تطالعنا بين الفينة والأخرى بعض الأقلام بطلعات هي للفرقعات أقرب منها لأي شيئ سواها وبحجج كثيرة وتبريرات أكثر؛ تحاول الطعن في أحد أهم مقومات الشخصية العربية إن لم يكن أكثرها محورية على الإطلاق ألا وهو الإيمان.
إنه لا يستوي التطرق للعروبة والقومية العربية بتعبير أدق أو الخوض فيها مع تزامن ذلك بمحاولة انتزاع صفتها الإيمانية أو مجرد التشكيك فيها ومحاولة زعزعتها. فما معنى العروبة إن جردتها شطحات هذا ونزوات ذاك من عرب اللسان من الطابع الإيماني المتجذر فيها بدون مواربة ولا شك.؟
لا يختلف عاقلان حول أن الفضاء العربي شكل الإطار المكاني لنزول الرسالات السماوية كافة وكذلك مهبط جميع الأنبياء والمرسلين للناس هداة ومصلحين وثوارا حقيقيين كانوا أعظم دعاة الرقي بالإنسان وتطويره وتنظيم حياته في كافة جوانبها ناهيك عن عزمهم الدؤوب لصقل الروح وترويض النفس وإقامة المجتمع الفاضل والعادل والمنظم بعيدا عن الاستعلاء والاستغلال والقهر والاستعباد والاضطهاد؛ بل إن الفضاء العربي كان منطلق التشاريع الوضعية حيث شكلت شرائع حمورابي مثلا أولى التشريعات في التاريخ كله؛ وإن المجال ليضيق هنا كما لا يضيق في غيره من المجالات لتعداد شواهد تأصل الزخم والوهج الإيماني في تاريخ العرب. وعليه فإن مساعي بعضهم لضرب الثابت الإيماني عند العرب لا يمكن فهمهما إلا انطلاقا من أن هؤلاء لم يتشبعوا كما يجب بمعاني الانتماء لهذه الأمة المؤمنة بطبعها وقد يكون ذلك مردودا في بعض جوانبه لما يرسف تحته هؤلاء من تداعيات قتامة المشهد العربي فتكون دعواتهم هنا مجرد رد فعل عكسي معبر عن معاناتهم النفسية وهزائمهم الوجدانية والفكرية وعجزهم عن امتصاص ما قد يعصف بهم من صدمات؛ أو أنهم مدسوسون مدربون من طرف أعداء الأمة ومكلفون بإشاعة مناخ من الضعف والشك والإرباك ومن ثمة الارتباك وترويج آفات اليأس والقعود والعجز لتكبيل السواعد وتقييد الأقلام وخنق الأصوات الحرة المقاومة الثائرة والمؤمنة؛ عسى ذلك يضاعف من نسب فلاح مخططات الأعداء بسرعة أكبر.
إنه ومهما تكن الأصناف والخلفيات التي تحوم حول أصحاب هذا النهج الذي يعمد للطعن بالسحنة الإيمانية للعروبة؛ ومهما تكن الصفات والشهائد والمؤهلات التي يحملها هؤلاء؛ فإن ذلك كله لا يمنح طرحهم أدنى التزكية لا من حيث المضمون ولا من حيث تفاعل جماهير العروبة وأمة العرب. فالعرب لا يمكنهم خصوصا التغافل أو التنكر لما وهبهم إياهم الإسلام من فرص خلاقة وأطر إبداعية فجروا من خلالها طاقاتهم في كل الاتجاهات والمشارب والميادين؛ بل لقد أدرك العرب مبكرا فضل الإسلام عليهم ودوره الريادي في تجميعهم في أمة واحدة متراصة لم يستبعد فيها أي عنصر نشيط بصرف النظر عن ديانته أو لونه أو جنسه كما يسجل العرب باعتزاز شديد أنهم بلغوا أعلى درجات سلم المجد بفضل الإسلام ذلك المحمل الروحي الثوري الانقلابي المتسامي بعيدا عن حصره الفج في دائرة الطقوس المفروضة وهي المسألة الخطيرة التي يتعمد دعاة الفصل المسقط الممجوج بين العروبة والإسلام والمساعي الخبيثة لاختلاق تضاد وتصارع وهمي غير علمي ولا عملي بل وساقط بحكم الوقائع التاريخية التركيز عليها بإطناب؛ فما أكثر مثلا الإخوة المسيحيين العرب الذين شدووا دوما على ارتباطهم الروحي بالثقافة الإسلامية ارتباطا صارما لا مخاتلة فيه ولا جدال؛ ورفضوا إغراءات كثيرة حاول أعداء العروبة والإسلام استمالتهم بواسطتها شريطة التنكر لعروبتهم وللحضارة الإسلامية؛ بل ما أكثر من قاد منهم نضال الجماهير من المساجد!!
