رغم ما ابتليت به الأمّة العربيّة من محن ورغم ما عانته وما تعانيه وتكابده لليوم من تكالب القوى الاستعماريّة والامبرياليّة والصّهيونيّة العالميّة والجهات المرتبطة بها، عليها، ورغم ما خلّفته الحملات المتعاقبة على العرب قصد تدجينهم وتدمير مخزونهم الحضاريّ والفكريّ ونسف رصيدهم الأخلاقيّ والقِيميّ والثّقافي وتقويض موروثهم العقائديّ والدّينيّ، ناهيك عن تفقيرهم وسلب إراداتهم ونهب خيراتهم وتقسيم أرضهم ووطنهم بما يتعارض مع طبيعتهم الواحدة الموحّدة ويتصادم مع مصالحهم الحيويّة المصيريّة والقوميّة
الاستراتيجيّة العليا، فإنّ أمّة العرب ظلّت قائمة وتوّاقة لِلَمْلَمَةِ شتاتها وتضميد جراها وتحقيق خلاصها من تداعيات استهدافها المتكرّر المتلوّن كما حافظت على بصمتها الخاصّة بها والمميّزة لها عن سائر الأمم والشّعوب بما يتوافق مع مقوّمات الشّخصيّة العربيّة وبما يتلاءم مع ما كان للعرب من صولات ومع ما قدّموه للإنسانيّة من فضائل ومنجزات أحدثت نقلة نوعيّة لا يجحدها إلاّ الأعداء أو المتخاذلون العاقّون المستسلمون القاعدون والمهزوزون الموتورون من أبنائها، إذ يكفي العرب شرفا أنّهم أوّل من أوجد الكتابة لتٌنقل الإنسانيّة بفضلهم ممّا عرّفه المؤرّخون والعلماء بالقرون المظلمة لسفر جديد تنيره الكتابة بما تمثّله من جسر للتّدوين وتنظيم الحياة الاجتماعيّة وغير ذلك، كما كانوا من الذين رادوا مسيرة البناء والتّعمير في مختلف الحقبات فسنّوا الشّرائع والقوانين المنظّمة للحياة البشريّة واقتدت بهم فيما بعد سائر الأمم وسارت على هديها وخطاها، دون تناسي أو إغفال إسهاماتهم في شتّى العلوم ومجالاتها من فلسفة وأدب وهندسة وطبّ ورياضيّات وميكانيك " حيل ابن موسى مثالا " وغير ذلك ممّا يضيق به هذا المجال لتبيانه وتعديده.
ورغم الحروب النّفسيّة الهوجاء التي فتح الأعداء أبوابها على مصراعيها ومارسوها على العرب منذ قرون لغرض واحد يحرّكه التقاء جميع الامبراطوريّات والقوى المتنفّذة في العالم كلّ حسب عصرها على العداء للعرب والحقد عليهم وبغض العروبة وإنكار مساهمات أبنائها في مسيرة رقيّ البشر، والتي كانت تهدف جميعها لتفسيخ الشّخصيّة العربيّة وتذويبها ومن ثمّ صهرها مع غيرها ليلتحق العرب بجملة تلك الأقوام التي تفسّخت ثمّ اختفت واندثرت واضمحلّ فعلها ووجودها من الأساس، ورغم استعانة المتاهفتين على الأمّة بالفرق الرّهيب في موازين القوى فإنّهم عجزوا عن تحقيق أهدافهم وفشلوا في المساس من العنفوان القوميّ لدى العربيّ فشلا ذريعا.
إنّ أحد أبرز مقوّمات فشل أعداء الأمّة العربيّة في تركيع جماهيرها هو ذلك الفعل الجبّار الذي استمسكت به أجيال العرب المتعاقبة وتحصّنت به ورفعته بوجه الغزاة والأعداء ووقفت بفضله كالطّود الشّامخ تقارع قوى البغي والشّر والعدوان والرّذيلة، وليس من شكّ في أنّ الفعل المقاوم هو ذلك السّلاح الفتّاك الذي واجه به العرب كلّ حملات الإبادة العرقيّة التي تعرّضوا لها وصدّوا بها وفتّتوا مؤامرات الغزو والاستيلاب الحضاريّ المتسارع والمفتوح.
