كلّما حلّ موسم الحجّ إلاّ وطفت للسّطح وبالتّزامن معه سلسلة من التّحرّشات الإيرانيّة بالسّلطات السّعوديّة ولو ظاهريّا وتعالت عقيرة الفرس بالصّياح والتّنديد والاتّهامات المتلوّنة ومن ثمّ تترافق معها دعوات علنيّة صريحة يطالب فيها الإيرانيّون بانتزاع الإشراف على الحجّ من السّعوديّة بتعلاّت مختلفة كثيرة.
وللغوص في فهم دوافع الفرس لهذا الصّنيع المتكرّر، ينبغي أن نعرض ولو سريعا في تاريخ التّدخّلات الفارسيّة الإيرانيّة في شؤون الحجّ التي عبّرت عنها سلسلة طويلة من الاعتداءات منذ زمن بعيد حرص الفرس على تنفيذها وذلك لإثارة البلبلة والإساءة المتعمّدة لا للسّعوديّة فقط وإنّما للحجيج ولعموم العرب والمسلمين في العالم.
لقد بدأت سلسلة التّدخّلات الفارسيّة الإيرانيّة في شؤون الحجّ مبكّر، ويعود أوّلها لعام 317 هجري حيث عمد القرامطة – وهم إحدى الفرق الباطنيّة التي اتّخذت من الانتصار لآل البيت شعارا تتسرّب عبره لعقول المسلمين رغم ما يضمره مؤسّسوها من عداء حقيقيّ للمسلمين وللعرب ولآل البيت أنفسهم – لمهاجمة مكّة في موسم الحجّ واستهدفوا الحجيج وروّعوهم وقتلوا منهم زهاء 30 ألفا وخلعوا باب الكعبة وسلبوا كسوتها كما اقتلعوا الحجر الأسود ونقلوه للبحرين وبعدها للكوفة واحتفظوا به عندهم لاثنتين وعشرين سنة كاملة زيادة عن أعمال السّلب والنّهب وسبي النّساء وغير ذلك من الأعمال الوحشيّة التي تعجّ بها كتب التّاريخ وأخباره الموثوقة.
ولم تخل أيّامنا هذه من تواتر الاعتداءات الفارسيّة المتلاحقة خلا مواسم الحجّ، ففي العام 1980 تظاهرت مجموعة من الحجيج الفرس أمام المسجد النّبويّ مردّدين شعارات موالية لإيران ومعادية للسّعوديّة ورافعين صور المقبور الخميني، وفي عام 1983 ادّعت إيران أنّ السّلطات السّعوديّة تتقاعس في مهامّ توفير أسباب الرّاحة للحجيج الإيرانيّين وضبطت الأجهزة الأمنيّة السّعوديّة وقتها لدى الحجيج الفرس أسلحة يدويّة وأخرى ناريّة ومناشير تبشّر بولاية الفقيه وتهاجم السّلطات السّعوديّة وتحرّض عليها تحريضا صريحا، وشهد العام 1985 أحداثا متشابهة حيث دسّ نظام ولاية الفقيه بين حجيج بيت الله الحرام أعوانه ومواطنيه ليروّجوا مناشير سياسية وتحريضيّة ضدّ السّعوديّة ونظّموا مسيرة ضخمة تتنافى وآداب الحجيج عادة قاموا خلالها بغلق الطّرقات وتعطيل حركة سير الحجيج وإحراق السّيارات والممتلكات وتعمّدوا الاشتباك مع القوّات السّعودّية ما أدّى لمقتل 85 سعوديّا و275 إيرانيّا وضٌبِط في هذه المسيرة عدد من عناصر الحرس الثّوريّ الإيرانيّ كما عثرت السّلطات السّعوديّة على أسلحة تقليديّة وأخرى خفيفة. وتواصلت