قد يتذرع أغلب الكتاب والمفكرين العرب ممن يروجون لهذه الرؤية التي تنكر إيمانية العروبة بحالة الضعف والوهن الذي يطبق بالأمة؛ وهنا يتوجب علينا دحض هذا الادعاء باعتباره أحد المخططات التي اعتمدها أعداء الأمة وخصوصا الاستعمار للنيل من العرب ومخزونهم الإيماني وهو ما لا يتورع هؤلاء على المجاهرة به؛ كما يتبادر لأذهاننا سؤال مؤكد مفاده " لماذا يحرص هؤلاء المفكرون على تجاهل ريادة العرب المسلمين وقيادتهم للإنسانية لقرون متواصلة؟ وما غرضهم بالتالي من إلصاق تهمة التخلف والضلوع فيه بالإسلام أو الإيمان ( وعادة ما يستخدمون الإيمان للتعمية عن المقصود الحقيقي وهو الإسلام ) رغم أنه كان محرارا ومولدا مهما من مولدات النجاح ومعانقة العظمة في أبهى حللها؟
ثم أوليس من أوكد مهام المفكر أن يشكل نبراسا للجماهير يهديها لسبيل الفلاح والرشاد؟ أليس من دوره تنوير شعبه وأمته تنويرا حقيقيا بعيدا عن الفنطازيا والاستعراض والتعالي والغرور؟
بلى؛ من واجب المثقف عموما التصدي للتراسبات والمواريث البالية والعادات المتخلفة؛ ووضع بدائل وتأسيس حلول جدية لها؛ لكن هل يبيح هذا أو هل يسوغ له أن ينسف كل الإرث الفكري والحضاري والأخلاقي والقيمي والعقائدي؟ وهل الإيمان بما يشكله من مطلب إنساني ملح باعتباره رافدا نوعيا من روافد تحقيق التوازن والاستقرار النفسي والسكينة الروحية للإنسان؛ وخاصة ما له من مكانة تمفصلية في الوجدان العربي؛ هل يمكن واقعا اجتثاثه وإزاحته؟ وهل حقا يعتقد بعض مفكرينا أن الأمر بهذه الميكانيكية واليسر؟؟ هل درسوا التركيبة النفسية والذهنية للمواطن العربي وهل وقفوا على مدى استعداده الفطري أو الطبيعي لتقبل الإيمان؟
إن العروبة والإيمان صنوان لا ينفصمان؛ يكمل كل واحد منهما الآخر؛ ويتراجع هذا بتراجع ذاك؛ والعكس صحيح. وما الهجمة الهوجاء التي يشنها أعداء العروبة والمتربصين بها شرا ضد الإسلام؛ وضد العرب بالشكل الذي يقصد هؤلاء الأعداء بالواحد منهما الآخر؛ إلا تأكيد لتلازمية العروبة والإيمان أو العروبة والإسلام بشكل أدق؛ مع التأكيد على أن المراد بالإسلام هو كما أسلفنا الإسلام الثوري الحضاري المعادي لكل نزعات التجبر والإقصاء والظلم والعدوان؛ ذلك الإسلام المؤسس لعالم متراحم تتنافس فيه الأمم من أجل الخير واطراد التقدم والازدهار؛ لا ذلك الذي تشكله الامبرياليات المتنوعة في مخابر مخابراتها بشكل مسيئ مهين ثم تفرضه علينا فرضا ساديا لنتحمل جريرته حصرا ظلما وعدوانا؛ للحد الذي أجاز بعض مثقفينا ومفكرينا لأنفسهم التبرؤ من الإيمان - الإسلام وتخلوا بالتالي عن انتظارات الأمة ورهاناتها عليهم.
هذا؛ وليس من أيسر من البرهنة على متانة العلاقة الجدلية بين العروبة والإيمان؛ وهو ما لن يفلح التوظيف السياسي للدين في الوطن العربي ولا حتى الصراعات الطائفية في تفنيده ولن تنجح في المس من بديهية إيمانية العروبة؛ بل إن نضال العروبة في سبيل رقيها واستعادة سالف ألقها لن يبلغ مداه ولن يرى النور إن بتر منه جناحي الإيمان بالحق والإيمان بالذات والإيمان بالله.
أنيس الهمامي
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثقافة والإعلام
تونس في 18-09-2016