شكّلت المقاومة، والفعل المقاوم تحديدا، رابطا جامعا مضطرما متأجّجا ثابتا أصيلا بين أبناء هذه الأمّة على مرّ الأزمنة، ومثّلت صمّام الأمان الذي توقّى عبره العرب ونجوا من كلّ دسائس دهاقنة الأعداء. ويتنزّل هذا الفعل المقاوم على الأرض العربيّة تنزيلا واقعيّا وتتمثّله الجماهير تمثّلا لا لبس فيه ولا حياد عنه، وتحدّث أخبار العرب على مرّ العصور قديما وحديثا بملاحم بطوليّة مقاومة تنضح شموخا وإباء وعزّة وإيمانا محتدما بحقّ العرب في العيش كسائر الأمم بعيدا عن التّدخّلات الخارجيّة والإملاءات وخارج دوائر الوصاية والحماية، على قدر المساواة مع الآخرين ورفضا جميع مظاهر الغطرسة والتّجبّر والتّعالي.
وفي هذه الأيّام، ورغم ما تعيشه الأمّة العربيّة من تردّي شامل وما تمرّ به من منعطف تاريخيّ مصيريّ يهدّدها وضربها في مقتل بفعل الأوضاع غير المسبوقة التي تعصف بها، إلاّ أنّ شعلة المقاومة لا تزال منيرة، وبقيت جذوة رفضها وجهادها وقّادة وهّاجة ملتهبة متأجّجة وحافظت على صمودها واستبسالها في التّصدّي للمدّ الملتهب الحاقد عليها من كلّ الزّوايا والجهات.
وإنّ أكثر ما يبعث على الأمل حقيقة وبعيدا على الإنشائيّات والمدائح كما يروّج المنبتّون والمتخاذلون، هو تجذّر فعل المقاومة في شريحة هي الأخطر على الإطلاق في الوطن العربيّ ألا وهي شريحة الشّباب والأطفال، وهي الشّريحة الأخطر لما يقرأه لها أعداء الأمّة من حساب كبير فتراهم يسابقون الزّمن للتّحايل والاستنجاد بكلّ ما لديهم من خداع ومكر ودهاء لصرف هذه الشّبيبة الصّاعدة عن المقاومة ولضرب رصيدها فيها.
تضيق الأحداث والوقائع التي تدلّل على تشبّث أطفال العرب وأجيالهم الصّاعدة بخيار المقاومة، وتتواتر مظاهر بطولاتهم وملاحمهم التي يسطّرها أولئك الفتية الأصلاء رغم صغر سنّهم، حيث يتميّز أطفال فلسطين والعراق والأحواز العربيّة وغيرها من ديار العرب برصيد نفسيّ وذهنيّ عجيب ومتفرّد ويتمتّعون بزاد روحيّ مترع تحسّسا من الأعداء والتصاق بأراضيهم وبانتمائهم لعروبتهم واستعدادهم للموت فداء الأرض والعرض.
ويكفي المرء مثلا أن يستحضر شجاعة أطفال فلسطين وبناتها النّادرة وهم يواجهون آلة البطش والقمع الوحشيّة العنصريّة الإرهابيّة الصّهيونيّة، حيث صمد ولا زال أطفال فلسطين صامدين ضدّ جنود الكيان الغاصب لا يلتفتون للأسلحة الفتّاكة التي يتحوّزونها ويشهرونها بوجوههم البريئة وهم في عمر الزّهور، فنستذكر مثلا خارج دائرة عشرات آلاف الأطفال الشّهداء والمعوّقين والمختطفين في الزّنزانات الصّهيونيّة، على سبيل الذّكر لا الحصر، تلك الطّفلة في قرية النّبيّ صالح يوم 02/11/20012 حيث واجهت زمرة من المعتدين الصّهاينة بكامل عدّتهم وعتادهم بمنتهى الثّبات وبصقت في وجوههم قائلة بلكنتها الفلسطينيّة السّاحرة لأحد الجنود بعد أن ضربت على واقية صدره ورشاشته" ما نخاف من منظرك، مفكّر حالك إذا لابس درع راح تخوّفني، اتفوه على منظرك.. رايحين ناخذ الحريّة غصبا عنك.. نحن أشرف منك ومن عائلتك كلّها يا عاهر.. إذا قلعتو شجرة زيتون،، والله بنزرع مائة بدالها " واستمرّت تطارد تلك الزّمرة حينا وتجلد أعضاءها بكلامها فكان أشدّ وقعا على أصحاب الوجوه الباردة من الرّصاص. وليست تلك الفتاة ومن معها من الفتية حالة استثنائيّة، فلقد واجه أحد الأطفال الفلسطينيّين سلطة الاحتلال لحظة اعتقال والده في 7 أفريل – نيسان 2011 وظلّ يحاول تخليص والده من بين أيدي مجموعة الجنود والشّرطة وقد زاد عددهم عن العشرة، وكان يصرخ بهم قائلا " بدّي بابا.. بدي بابا " وظلّ يضرب أقدام الجنود غير آبه لأسلحتهم القادرة على إبادته وكلّ عائلته في لحظة تهوّر وطيش واحدة، وكانت عيناه ممتلئتين حقدا وتصميما على الثّأر لأبيه ولكلّ وطنه ذات يوم من تلكم الحيوانات المفترسة والوحوش الآدميّة، وتبقى صورة أحد أطفال فلسطين وهو يواجه مزمجرة صهيونيّة تطلق النّار عشوائيّا، فقط بالحجارة دون السّماح لها بالتّقدّم وأجبرها على العودة على أعقابها والخزي والذّلّ يستبدّ بمن فيها، رغم أنّه لم يتجاوز الخامسة من عمره.
