لتنتهي الامبرياليّة الغربيّة بقيادة أمريكا والصّهيونيّة العالميّة من تكريس التّفوّق النّوعيّ للكيان الصّهيونيّ للمرور لإعلان دولته الدّينيّة اليهوديّة كما أوصت بذلك المخطّطات الاستعماريّة والصّهيونيّة المعروفة.
و لا يجب في هذا السّياق التّغاضي عن أحد الأهداف الأخرى من هذا المخطّط، وهو حفظ هذه القوى الدّوليّة الضّالعة في الإرهاب عبر ما تمارسه من إرهاب دوليّ متواصل بحقّ العرب خصوصا وبعض الشّعوب الأخرى لماء وجهها وذلك بادّعاء النّصر على داعش في الشّرق بينما تفتح له الغرب العربيّ في إفريقيا وتتّخذ منه مأوى له، مع الإعداد للجيل الرّابع من الإرهاب الذي سيخلف داعش وسيكون أشدّ وحشيّة منه وضراوة وإجراما كما خلف داعش القاعدة التي خلفت بدورها المقاتلين أو المجاهدين الأفغان العرب.
أنيس الهمّامي
نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 12-04-2017