سلسة مساعي إيران لإرباك السّير العامّ لموسم الحجّ سنة 1986 حيث وأثناء إجراءات التّفتيش الرّوتينيّة عثرت قوّات الأمن السّعوديّة على قرابة 50 كيلوغراما من الموادّ شديدة الانفجار كانت ضمن أمتعة الحجيج الإيرانيّين في حقائب بلغ عددها 95 حقيبة أعدّت لتنفيذ أعمال تخريبيّة وكذلك سجّلت أحداث مشابهة في العامين 1987 و1989، ليشكّل العام 1990 تاريخا فارقا في سجّل الاستهداف الإيرانيّ لموسم الحجّ حيث قامت عناصر من ما يسمى ب ( حزب الله الحجاز في الكويت) بالتّنسيق مع السّلطات الإيرانيّة باستخدام غاز سامّ في نفق المعيصم في مكّة المكرّمة ما خلّف استشهاد قرابة 1420 حاجّا وإصابة أعداد كبيرة بحالات من الاختناق والجروح كما خلقت تلك الحادثة حالة من الرّعب الحقيقيّ بين الحجيج. هذا وخلال السّنة الفارطة أي 2015، وقف الحجيج الإيرانيّون خلف حادث التّدافع الذي أدّى لوفاة 717 حاجّا وإصابة مئات آخرين.
إنّ هذا العرض السّريع لأبرز حوادث الاعتداءات الفارسيّة على حجّاج بيت الله الحرام، وتكرارها يدفعنا للجزم بأنّ التّدخّل في شؤون الحجّ هو سياسة فارسيّة ثابتة تنتهجها إيران بأشكال متعدّدة ولأهداف محدّدة تهدف لتحقيقها بالتّدرّج. فما هي وسائل هذا التدخّل في شؤون الحجّ وما هي غاياته؟
تتّخذ إيران من موسم الحجّ باعتباره شعيرة وركنا متينا ومهمّا من أركان الدين الإسلامي مطيّة لتنفيذ سلسلة من الاعتداءات على السّعوديّة باستغلال احتضانها للحجّ، وتقوم بدسّ عناصر وطلائع من الحرس الثّوريّ بين الحجيج بعد تقديمهم على أنّهم من حجاج بيت اللّه الحرام ويحقّ لهم كما يحقّ لغيرهم من عموم المسلمين أداء الرّكن الخامس من الإسلام، كما تجنّد طهران عددا لا بأس به من نغولها الموزّعين في الوطن العربيّ وبعض البلدان الإسلاميّة والمرتبطين بها روحيّا وعقائديّا وسياسيّا وتقوم بإعدادهم لمهمّات قذرة تتمثّل أساسا في تنفيذ أعمال تخريبيّة خلال أداء الحجاج شعائر الحجّ.
إنّ إيران لا تتورّع في المجاهرة بعدائها للعرب عموما وللسّعوديّة خصوصا، وتعمل باستمرار على إلحاق أكبر قدر ممكن من الأذى بهم، حيث وبعد ما آل إليه حال العرب بعد غزو العراق وتدميره، أخذت الفرس العزّة بالإثم واستباحوا حرمات العرب ومقدّساتهم.
قد يتساءل البعض عن أسباب حرص إيران وسياساتها المتأصّلة في التّدخّل في شؤون الحجّ وغاياتها من ذلك. وفي الحقيقة فإنّ الأسباب والغايات تتماهى هنا وتتشابك، ذلك أنّ إيران تعتبر السّعوديّة في الوقت الحالي أحد أكبر العوائق التي تحول دون بسط سيطرة الفرس التّامّة على بلاد العرب لما تمتلكه من ثقل سياسيّ واقتصاديّ وخاصّة روحيّ.