ولقد أذهلت صورة الإخوة الثّلاث هذه الأيّام العالم حيث ولمّا اقتحم خنازير الصّهاينة منزلهم بمنتهى العنجهيّة ، ظلّ ثلاثتهم مبتسما بوجوههم القذرة مشهرين علامات النّصر ومتلحّفين بعلم فلسطين في رسالة مدوّية مفادها أنّ الحقّ أبقى وأصلب وأقوى من كلّ جيوش العالم وأنّ جميع الأسلحة تبقى عاجزة على النّيل من عزائم الصّابرين المؤمنين القانعين الحالمين بغد أفضل قوامه الحريّة والتّحرّر ولو بعد حين.
وإنّ الأمر لا يختلف عنه عن الأطفال في العراق، حيث أطلّ أحد الصّغار في عمره الكبير المتسامي جدّا بمبدئيّته وشجاعته النّادرة، ولم يتجاوز الحادية عشرة ربيعا ليفحم جيوش المارينز لمّا سألوه غن كان محبّا لصدّام حسين، فجاء جوابه لهم مدوّيا صاعقا ذهل منه سامعوه فقال " نعم أنا أعشق صدّام، لأنّه بطل، ولم يخن العراق ولم يستسلم.. ونحن سنواصل ما بدأه صدّام "..
هذا الطّفل، في هذه السّنّ المبكّرة جدّا، في لحظات مرعبة وفي أثناء هروب أدعياء الرّجولة وفرارهم وتمسّحهم على عتبات الأمريكان، يواجه جنودهم وعسكرهم بأنفة وعنفوان لا نظير لهما، ولا يمكن - لأنّنا لم نر لذلك دليلا – أن يتوفّر عليهما غيره من أطفال بقيّة الأمم.
ولقد تابعنا منذ أيّام، عشرات الأطفال في الأحواز العربيّة وهم يرفعون الشّعارات ويردّدون الأهازيج العربيّة بلغة عربيّة في مدن الأحواز الثّائرة متحدّين شعوبيّة الاحتلال الفارسيّ البغيض وهازئين بعنصريّته وجبروته، متمسّكين بعروبتهم ومتسبسلين في السّير على خطى الآباء والأجداد.
إنّ هذه الصّور التي أشرنا إليها باقتضاب وهي وإن لا تزيد عن غيض من فيض، إلاّ أنّها صورة معبّرة ورمزيّة وحبلى بالدّروس والعبر، تحدّثنا عن كون هذه الأمّة لا يمكن أن تموت أبدا وأنّ رسالتها خالدة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، فأمّة تستحضر زهراتها اليانعة كلّ هذا الكمّ الهائل من الشّموخ وتتمتّع بهذا القدر العالي من الإحساس الوطنيّ والقوميّ فتتحدّى جحافل الغزاة والمغتصبين وعساكرهم، هي أمّة معطاء قد تكبو برهة من الزّمن قد تطول وقد تقصر، لكنّها أبدا لا تركع ولن تركع..
أنيس الهمّامي
نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 20-04-2017