فالمعلوم أنّ للسّعودّية تأثير كبير من حيث الجانب الرّوحيّ على العرب والمسلمين رغم كلّ ما قد يكون لدى هؤلاء من ادعاءات ومؤاخذات على ساستها وتوجّهاتهم وقراراتهم أحيانا. وفي المقابل تطمح إيران لإحياء امبراطوريّتها وإلحاق كل بلاد ّ العرب بها وهو ما تنضح به تصريحات كبار ساستها وملاليها وجنرالاتها، وهو الأمر الذي يتطلّب ايجاد أقطارا عربيّة متهالكة مفتّتة ومتناحرة إثنيّا وطائفيّا وعرقيّا وغير ذلك.
وبالتّالي فإنّ حرص الفرس على استغلال موسم الحجّ وخلق مناخ مضطرب وجوّ مهزوز تؤثّثه سلسلة من الفوضى والتّوتّر ينطلق من محاولة إظهار السّعوديّة بمظهر العاجز عن تأمين موسم الحجّ وتوفير سلامة الحجيج، وهو ما يوجد التّبرير السّياسيّ والقانونيّ والفقهيّ للمطالبة بسحب البساط منها والدّعوة لإخضاع الحجّ لإشراف أمميّ كما دعى له الخميني ومن اعقبه من حكام وملالي قم وطهران .
ونلاحظ من هنا، كيف تدسّ إيران السّمّ في العسل، فهي ومن خلال دعوتها تلك تحاول إبراز حرصها على الحجيج ومن خلالهم على الإسلام، ولكنّها في الحقيقة تخطط لتجريد السّعوديّة من حقّها الطّبيعيّ والقانونيّ والسّياسي والتاريخي ّ في الإشراف إشرافا كاملا على موسم الحجّ، ويوفّر ذلك للفرس أوّل مظهر من مظاهر ضرب السّيادة الوطنيّة للسّعوديّة. هذا وتهدف إسرائيل الشّرقيّة من خلال تدخّلها في شؤون الحجّ لتسييسه وهو منفذ تعمد من خلاله لفتح الباب أمام جدل عقيم لا ينتهي حول من يشرف على الحجّ ومن يديره ولمن تؤول عوائده الماديّة لتجرد إيران بالتّالي السّعوديّة من مورد ماليّ مهمّ جدّا.
فإيران ومنذ سنوات، بادرت بشنّ هجمات تصاعديّة ضدّ السّعوديّة تراوحت ما بين الإعلاميّ والسّياسيّ وحتّى الدّينيّ في إطار الاتّفاقيّات السّريّة بين الفرس وحلفائهم الأمريكان والصّهاينة التي تقضي بخلق مناخ من الصّراع الطّائفيّ المفتوح في الوطن العربيّ لغايات لا تخفى على أحد.
لكن يبقى أهمّ مقصد من مقاصد الفرس للتّدخّل في موسم الحجّ قطعا هو ضرب الثّقل الرّوحيّ للسّعوديّة والذي أشرنا له انفا . حيث من شأن ذلك أن يسهّل كلّ المساعي والمقرّرات والخطط السّرّيّة التي تهدف لتقسيم السّعوديّة في إطار معاودة رسم خريطة الشّرق الأوسط الجديد أو الكبير الذي عبّرت عنه كوندوليزا رايس عام 2003.
فعلاوة على الحقد والثّأر اللّذين يطبعان سياسات الفرس تجاه العرب ومن ضمنهم السّعوديّة، تروم إيران من خلال تسييس الحجّ وتقويض مساراته، لتحلّ محلّ السّعوديّة وتبسط سيطرة روحيّة على العالم الإسلاميّ، وهو ما تحدّث به الخميني على متن طائرته التي أعادته لطهران إبّان استيلائه على ثورة الشّعوب الإيرانيّة حيث قال:
" على العالم الإسلاميّ أن يعترف اليوم بسيطرة الفرس وقيادتهم وحمايتهم للإسلام، فلقد انتهى العصر العربيّ والعصر الكردّي والعصر التّركيّ كقادة لمسيرة المسلمين، وجاء دورنا ".
نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام